ترجمات : كتابات – بغداد :
لم تقتصر معاناة “العراق” على تأزمة السياسي والاقتصادي الذي أخره من مصاف كبرى الدول في المنطقة إلى ذيل الدول في العالم، بل كل تفاصيل واقع “بلاد الرافدين” الحالي يؤكد على أن مآسيها وصلت إلى حال استلاب مواردها الطبيعية وتآكل ثرواتها الزراعية التي أشتهرت بها عبر قرون غابرة، حيث سلطت صحيفة (ميدل إيست آي) البريطانية، في تقرير لها، الضوء على واحد من أهم مصادر الدخل لسكان المناطق الجنوبية، وتحديدًا محافظة “البصرة”، خلال العقود الماضية، لكنه تحول إلى ركام بعد سنوات من الحروب والدمار.
يعمل بإرادته الصامدة أمام المعوقات..
فقط أمضى “عبدالله عبدالجبار”، (62 عامًا)؛ أربعة عقود في زراعة التمور ومحاصيل أخرى، في قطعة أرض ملحقة بمنزله، في منطقة “أبوالخطيب” في “البصرة “..
درس الزراعة على يد والده “جبار”، الذي يعرفه السكان المحليون باسم، “أبوغسان”، ولا يزال يعتني بحقوله على الرغم من إعاقة إحدى يديه، “طالما لدي الرغبة في العمل، سأفعل ذلك، لا شيء يقف ضد إرادتي”، بحسب قوله لموقع ((Middle East Eye.
ومع ذلك، فإن تصميمه الراقي على زراعة التمور يتناقص مع حقيقة أن الصناعة لم تصبح ما كانت عليه في السابق .
لا يزال “أبوغسان” يعمل في التجارة، على الرغم من عقود من الحرب، وتدهور الوضع البيئي في جنوب العراق، والوارادات الرخيصة التي تقوض الإنتاج المحلي .
تخريب “الأرض السوداء” !
كانت “البصرة”، ثاني أكبر مدينة في البلاد، معروفة على نطاق واسع بجودة تمورها، والتي تشمل أصناف: “الحلاوي، الخضراوي، الساير، مكتوم، الدرعي، العشرسي، البرحي”.
ويوضح تقرير الصحيفة البريطانية؛ أنه بالنسبة للعراقيين، كانت المدينة الجنوبية تُعرف باسم: “الأرض السوداء”؛ بسبب كثافة أشجار النخيل فيها، وكان العديد من سكان المدينة، المعروفين اسم: “البصراويين”، يعتمدون على صناعة التمور في معيشتهم.
وتضيف الصحيفة: “كان العراق يُنتج ثلاثة أرباع التمور في العالم، لكن إنتاجه الآن لم يُمثل سوى خمسة بالمئة.. من 33 مليون نخلة في الخمسينيات من القرن الماضي، لم يتبق منها سوى تسعة ملايين، وفقًا لدعاة حماية البيئة”.
وبالمثل، شهد عدد مصانع معالجة التمور انخفاضًا حادًا، منذ غزو العراق عام 2003، حيث انخفض إلى ستة فقط؛ مقارنة بـ 150 قبل الحرب.
حقيقة مروعة..
هذه أرقام يمكن لـ”أبوغسان”، أن: “يشهد عليها على المستوى الشخصي، بعد أن رأى عدد الأشجار التي يمتلكها، يتراجع من 5000 شجرة من الثمانينيات إلى 17 فقط اليوم، وهي حقيقة يصفها بأنها، “مؤلمة” و”مروعة”.
يقول “أبوغسان”؛ أن: “الحرب والأضرار البيئية والواردات الرخيصة، جعلت من الصعب على المزارعين تغطية نفقاتهم”.
لا يزال “أبوغسان” يعتمد على الزراعة لكسب دخله، لكنه اضطر إلى تنويع أنواع المحاصيل التي يزرعها لضمان قدرته على تغيطة نفقاته.
قال: “في الوقت الحالي، أركز أكثر على زراعة الخضراوات أكثر من أشجار التمر”. “أزرع أنواعًا مختلفة من المنتجات، مثل الباذنجان والخيار والبامية والطماطم والخضروات الورقية”.
الحرب “العراقية-الإيرانية” السبب..
هناك العديد من العوامل التي ساهمت في تراجع صناعة النخيل في “البصرة”، لكن الأكاديمي العراقي، “سعيد عبدالرضا العلوان”، يعود إلى عهد الرئيس العراقي السابق، “صدام حسين”، وتحديدًا الحرب “الإيرانية-العراقية”، بين 1980 و1988.
قال “العلوان”، المحاضر في كلية العلوم البيئية بجامعة “البصرة”، أنه: “بسبب قرب المدينة من خط المواجهة بين القوات العراقية والإيرانية، قرر العديد من المزارعين، “إقتلاع”، أشجار النخيل ونقلها إلى مناطق أخرى من العراق”.
وبحسب “العلوان”، تسبب العدد الهائل من أشجار النخيل، في “منطقة البصرة”، في مشاكل لوجيستية لجيوش “صدام”، وبالتالي تم تدميرها نتيجة لذلك.
وأوضح أن: “ملايين أشجار النخيل كانت مزدحمة على ضفاف نهر شط العرب، ومنطقة أبوالخصيب ومنطقة الفاو، لكن نظام صدام قطعها جميعًا لإنشاء ساحات قتال وطرق للمركبات العسكرية”.
ومع ذلك، فإن: “الأسباب البيئية والسلوك البشري، المحلي والدولي على حد سواء، ليست الحرب اليوم هي التي جعلت الأراضي الزراعية في البصرة أقل ملاءمة لمحاصيل مثل النخيل”.
سوء الإدارة المحلية وسلوكيات دول الجوار..
يقول تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، لعام 2019، أن: “سوء الإدارة من قبل السلطات العراقية، وكذلك بناء السدود على الأنهار من قبل الدول المجاورة، مثل إيران وسوريا وتركيا، أدى إلى انخفاض تدفق المياه العذبة إلى شط العرب، وبالتالي زيادة الملوحة”.
وتتفاقم المشكلة بسبب حالات الجفاف، التي يُعتقد أن سببها تغير المناخ العالمي، وكذلك ترسب الملوثات في المجرى المائي مما يعني ما هو غير صالح للاستهلاك البشري والاستخدام الزراعي.
وتابع تقرير “هيومن رايتس ووتش”، لعام 2019: “سياسات وممارسات السلطات العراقية، منذ الثمانينيات، كانت السبب الرئيس لتدهور جودة مياه شط العرب”.
مياه مسمومة !
بالنسبة للمزارعين، مثل “أبوغسان”، فإن النتيجة النهائية هي موت المحاصيل والمزيد من الضرر لمصدر رزقهم.
ماتت معظم الأشجار بسبب ملوحة المياه وتلوثها، المصدر الرئيس للمياه القادمة إلى الأراضي هو “نهر شط العرب”، الذي أصبح خزانًا للسموم بدلاً من (مصدرًا) للمياه العذبة.
يواصل “أبوغسان”: “كانت أرضي مليئة بعدة أنواع من أفضل التمور، منها: الحلاوي، الخضراوي، الساير، مكتوم، الدرعي والعشرسي، لكن اليوم لا أملك سوى بريم وبرحي”.
وعلى الرغم من هذه المعوقات، يؤمن “أبوغسان”، بشدة، بجودة منتجاته، خاصة على الوارادات الأجنبية.
وقال: “التمور والخضراوات المزروعة محليًا هي أعذب وطعم أفضل من المنتجات المستوردة، لكن الناس يفضلون شراء البضائع المستوردة بسبب رخص ثمنها”.
“أبوغسان”؛ قادر على بيع مخزونه، الذي يملكه للبائعين المحليين بسهولة، نظرًا لسمعتهم في الذوق والجودة العالية، لكنه مع ذلك يحذر من أن: “الحكومة العراقية؛ يجب أن تعمل الآن لتحفيز إنتاج الغذاء المحلي للمزارعين أمثاله”.
وقال: “على الحكومة فرض ضرائب على المنتجات الغذائية المستوردة، لتشجيع المزارعين المحليين في العراق على زراعة (أراضيهم) وإعادة الزراعة إلى المدينة”.
مختتمًا: “للأسف، لا أحد يسمع صوتنا، لمن نشكو ؟”.