خاص: بقلم- د. مالك خوري:
لن أتكلم اليوم عن ذكرى ثورة عام 1952، بل سأتكلم عن ثورة جرى نحرها من الوريد إلى الوريد مع موت قائدها ورمزها، وثورة ما زالت تؤرق أعداءها بعد عقودٍ طويلة من إزالة شواهد معظم ما حققته للشعب المصري ولكل شعوب العالم العربي.
لقد اهتزت الأرض بالفعل يوم مات “ناصر”.
يوم ماتت ثورة (تموز) يوليو أنا لم أكن ناصريًا. ببساطة، كنت يومها فتى يافعًا يتلمس طريقه في السياسة والحياة. وكنت حينها قد بدأت اعتبر نفسي ماركسيًا، وذلك مع أنني لم أكن أفهم بعد الكثير من الأبعاد العميقة والواسعة والمركبة لهذا الخيار الذي طبع فيما بعد حياتي وعملي وأخلاقياتي، وما زال يطبعها حتى الْيَوْمَ.
يوم مات “ناصر” اهتز العالم، واهتز عالمي الشخصي بأكمله.
ضمن عائلتي، أمي كانت دومًا المدافعة الشرسة عن “عبدالناصر” وعن نهجه، بينما كان والدي أكثر قربًا إلى البعثيين واتجاههم القومي. أختي كانت بدورها تعشق “ناصر”، بينما كان أخي الأكبر شيوعيًا.
يوم مات “ناصر”، كان كل هؤلاء يشّهقون بالبكاء.
يوم مات “ناصر” اهتز عالمنا بالفعل، حيُث شعرت بحاجة ماسّة لأكون جزءًا من نبض ما كان يحدث حولنا. فنزلت إلى شوارع مدينتي “صيدا” التي كانت قد أتشّحت بالسواد وأمتلأت أزقتها بالوجوه الحزينة، الغاضبة، اليائسة، والهائمة على نفسها. وبالرُغم من هذا الحزن “الكوني” الذي كان يلف كل شيء حوليّ، استطعت أيضًا أن أجد في هذه الشوارع ملاذًا وملجأ أستطيع فيه أن أبكي بحرية، وكأني أصلي جماعة وأنا أصرخ جريحًا: “ناصر، ناصر، ناصر، ناصر…”.
يومها كانت هذه الشوارع مدخلي “الصوفي” لدخول باحة الروح الإلهية المتجسُّدة بالوجدان الجماعي الصادق لأمة ثكلى بغياب موجع وغير مسّبوق.
يوم مات “ناصر”، نسّيت إنني ماركسي، أو هكذا أحسّست، حتى رأيت رفاقًا كنت أسمعهم ينتقدون “ناصر” بشراسة، يطبطبون على كتفي وعيونهم قد أغرقتها الدموع.
نعم، يومها نسّيت أنني ماركسي، أو ربما كنت قد بدأت باستيعاب الآفاق التي ستمكنني من إكمال رحلتي نحو الماركسية الرحبة والأكثر انفتاحًا تجاه المكامن الثورية في كل نضال وجهد يهدف لتحرير البشرية والإنسان من الظلم والاستعباد والقهر والجهل واللامساواة.
في ذكرى (تموز) يوليو، ما يُذهلني اليوم يا “ناصر” هو قدرتك، وبعد عقود طويلة من غيابك، على البقاء في ضميرنا وذاكرتنا، نحن من نشأنا وعشّنا معك في سياق سنوات محدودة نسّبيًا من حياتنا.
فكيف تبقى بهذا الشموخ في وجداننا، نحن الذين تجرعنا كؤوس النصر والهزيمة والإنجازات والإخفاقات، من دون أن نفقد إيماننا بأهداف رحلة التغييّر التي حولتّها إلى حقيقة فائقة الجمال وحُلم صعب المنال في آنٍ واحد ؟!
هل لأننا عرفنا من خلالك معنى لتعبير “حب الوطن” ؟ هل لأننا عرفنا معك أن الإنحياز للفقير والكادح والمهمش هو فعل إيمان، وأن الإيمان لا يعني شيئًا من غير الفعل ؟ هل لأننا أدركنا وإياك أن الهزيمة الحقيقية هي هزيمة الإرادة والنفس ؟ هل لأننا أستوعبنا معك أن الوطن أكبر وأحلى وأسّمى وأقرب إلى الله من اَي طائفة ؟ هل لأننا بدأنا نستوعب معك، ومن خلال ممارسّتك، أن تحقيق كرامة الإنسان في عوالمنا “الثالثة” التي ما زالت تُهيمن عليها سّطوة عالم رأس المال العالمي المتوحش لا تأتي منحة… بل أنها لا تتحقق إلا بالقوة ومن خلال فرض احترام هذه الكرامة على من يريدون لنا أن نبقى مكبُّلين في عقد النقص والدونية والتسكع والتبعية؟
ألكل هذا تبقى 23 (تموز) يوليو… ذكرى بهجة … وألم ؟
ربما !
ما أنا على يقين منه، هو إنه حين مات “ناصر”، ماتت معه قدرة الغالبية العظمى من شعوبنا العربية على أن تحلم بصدقٍ وبشغف وبعفوية ! ونرى هذه الغالبية اليوم تسّتعيض عن أحلامها باستجداء كوابيس ومطامع غيرها، وكوابيس من لا يمت بصلة لا للإنسانية ولا لأحلامها الرحبة والسعيدة.
مات “ناصر”، وأصبحنا نُحب ونضحك ونبكي ونحُلم ونتكلم سياسة ونحنُ غرقى في غربة موحشة… غربة تقض مضاجعنا سواء كنا نعيشها على أرض أوطاننا المشّتتة والمسُّتباحة، أو خارجها !