خاص : كتبت – هانم التمساح :
لازال في جعبة المتحجين العراقيين الكثير من ما يمكنهم تقديمه من أجل إنجاح انتفاضتهم ضد الفساد وتراجع هوية “العراق” في مقابل التغول السياسي والاقتصادي، بل والديني، لـ”إيران” داخل المجتمع والدول العراقية.. فبعد أن جاد المتظاهرون بدمائهم؛ لجأوا لمواجهة النفوذ الإيراني، في السياسة كما في التجارة، خاصة وأنهم يعتبرونها المجرم الرئيس بحقهم وأن الساسة المفسدون ما هم إلا عرائس تحركهم أصابع ايرانية.. مؤخرًا يلجأ العراقيون إلى سلاح مقاطعة واردات البلد الجار وبضائعه في أسواقهم، رافعين شعار “خليها تخيس”.
خليها تخيس..
وأطلق العراقيون، مؤخرًا؛ حملة على وسائل التواصل الاجتماعي بهاشتاغ: (#خليها_تخيس)، (يصيبها العفن)، داعين الجميع إلى مقاطعة المنتجات الإيرانية، من ألبان وأجبان ومشروبات ومعلبات غذائية وغيرها، والتي عادة ما تكون حاضرة بشكل شبه يومي على الموائد العراقية.
ويعتمد “العراق”، الذي يُشكل “النفط” المصدر الوحيد لميزانيته، بشكل شبه كلي على “طهران” في مشتقات الطاقة وغيرها من المواد الأساسية. وتحتل “طهران” المرتبة الثانية، بعد “أنقرة”، من حيث التبادلات التجارية مع “العراق”، إذ تبلغ اليوم نحو 9 مليارات دولار، أقل من 10 في المئة منها هي قيمة صادرات “بغداد” إلى “طهران”، وفق أرقام رسمية.
لهذا؛ يرى المتظاهرون العراقيون الذين يحتلون الشوارع، منذ الأول من تشرين أول/أكتوبر الماضي، أن العودة إلى “صنع في العراق”؛ ضربة كبيرة للجارة. وتقويضًا لنفوذها الداعم لقتل المتظاهرين.
دعم المنتج الوطني العراقي..
يقول أحد المتظاهرين؛ وهو طالب ماجستير في جامعة “بغداد”، إن: “ما نقوم به هو ثورة ضد كل الخطأ الذي تربينا عليه (…) كنا نعتقد أن المنتج الإيراني ذو سعر رخيص وأعلى جودة. لكن الثورة أسهمت في وعينا اليوم”. ويضيف؛ لوكالة الصحافة الفرنسية: “علينا مقاطعة كل المنتجات غير العراقية (…) لدعم المنتج الوطني. أقلها أن نوفر فرص عمل للعراقيين وإبقاء المال داخل البلاد”.
وتقول إحدى المتظاهرات؛ إن حملة المقاطعة “كانت لصالح الشعب، لأن الحكومة كانت تحرص على إضعافنا”. وتضيف: “احتجنا في هذه الثورة إلى أن ننهض نهضة قوية من كل النواحي، وحتى من ناحية التجارة. وبالتالي أتت المقاطعة لصالحنا”.
وإمتدت الحملة، التي بدأت من “بغداد”، إلى محافظات البلاد الجنوبية التي لها أيضًا حصة كبيرة من الاحتجاجات المناهضة للنظام و”إيران” داعمته، والتي أسفرت حتى اليوم عن مقتل نحو 460 شخصًا وإصابة 25 ألفًا بجروح.
وفي مدينة “كربلاء”، يراقب مدير الإنتاج العمال في أحد المصانع وهم يعلبون الأجبان والألبان ويضعون عليها خاتم، “صنع في العراق”. ويقول: “الحقيقة أنه بعد المظاهرات ضد الفساد، زاد إنتاج مصنعنا بـ 5 أضعاف”. ويشير إلى أن المعمل ينتج حاليًا 40 طنًا يوميًا، وأن إقبال الناس زاد لأنهم اكتشفوا “نوعية أحسن وعمرًا أطول وسعرًا أرخص”.
ويقول باحث في “معهد الدراسات الإقليمية والدولية” في “السليمانية”، بشمال العراق: “نحن كبلد نستورد كل شيء تقريبًا. لدينا إنتاج محلي، ولكنه إما صناعات صغيرة، أو غير مربحة”. ويضيف: “مشكلتنا أن ليس لدينا قطاعنا الخاص لتلبية احتياجاتنا الأساسية التي تبدأ من المواد الغذائية وصعودًا”.
وإذا كانت الحملة قد بدأت ضد “إيران” خصوصًا، فإنها صارت عنوانًا عريضًا لدعم المنتج العراقي في وجه أي مواد مستوردة أخرى، ومن أي دولة. وتقول امرأة داخل أحد المتاجر في “بغداد”: “دائمًا أبحث عن المنتج العراقي وأفضله. المفروض أن نشجعه في هذه الأيام لتعزيز إنتاجنا”. وداخل مركز تسوق آخر، يقول أحد الزبائن إن: “الأسعار كانت أغلى من قبل. الآن نصف القيمة، جيدة ومناسبة. أشياء لا تزيد على الألف دينار مثلاً”. وتعتبر المرأة نفسها أن: “المشكلة ليست في البلد الذي نستورد منه. المسألة هي تشجيع الإنتاج الوطني”.
خروج العُملة الصعبة مقابل استيراد بضائع وهمية..
ولازال ملف الفساد في مزاد العُملة يلقي بظلاله على المشهد الاقتصادي والسياسي أيضًا لإرتباط المصارف التي تستحوذ على المزاد، بجهات سياسية تمول من خلاله أحزابها وتعود عليها بالربح المالي الوفير على حساب اقتصاد البلد؛ طالما أن قانون “البنك المركزي العراقي” – الذي صُدر أثناء وجود “بول بريمر” في دفة الحكم – رقم 56 لسنة 2004؛ يسمح بالبيع للعُملة الصعبة لكل من طلبها دون قيود وشروط.
ويُعد مزاد العُملة شكلاً جديدًا من أشكال الفساد الاقتصادي المرتبط بعملية غسيل الأموال في البلاد وخروج العُملة الصعبة من “العراق”.
ويقول خبير اقتصادي أن: “المزاد، الذي تم تأسيسه في العام 2004، أنشيء بهدف عدم حصول احتكار للدولار من جهة ولشراء الدينار العراقي لتغطية الموازنة ومنع التضخم من جهة أخرى؛ وكانت أداة لضبط سعر الصرف، إلا أن فرق القيمة بين البيع النقدي والحوالات شكل هامش ربح للمصارف المشتركة في المزاد وعدد محدود من الشركات ما أدى إلى تهريب كميات كبيرة من الدولارات”.
وأكد أن: “المزاد أصبح ممرًا للربح بدلًا من الصيرفة الحقيقية ولخروج الدولار بأذونات استيراد لا تستورد شيئًا ولا يجري التدقيق حول السلع المشتراة مقابل هذه التحويلات؛ مما شكل ممرًا للفاسدين لإخراج أموالهم خارج البلاد بطريقة قانونية وعدم إعتماد الإعتمادات المستندية المتبعة في العالم لتغطية الصفقات التجارية، وحيث لاتزال المصارف لحد الآن، وشركات الصيرفة، تتقاسم مغانم المزاد من خلال تحويل العُملة إلى الخارج بدون حاجة استيرادية وبعناوين شتى ما أدى إلى ضياع عشرات المليارات سنويًا من العُملة الأجنبية المهربة.
موازنة مخيفة بسبب الفساد..
يواجه “العراق” صعوبة في تسديد الفاتورة السنوية لتمويل مؤسساته الحكومية المتخمة بالبطالة المُقنّعة وتعيينات الخريجين الجدد – وفق تقاسمات سياسية – بغاية إحتواء الغضب الشعبي على الفشل الحكومي والغرق بالفساد واستنزاف الموارد بشكل متصاعد.
وقد أقرّ “مجلس النواب” العراقي الموازنة العامة، بعد خلافات عميقة بين الأحزاب المُشكلة للنظام بشأن استثمار التخصيصات سياسيًا لدعم خطط التوظيف، وحصص الوزارات، والمدن المُدمرة، والمحافظات غير المنتظمة بإقليم.
وتبلغ موازنة العام 2019، نحو 112 مليار دولار، بعجز يصل إلى 23 مليار دولار، يتم تسديده من قروض أجنبية، (18 قرضًا)، وديون داخلية مُدوّرة، (لخمس جهات محلية)، مستحقة الدفع أو مؤجلة بفوائد، إضافة إلى برنامج “السندات الوطنية”، والاستمرار بـ”الإقتراض” بضمانة “مؤسسة الصادرات الدولية” لشراء الأسلحة (بضمنها تلك القمعية) والدعم اللوجيستي لوزارتي “الدفاع” و”الداخلية” و”الحشد الشعبي” و”جهاز مكافحة الإرهاب”؛ وكل ذلك يكلف نحو 906 مليون دولار.
ضاعفت موازنة 2019؛ من الاستنزاف المالي للدولة العراقية عما كانت عليه في العام 2018، إذ كان العجز المالي، آنذاك، 11 مليار دولار.