وكالات – كتابات :
ستنتشر قريبًا لعبة فيديو قتالية، تحمل عنوان: (ستة أيام في الفلوجة)، تُعد محاكاة لأكثر المعارك دموية؛ التي خاضها الجيش الأميركي في تاريخه، وفق إعلان هذه اللعبة، التي نشرتها شركتان عملتا على تطوير وإنتاج اللعبة، وهما: “فكتورا” و”هايوير” للألعاب.
فبعد بضعة أيام على ذكرى مرور 18عامًا على الغزو الأميركي لـ”العراق”، في عام 2003، سيضع المطورون أنفسهم مكان أحد مقاتلي (المارينز) الأميركيين، حيث يجد مشاهد اللعبة نفسه وهو يقتحم منازل العراقيين الأبرياء في السعي لتطهير “الفلوجة” من المسلحين، في “معركة الفلوجة الثانية”.
عملية غضب السراب..
وتُعرف هذه المعركة أيضًا: بـ”عملية غضب السراب”، وهو هجوم على المدينة، وقع في نهاية عام 2004، أي بعد نحو عامين على خطاب الرئيس، “جورج بوش الأبن”، الذي أعلن فيه أن: “المهمة قد أنجزت”، وهو الأمر الذي يُعتبر الآن مثيرًا للجدل في أفضل الأحوال، وجريمة حرب في أسوئها.
وأدت “معركة الفلوجة الثانية”؛ إلى مقتل نحو 800 مدني عراقي، ونحو 100 جندي عراقي، وبريطاني. وكانت هذه المعركة، والحرب برمتها في واقع الأمر، لحظة مؤلمة وصادمة في التاريخ، لاتزال تُشكل جرحًا لم يتوقف نزفه حتى الآن في حياة الكثير من العراقيين. وبعد أن كان “العراق” دولة مزدهرة، أصبح الآن في حالة إنهيار اقتصادي، في حين أن بنيته التحتية شبه مدمرة، إضافة إلى العدد الكبير من القتلى المدنيين.
وفي الواقع؛ فإن استغلال مثل هذه المآسي الإنسانية من أجل اللعب والتسلية، مسألة مدانة أخلاقيًا، كما أن الفرصة التي يمكن أن تسنح للمرء للعب دور الجنود الأميركيين في “الفلوجة”، وهم يرتكبون جرائم افتراضية، يمكن أن تُزيد في تفاقم الصدمة التي لايزال يعانيها العراقيون حول العالم، وبناءً عليه يجب عدم نشر هذه اللعبة.
المقصود ليس اللعب فقط..
ومن المستحيل إعادة سرد قصة “معركة الفلوجة”، دون التطرق إلى سياق الأعمال الوحشية التي ارتكبت خلالها، خصوصًا بعد أن اعترفت الشركتان المطورتان للعبة، في مؤتمر صحافي؛ بأن: “الأحداث التي وقعت خلال ستة أيام في الفلوجة، لا يمكن فصلها عن السياسة”، (وجاء ذلك بعد ردة الفعل العنيفة التي تلت إعلانهما الأولي الذي قالتا فيه إنهما لا تنويان التطرق إلى السياسة من خلال اللعبة)، وعلى الرغم من اعترافهما السطحي بالطبيعة السياسية للعبة، إلا أن الشركتين فشلتا في فهم التداعيات الناجمة عن إعادة تشكيل الأحداث التي وقعت في “الفلوجة”، من أجل غرض التسلية. وباختصار يمكن القول إن هذه اللعبة ليس المقصود بها اللعب فقط.
واعترفت الشركة، التي حاولت إنتاج لعبة: (ستة أيام في الفلوجة)، في مرحلة سابقة، بأنها تنطوي على الكثير من الأخطاء، وتوقفت عن إنتاجها، منذ نحو عقد من الزمن، بعد انتشار انتقادات واسعة من محاربين قدامى في “العراق”، وسياسيين، وشركات إنتاج الألعاب.
ولكن مصمم اللعبة، “بيتر تاميت”، لم يتخلّ عن الفكرة. وقامت الشركتان المطورتان الجديدتان بقيادة، “تاميت”، بتغيير هذه الفترة من التاريخ إلى محاكاة، وتجميل العدوان العسكري الأميركي، وتحويله إلى أعمال: “تضحية وبطولة”. ولذلك ليس من المستغرب أنه لم تُشارك في هذه اللعب أي شركة عراقية، كما أن المطورين لهذه اللعبة أجروا مقابلات مع 26 مدنيًا عراقيًا.
استدعاء الوحشية والتسلي بمآسي العراقيين..
وفي غضون أيام من إصدار إعلان اللعبة، وقع نحو 16 ألف شخص، معظمهم من العراقيين، على عريضة يدعون فيها إلى إلغائها. وليست هناك حاجة إلى التفكير مليًا لمعرفة سبب انزعاج العراقيين من هذه اللعبة.
وفي أحد المشاهد التي ظهرت في الدعاية لهذه اللعبة؛ تظهر عائلة عراقية مسالمة جالسة في غرفة معتمة وأفرادها يصرخون خوفًا من جنود (المارينز) المدججين بالسلاح.
يقول “أحمد تويغ”، محلل مستقل في شؤون الشرق الأوسط ومستشار في منظمة (سند) العراقية غير الحكومية من أجل السلام، ومحرر التقرير في مجلة (فورين بوليسي): “وباعتباري بريطانيًا من أصل عراقي، تذكرت في الحال الرعب الذي كابدته عائلتي، التي عاشت في حالة من الرعب المتواصل بالنظر إلى تعرض منزلنا للاقتحام بصورة مستمرة من الجيش الأميركي”.
وقتل العديد من العراقيين؛ جراء هذه الاقتحامات، واعترف أحد مقاتلي (المارينز) السابقين، بالقول: “كنت ضابط مدفعية وأطلقنا مئات القذائف في الفلوجة، وقتلنا مئات المدنيين”، وقال العسكري المتقاعد من (المارينز)، الذي شارك في “معركة الفلوجة الأولى”، “داناكن هانتر”: “لقد قتلنا نساء وأطفالاً”.
وحاول مطورو اللعبة تبرير تركيزهم على محاربي (المارينز)، الذين ارتكبوا هذه الفظائع، إلا أنهم فشلوا في ذلك. وقال “تاميت”، الذي أصبح الآن المدير التنفيذي لشركة “فكتورا”: “قلة من العراقيين لديهم الفضول لمعرفة كيف كان حال المدنيين العراقيين”.
ويقول البيان الصحافي للعبة؛ إنه مسموح لك في مهمة واحدة أن تلعب دور والد عراقي أعزل، يحاول إخراج عائلته من المدينة. ولكن الأمر الذي لم يذكره البيان هو أن الجيش الأميركي كان يحاصر كل هؤلاء الآباء داخل المدينة.
وقبل العملية؛ تم إسقاط منشورات فوق المدينة تطلب من النساء والأطفال فقط المغادرة. ولهذا كان محظورًا على الرجال الخروج من المدينة منذ البداية، وفق ما ذكره مراسل وكالة (أسوشييتد برس) الإخبارية، الذي قال: “كان مطلوبًا من الجنود الأميركيين عدم السماح بمغادرة الرجال؛ ممن هم بين سن: 15 و55 عامًا، للمدينة، إذ كان يعتقد أن العديد من رجال الفلوجة هم من المقاتلين”.
إعادة إنتاج لتاريخ قذر..
وكانت السقطات التاريخية بهدف جعل هذه اللعبة مستساغة للجمهور الغربي بشكل لافت. وكانت “معركة الفلوجة الأولى” تعُج بالأحداث العنيفة والمأساوية، واتسمت بسمعة سيئة، نظرًا لاستخدام الجيش الأميركي (الفوسفور الأبيض)، وهو مادة كيماوية تحترق بسرعة لدى اتصالها بالهواء وتُحرق جسم الإنسان ولا تُبقي منه سوى العظام.
ولم تعترف القوات الأميركية باستخدام هذا السلاح، إلا بعد مرور عام كامل من الإنكار المتواصل لاستخدام هذه المادة المُحرمة. وقال “تاميت”: “لا أعتقد أننا بحاجة لعرض الأحداث الوحشية”؛ الى أيامنا هذه. ولكن الأطفال الذين نجوا من هذه المعركة لايزالون يعانون تأثير هذه الأسلحة الحارقة حتى الآن.
ويعتقد البعض أن استخدام (الفوسفور الأبيض)، في “الفلوجة”، يُعتبر جريمة حرب، بمن فيهم مجموعات حقوق الإنسان والعائلات العراقية التي مثلتها، “مجموعة محامي المصلحة العامة”، التي توقفت عن العمل الآن، والتي حاولت مقاضاة الجيش البريطاني لدوره في المعركة، ولكنها فشلت.
وهم يرون أن استخدام الأسلحة الحارقة لاستهداف البشر يُعارض بروتوكول، عام 1980، لمنع استخدام الأسلحة النارية، إضافة إلى معاهدة عدم استخدام الأسلحة الكيماوية. واضطر (البنتاغون)، تحت ضغط الأسئلة الموجهة له؛ الاعتراف بأنه: “كان من الممكن أن يكون العديد من المدنيين قد لقوا حتفهم نتيجة استخدام (الفوسفور الأبيض) في معركة الفلوجة”.
وانتقد الجندي الأميركي المخضرم، “جون فيبيس”، الذي شارك في معارك تصورها اللعبة: (لعبة ستة أيام في الفلوجة)، العمل، قائلاً: “ارتكب الجنود الأميركيون العديد من جرائم الحرب في هذه المعركة، كما أن العديد من المدنيين العراقيين الذين قُتلوا ما كان يجب أن يُقتلوا. وكان بالإمكان تجنب قتلهم بسهولة، لأن موتهم لم يكن له أي معنى أو مبرر”، وأضاف “فيبيس”، مستذكرًا تجاربه في تلك المعارك: “لقد كانت هذه الحرب غير شرعية من الأساس. وكان من المفروض عدم ذهابنا إلى ذلك البلد. لقد تم ارتكاب الكثير من الأعمال الوحشية البشعة، خصوصًا في الفلوجة”.
تحول قتل العراقيين إلى “لعبة” !
ويدرك الذين شاركوا في هذه الحرب، أكثر من الجميع، أن اللعبة عادة تعكس ما حدث في الواقع. وقبل بدء المعركة، لعب بعض الجنود الأميركيين ألعاب فيديو قتالية لتحضير أنفسهم للحرب.
وتحول قتل العراقيين إلى لعبة فيديو، حيث بات الجنود الأميركيون، خصوصًا القناصين يُحققون النقاط كلما إزداد عدد العراقيين الذين قتلوهم، حيث كانوا يفخرون بعدد القتلى الذين يتأكد موتهم. وتم إطلاق ألقاب: “أبطال المعركة”؛ على الأشخاص الذين قتلوا أعدادًا كبيرة جدًا من العراقيين.
وحتى قيادة الجيش كانت تشجع على ممارسة استخدام ألعاب الفيديو؛ لتحسين مهارات الجنود في القتال. وكان “تاميت” نفسه؛ قد طور، في وقت سابق، مثل هذه الأنظمة المخصصة للتدريب خصيصًا للجيش الأميركي.
طمس الحقائق..
تهدف لعبة: (ستة أيام في الفلوجة)، التي تم تصميمها لتقدم محاكاة عن المعركة، في الحقيقة، إلى طمس الخطوط بين ما هو افتراضي وما هو حقيقي، خصوصًا أن الحرب الحديثة يتم تنفيذها بطريقة سهلة مشابهة لألعاب الفيديو من خلال برامج طائرات (درون)، طائرة بدون طيار. ويستطيع طيارو الجيش الأميركي التحكم بالغارات في منطقة الشرق الأوسط، وهم في وضع مريح جدًا في مدنهم في “الولايات المتحدة”، حيث يسقطون القنابل في شتى أنحاء العالم بالسهولة ذاتها التي يؤدون بها ألعاب الفيديو، دون مشاهدة ما سيترتب من آثار مدمرة لهذه الغارات.
وعلى الرغم من أن غارات الـ (درون) الأميركية فشلت في “معركة الفلوجة”، إلا أن هذه التقنية برزت بصورة كبيرة خلال إدارة الرئيس السابق، “باراك أوباما”، عندما استخدمها لضرب كل من: “باكستان، وأفغانستان، والعراق”، ويتم التحكم فيها من ولاية “نيفادا” الأميركية. وبالطبع، فإنها تُزيد من تجريد المدنيين من إنسانيتهم.
وقال أحد مشغلي (الدرون): “تشغيل هذا النوع من الطائرات مثل اللعب بألعاب الفيديو”.
وفي نهاية المطاف، وبعد التقدم عبر شوارع “الفلوجة”، التي تعُج بركام المنازل المدمرة، سيتمكن اللاعبون من وضع أجهزة التحكم باللعبة جانبًا، ومن ثم يقبّلون أحباءهم قبل أن يخلدوا إلى نوم عميق.
وبالنسبة للعراقيين، فإنهم يستحقون أفضل من تحويل عذاباتهم إلى حكايات لتسلية الغربيين، إذ إن حياتهم ليست لعبة فيديو.