خاص – كتابات :
حرب من نوع آخر.. وكأنها شرارة معركة كبرى تكاد نسائمها تلوح في الأفق.. فهي المرة الأولى التي تعلن فيها بريطانيا عن غضبها بتلك الصورة من ثاني أكبر قوى عظمى في العالم؛ ويدعمها في ذلك دول “فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة”..
بل سارعت إلى إتخاذ خطوات، هي الأبرز منذ عقود، ضد روسيا متهمة إياها صراحة بإنتهاك كافة المواثيق والأعراف والقوانين الدولية واستخدام “غاز الأعصاب” على أراضيها في محاولة قتل لاجيء سياسي من أصل روسي على أراضيها.. لكنه ليس كأي لاجيء.. فما القصة إذاً ؟
“تكسير عظام” بين عمالقة الاستخبارات في العالم..
يقول متابعون للتصعيد المتبادل بين لندن وموسكو، إن الأزمة الحادة الحالية الدائرة بين بريطانيا وروسيا هي واحدة من “أعتى” حروب تكسير العظام بين إثنين من عمالقة أجهزة الاستخبارات في العالم، بل إنها تعد المرة الأولى التي يتابع فيها العالم علانية حرب تجسسية ومعركة مخابراتية بين الدول على شاشات الفضائيات !
بطل الواقعة.. كولونيل “سكريبال”..
تفاصيل الأزمة تبدأ مع بطل الواقعة الكولونيل، “عقيد”، سابق في الاستخبارات العسكرية الروسية يدعى، “سيرغي سكريبال”، يبلغ من العمر 66 عاماً، جرى تجنيده للعمل لصالح المكتب السادس، “جهاز المخابرات البريطاني، وهو ما يعرف إختصاراً بالـ (MI6)، منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي لإمداد الـ (MI6) بأخبار الجواسيس الروس في بريطانيا والدول الغربية.
وبالفعل نجح “سكريبال”، على مدار ما يزيد عن 10 سنوات، في إمداد بريطانيا بأسماء شبكة كبيرة من الجواسيس الروس الذين يعملون على الأراضي البريطانية؛ قدرت أعدادهم بنحو 300 جاسوس أو يزيد، في مقابل حصوله على أموال طائلة !
وفي العام 2005، مع نهاياته، اكتشفت موسكو أمر “سكريبال” في مدينة “أزمير” التركية، وجرى ضبطه وترحيله إلى موسكو ليخضع لمحاكمة عسكرية عام 2006، ويقرر القضاء العسكري الروسي سجنه 13 سنة، بعد أن أقر بجرائمه أمامه، وجرد من جميع الأوسمة والألقاب التي مُنحت له خلال خدمته في المخابرات العسكرية الروسية عقاباً على تورطه في كشف الجواسيس التابعين لروسيا.
صفقة تبادل شهيرة..
فهل قضى “سكريبال” عقوبته كاملة في السجن ؟.. على العكس.. لم يمض في السجن غير 4 سنوات فقط؛ بعد أن تم العفو عنه بواسطة الرئيس الروسي، وقتها، “ديميتري ميدفيديف”، في صفقة لتبادل الجواسيس، إذ كان “سكريبال” من ضمن 4 جواسيس أطلقت روسيا سراحهم مقابل 10 جواسيس روس كان قد تم ضبطهم في الولايات المتحدة، منهم الجاسوسة الروسية الشهيرة، “آنا تشابمان”، والتي جرى ضبطها قبلها بعامين.
رحل “سكريبال” بالفعل إلى بريطانيا للإقامة فيها، وهناك منح حق اللجوء السياسي، كما منحته ملكة بريطانيا، شخصياً، “وسام الإمبراطورية” تقديراً له على جهوده في خدمة بريطانيا، ليقرر “سكريبال” الاستقرار في مدينة “ساليزبوري” الهادئة في الجنوب البريطاني، ومنذ ذاك الوقت وحياة “سكريبال” هادئة بعيداً عن الأضواء مع زوجته وابنه وابنته، بعد أن وفر لهم منزلاً أنيقاً في الريف الإنكليزي مستمتعاً بأمواله التي حصل عليها من الاستخبارات البريطانية وبالمعاش الشهري القيم، الذي وفرته الحكومة البريطانية له كمكافأة عن خدماته، ومع حلول عام 2014 توفيت زوجته وابنه في ظروف غامضة.. ولم تتبق معه في عزلته غير ابنته، “يوليا”، ذات الـ 33 عاماً !
استهدافه وابنته..
بعد مرور نحو 4 سنوات؛ يأتي يوم الرابع من أذار/مارس لعام 2018، وقتها كان اللاجيء السياسي، “سكريبال”، وابنته، “يوليا”، ذاهبان للتسوق في أحد المراكز التجارية ثم جلسا للإستراحة على أحد المقاعد، عندها إقترب منهما أحد الأشخاص الغامضين لثواني معدودة ثم إبتعد مرة أخرى !
بعدها ببضع دقائق فوجيء رواد المركز التجاري بالرجل وابنته يسقطان في حالة إعياء شديدة فاقدين للوعي، ليتم نقلهما على عجل لمستشفى “سالزبري” في حالة حرجة، إذ أودعا بغرفة العناية المركزة بين الحياة والموت ليخرج بيان من إدارة المستشفى بأنها بصدد “حادث كبير”؛ وأنها تشتبه في تعرض المريضين لمادة سامة “مجهولة” !
المحقق أصيب هو الآخر !
مصادر عدة، قريبة من موقع الحدث، أكدت على أن الشرطة أغلقت الموقع الذي عثر فيه على “سكريبال” وابنته؛ بعد أن أصيب المحقق البريطاني، “نيك بيلي”، الذي يعمل على القضية هو الآخر، وجرى نقله للمستشفى في حالة حرجة !
لن يمر.. ولابد من رد..
هذا الحادث يبدو أنه لن يمر كأي حادث، فقد قوبل بردود أفعال غاضبة في بريطانيا؛ بعد أن أثبتت تحاليل “معامل سكوتلانديارد” أن الضحيتين تعرضا لجرعة من “مادة سامة”، حيث وجهت رئيسة الوزراء البريطانية، “تيريزا ماي”، أصابع الاتهام مباشرة لروسيا بالضلوع في تسميم العميل الروسي السابق، واعتبرت ذلك بمثابة “عمل عسكري على الأراضي البريطانية”، ما يستدعي الرد !
أصيب بغاز أعصاب لا تنتجه غير روسيا..
لقد أشارت صراحة إلى أن الكولونيل الروسي السابق تعرض للتسميم بنوع معين من “غاز الأعصاب” لا تنتجه سوى روسيا، وأعلنت وجود احتمال كبير في تورط موسكو في عملية تسميم الجاسوس، ممهلة روسيا حتى؛ الثلاثاء الثالث عشر من آذار/مارس 2018، لشرح ملابسات التسمم الذي تعرض له “سكريبال” وابنته “يوليا”.
لقد أجابت رئيسة الوزراء البريطانية، رداً على ما إذا كانت بريطانيا قد تطرد السفير الروسي، بقولها: “سنفعل ما هو مناسب… سنفعل ما هو صحيح… إذا ثبت أن الأمر نفذ برعاية دولة” !
وزير الخارجية البريطاني، “بوريس غونسون”، بدوره هدد بأن بلاده سترد “بحزم”؛ في حال تبين أن دولة تقف وراء تسميم عميل مزدوج روسي سابق.. !
وفي ذات السياق؛ صرح النائب البريطاني البارز، “توم توغندهات”، بأن تسميم “سكريبال” وابنته “يوليا”، هو “محاولة اغتيال تقف وراءها دولة” !
حلف “الناتو” يدخل على خط المواجهة..
لم يتوقف الأمر عند بريطانيا، بل دخل حلف (الناتو) على الخط بقوة؛ وأصدر بيان رسمي، نشره الأمين العام للحلف، “ينس ستولتنبرغ”، يندد فيه بالحادث معتبراً أن “الحلفاء اتفقوا على اعتبار الهجوم بمثابة إنتهاك فاضح للأعراف والاتفاقات الدولية”، وطلبوا من روسيا “الرد على أسئلة بريطانيا؛ وخصوصاً عبر تقديم معلومات كاملة حول برنامج “نوفيتشوك” لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية”.
“تيلرسون” اتهم روسيا قبل ساعات من إقالته..
الولايات المتحدة، كذلك، دخلت على الخط لتقف بجوار حليفتها بريطانيا ولتسكب الزيت على النار، إذ صرح وزير الخارجية الأميركي، المُقال، “ريكس تليرسون”، قبل إقالته بساعات قليلة، بأنه يبدو أن هذا “الفعل الفاضح حقاً قد إرتكب بشكل واضح من قبل روسيا”، مشيراً إلى أنه ستكون هناك “عواقب وخيمة”، كما صرحت “سارة ساندرز”، المتحدثة باسم الإدارة الأميركية: بأن “استخدام غاز أعصاب قاتل ضد مواطنين بريطانيين على أرض بريطانية هو أمر مشين”، واصفة الهجوم بأنه “طائش وغير مسؤول” !
روسيا تستهزيء..
أما على الجانب المقابل؛ فقد رفضت موسكو كل هذه الاتهامات واستهزأت بها، إذ قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، “ماريا زاخاروفا”: “هذه مهزلة في البرلمان البريطاني”، مضيفة أن تصريح “تيريزا ماي” هو جزء من “معلومات وحملة سياسية تقوم على الاستفزاز”.
على أرض بريطانية.. لا علاقة لنا بالأمر..
كما قال المتحدث باسم الرئيس الروسي، في مؤتمر صحافي، إن الحادث المزعوم تم على أرض بريطانية، ومن ثم “ليس للواقعة أي علاقة بروسيا، ناهيك عن القيادة الروسية”، مضيفاً أن لندن لم تقدم أي طلب للحصول على مساعدة في التحقيق.
وزير الخارجية الروسي المخضرم في موقعه، “سيرغي لافروف”، انتقد الطريقة التي تتعامل بها بريطانيا في القضية، مؤكداً على أن لندن تتعامل “بتعجرف واضح في كل الخطوات التي إتخذتها تقريباً”.
اجتماعات ضباط المخابرات البريطانية لا تتوقف..
بعدها ردت “تيريزا ماي”؛ على التصريحات الروسية، واصفةً إياها بأنها حملت كثيراً من “العجرفة والتحدي”، ثم دعت لاجتماع طارئ للجنة الأمن القومي، المعروفة باسم (كوبرا)، مع كبار ضباط الاستخبارات البريطانيين لمناقشة تداعيات القضية !
الأزمة لم تنته عند ذاك الحد من التراشق وتبادل التصريحات النارية بين الجانبين، فقد إستدعت الحكومة البريطانية السفير الروسي لديها لسؤاله عن الكيفية التي تم بها إحضار “غاز أعصاب” روسي إلى بريطانيا، لترد موسكو هي الأخرى بإستدعاء السفير البريطاني لدى روسيا لتسلمه احتجاجها على الموقف والتصريحات البريطانية !
إجراءات تصعيدية غير مسبوقة ضد روسيا..
مع تصاعد الأزمة؛ أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية عن حزمة من الإجراءات العقابية التي قررت حكومتها إتخاذها تجاه روسيا، وشملت: “طرد 23 دبلوماسيًا روسياً من الأراضي البريطانية، زيادة إجراءات الأمن على الرحلات الخاصة والجمارك والشحن مع الجانب الروسي، تجميد أية أصول لروسيا في بريطانيا”، إذ وجدت أدلة على أنها قد تستخدم لتهديد حياة أو ممتلكات المواطنين أو المقيمين في المملكة المتحدة، “مقاطعة الأسرة المالكة والوزراء والمسؤوليين الرسميين كأس العالم لكرة القدم المقرر إنعقادها في روسيا وتعليق جميع الاتصالات الثنائية عالية المستوى المخطط لها بين المملكة المتحدة وروسيا” !
ولم تكتف بريطانيا بتلك الخطوات، بل واصلت التصعيد بطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن في الأمم المتحدة لتطلع المجلس الأممي على “تفاصيل الهجوم الذى وقع، ورفض روسيا تحمل أي مسؤولية فى هذا التسميم رغم اتهامات لندن”.
إغلاق وسائل الإعلام في البلدين..
في نفس الإطار؛ أعلنت “الهيئة المنظمة لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة البريطانية” إنها ستنتظر نتائج الاجماعات الرسمية البريطانية قبل النظر في الترخيص الممنوح لشبكة (روسيا اليوم)، معتبرة أنها أداة دعاية موالية للكرملين، لترد “ماريا زاخاروفا”، الناطقة باسم الخارجية الروسية، على هذا التهديد البريطاني بأنه لن يُسمح لأي وسيلة إعلام بريطانية العمل في روسيا إذا أُغلقت محطة (روسيا اليوم) في بريطانيا !
قضية مماثلة وقعت في عام 2006..
يقول محللون سياسون مختصون في العلاقات الغربية الروسية، إن تلك الأزمة أعادت للأذهان قصة تصفية الجاسوس الروسي، “أليكسندر ليتفينينكو”، في لندن عام 2006، بعد أن وُضعت له جرعة قاتلة من مادة (البولونيوم 210) المشعة في كوب “الشاي” أثناء اجتماعه مع إثنين من ضباط الاستخبارات الروسية، هما “ديميتري كوفتون”، و”أندري لوغوفوي”.. وقيل وقتها في التحقيقات البريطانية إن الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، هو من أمر بنفسه بقتل “ليتفينينكو”، إذ إنه من المعروف عنه أنه لا ينسى ثأره أبداً ولا يترك من يرى فيه خائناً يفر بخيانته مهما طال الوقت؛ بحسب العقيدة التي تربى عليها في الاستخبارات الروسية !
“ترامب” مطالب بالوقوف مع بريطانيا.. وإلا تأكدت الشكوك..
المؤكد أن تلك الواقعة لن تمر، ويبدو أنه جرى الاتفاق في بريطانيا و(الناتو) على التصعيد بكل قوة للرد على روسيا مهما كلف الأمر، وينتظر من الرئيس الأميركي، “دونالد ترامب”، الإعلان عن موقفه صراحة بدعم الموقف الغربي، وإلا تأكدت شكوك تعاونه وتخابره مع الروس !
رفض موسكو قد يشعل حرباً عالمية ثالثة..
إذا اتفق الأوروبيون على معاقبة روسيا فإننا بصدد رؤية مواجهة قد تخرج عن سياقها الإعلامي والتراشق؛ إلى قرارات حاسمة على الأرض ربما تتحول إلى مواجهات تشعل فتيل “حرب عالمية ثالثة”، إذا رفضت موسكو للقرارات التي ربما تقوض تحركاتها وتطلب مراقبة لنشاط أسلحتها الكيميائية !
نيران تطال سوريا وإيران وتركيا ومصر !
ساعتها سيكون المسرح المتوقع للعمليات فوق سماء “سوريا”، وربما يطال “مصر”، التي وقعت اتفاقية تسمح باستخدام الأجواء والقواعد البحرية والعسكرية والجوية لأراضيها أمام القوات الروسية، فضلاً عن استهداف مواقع في إيران وربما تركيا، إذ ساعتها ستجد بريطانيا و(الناتو) الفرصة سامحة لإستعادة نفوذها في المنطقة بعد أن توغلت روسيا بقوة في الشرق الأوسط !