خاص / بغداد – كتابات
سجلت جرائم شبكات مدعومة من كبار شخصيات النظام العراقي السابق حيال آثار بلاد الرافدين تصاعداً كبيرا بعد العام 1991، ممثلة بتهريب الآلاف من القطع النفيسة، حد إن مصادر الهيئة العامة للكمارك العراقية أعلنت انها تمكنت من السيطرة على 2512 حالةتهريب خلال عام 1997. وبالتأكيد إن ما لم تتمكن من السيطرة عليه، هو الأكبر والأكثر أهمية لاسيما إن الشبكات المدعومة من شخصيات متنفذة بينها أرشد التكريتي، مرافق صدام الأقدم وزوج أخته غير الشقيقة.
وكانت أجهزة النظام السابق الإعلامية تعزو الزيادة في حالات تهريب الآثار، إلى إتخاذها من قبل “جهات معادية” كأحد أشكال “التخريب الإقتصادي“.
وتنقل صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية تصريحات لمدير عام هيئة الكمارك العراقية في العام 1997 الدكتور حميد شكر لصحف عراقية إن “التهريب يزداد بقصد إستنزاف مواردالعراق الأساسية والمهمة “.
ولم تكن جريمة التهريب هو الوحيدة من الجرائم التي ارتكبها النظام السابق بحث الآثار العراقية، فهناك بناء بابل بطابوق محفور عليه الحرفان الأولان من اسم صدام حسين. ورصدتقرير أعدته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي“، على يد باحث آثاري يدعى بول كوبر، ماوصفه بـ“الجريمة الأخطر“، التي ارتكبها الرئيس العراقي صدام حسين بحق العراق.
وقال كاتب التقرير: “وقفت من شرفة غرفة نوم صدام حسين، وشاهدت السهول الممتدة أمامي،ولاحظت أطراف الجدران المتحطمة والمعمار القديم، الذي يرجع 2500 عام إلى الوراء، حيثكانت مدينة بابل القديمة، تحكم العالم“.
وتابع “لكن لم يكن يتخيل أي شخص يقف يشاهد أطلال بابل، أنه يقف أيضا على أطلالنظام زائل آخر، ارتكب جريمة لا تقل بشاعة عن الجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش الإرهابيفي العراق“.
واستطرد “رغم أن التراث العراقي تم نهبه من قبل القوى الاستعمارية على مدار السنوات،لكن ما فعله صدام حسين، أنه شوه هذا التاريخ، بحيث يخدم أغراضه الخاصة لبناء التفوقالعراقي، وفق وجهة نظره الشخصية“.
ونقل الكاتب عن حضوره أول اجتماع أجراه صدام حسين مع علماء الآثار عام 1986، عندماقال: “الآثار هي أعظم ما يمتلكه العراقيون، وينبغي أن تظهر كيف أن العراقيين هم أصل كلالحضارات السابقة، وهي من ساهمت بشكل كبير في تطور الجنس البشري، وما دون ذلكيمكن أن نتخلص منه“.
وأشار إلى أنه عقب ذلك الاجتماع، بدأ صدام حسين عمليات إعادة إعمار واسعة ومكثفةلمناطق أثرية في نينوى وحرضا ونمرود وآور وسامراء وطيسيفون، لكي يصب الاهتمام فقطعلى ما أطلق عليها “جوهرة العراق” ألا وهي “بابل“، التي كان يرغب فقط في تصدرهاالمشهد الأثري العراقي.
بالنسبة لصدام حسين، وفقا للتقرير، كانت تتمتع بابل بسحر خاص، حيث أنفق ملايينالدولارات، في خضم الحرب العراقية الإيرانية، على إعادة بناء جدرانها، حتى أنه أصر علىكتابة اسمه على الطابوق الحديث المستخدم في إعادة إعمار بابل، تيمنا بالملك نبوخذ نصر،أحد أبرز ملوك بابل، كان يختم اسمه على الطابوق الخاص بالمدينة.
الأمريكيون وحلفاؤهم العراقيون يواصلون الجريمة
ولا يمكن اعتبار جريمة نهب المتحف العراقي وتدمير كنوزه التي لا تقدر بثمن إلا واحدة من أفظع الجرائم التي تظل مرتبطة بالنظام العراقي الجديد بعد 2003، بل هي وصمة عار لن تمحى ستظل على جبينه وجبين قوات الغزو التي حملته إلى السلطة.
وقبيل الانسحاب الأمريكي تعرضت “زقورة أور” في ضواحي مدينة الناصرية (350 كم جنوبغربي بغداد) مرة أخرى، إلى سقوط قذائف صاروخية كانت تستهدف قاعدة جوية تستخدمهاالقوات الأميركية وتقع في منطقة قريبة للزقوة التي تعتبر أقدم معبد في بلاد الرافدين وبناهاالملك أور نمّو العام 2050 قبل الميلاد. وفيما تكرر اطلاق الصواريخ خلال الاعوام الثلاثةالماضية على المكان التاريخي الذي يضم ايضا مقام نبي الله ابراهيم عليه السلام، أعلنتالقوات الاميركية خشيتها من “إنهيار زقورة اور التاريخية نتيجة لسقوط صواريخ بشكلمستمر بالقرب منها“.
وعلى الرغم من ان موقع الزقورة الأثري قادر على جذب الزوار من جميع أنحاء العالم ويمكن لهأن يكون دافعاً اقتصادياً قوياً لمدينة الناصرية، الا ان تعرضه للهجمات الصاروخية لم يواجهمن قبل الحكومة المحلية (محافظة ذي قار) والحكومة المركزية ببغداد بتوجه حاسم لجهة ضبطالمجموعات المسلحة التي تطلق الصواريخ ويعتقد انها تتبع قوة سياسية شيعية متشددة.
وتبدو سلسلة الهجمات على الموقع التاريخي هذا، متصلة بحوادث كثيرة تعرضت لها مواقعآثارية عراقية منذ حرب العام 2003، فالقوات البولونية ثم الأميركية استخدت مدينة بابلالتاريخية (وسط البلاد)، وهو ما سبب خطرا جديا للاثار تمثل في ظواهر عدة ليس اقلها نهببعض الجنود لنفائس تاريخية لا تقدر بثمن، عرض العديد منها للبيع في مزادات الفنونالقديمة والانتيكات في اوروبا واميركا.
وتأتي هذه المؤشرات بعد صدور تقرير دولي يحذّر من أخطار جدية تواجه الآثار العراقية،ويرى ان “الصراع في العراق ومنذ 2003 أثّر سلبيا وعلى الأخص، على تراث العراقالثقافي، مع النهب والسلب الذي تعرضت له المواقع المهمة والمتاحف. وقد تضرر المتحفالعراقي، كما أن سلب جزء كبير من المجموعة التي لاتقدر بثمن كان دلالة على ضرر أكبر لحقبمناطق متعددة من البلاد. كما تضررت متاحف أخرى موجودة في المحافظات، جراء نهبهاونتيجة عدم وجود صيانة“.
ويلفت تقرير “الشركاء الدوليون في العراق” وحمل عنوان “ملخص اوضاع العراق” الى ان ” المواقع الأثرية تعرضت للتخريب، على الرغم من الجهودالمبذولة من قوات الأمن العراقية والدوليةللحفاظ عليها. (كثيرا ما تقوم القبائل المحلية برعاية المواقع، الا أنها لاتملك السلطة المطلوبةلإنفاذ قانون الآثار. وقد توقفت عمليات الحفر التي أجراها في السابق علماء آثار عراقيونبالتعاون مع مراكز دولية بارزة بسبب الظروف الأمنية في مناطق عدة. وبالنتيجة، يعانيالعديد من المواقع حالة من الإهمال والهجر“.
الآثار العراقية: أخطار دائمة
وفيما يوضح التقرير “تم تهريب العديد من القطع الأثرية عبر الحدود من قبل عصابات مسلحة مدعومة من أحزاب متنفذة، في وقت نجحت الحكومة العراقية في إقامة علاقات تعاونية معشركاء صديقين لاسترداد بعض القطع الثمينة من الفن القديم“، الا انه يعتبر ما تم استرداده“ليس الا جزءا صغيرا من العدد الفعلي للقطع الأثرية الموجودة في الخارج“.
وفضلا عن هذا الجانب الذي يعاني منه موروث العراق التاريخي يبدو تناقص الخبرة قضيةمهمة ايضا، إذ أن العديد من علماء الاثار البارزين قد غادروا البلاد، ولم تحدث عمليات كافيةمن نقل الخبرة لأجيال تالية من المعنين بكنوز العراق التاريخية .
ويوجه التقرير نقدا ضمنيا للاجراءات الحكومية العراقية حيث “لم يتم تخصيص سوىموازنات محدودة للإحتياجات الفعلية لقطاع الحفاظ على الثقافة. كما ينبغي أن توفر الحكومةالتمويل الملائم للعمليات والصيانة، ليس فقط لمتحف بغداد، ولكن للمتاحف في المحافظاتأيضا، وسيكون من المهم تخصيص موارد أكثرلحماية وإعادة تنشيط الآلاف من المواقع الأثريةالتي يتباهى بها العراق. وينبغي على وجه التحديد زيادة عدد وحدات الحراسة الأمنيةالمخصصة من حيث العدد والقدرات، مما يسمح بتحسين الوضع الأمني في المواقعوباستئناف عمليات الحفر والصيانة، ومن الضروري توفير قاعدة بيانات موثوقة وشاملة للقطعالأثرية المفقودة. ومن الأساسي أن يتم زيادة وعي الحكومة بهذا الشأن،وذلك لتعاون أكثرفعالية مع بلدان ومنظمات دولية أخرى فيما يتعلق بطلب إستعادة القطع الأثرية“.
وفيما تتواصل عمليات نهب الاثار العراقية من المواقع فقيرة الحماية من قبل مجموعات عدة، تعلن السلطات الحكومية عن القاء القبض على افراد من تلك المجموعات وبحوزتهم لقى آثاريةكانوا يعتزمون تهريبها، فضلا عن قيام الكثير من “المتجاوزين” على اراضي الدولة ببناء دورومحلات صناعية في مناطق تقع ضمن محرمات المواقع التاريخية، وهو ما ينبه اليه التقريرالدولي الذي يشدد على وضع ” 15حظرا على بناء هيكليات حديثة قرب المواقع ذاتالحساسية الثقافية، مع تحديد منظقة عازلة حول المواقع لايمكن اختراقها“.
من كان يهدد منقذ الآثار؟
عرف عالم الآثار الراحل دوني جورج دوليا بأنه “الرجل الذي انقذ المتحف الوطني العراقي” و“الشخص الشافي لمحنة المواقع والتحف القديمة في العراق” في اعتراف بجهده الاستثنائيلانقاذ الكثير من المواقع الاثارية التي قد تكون سرقت أو دمرت بعد حرب الاطاحة بصدام فيعام 2003، وكان له الفضل في اعادة اكثر من نصف الاثار التي نهبت من المتحف العراقي وتقدر بـ 15 الف قطعة تعود إلى الحضارات الرافدينية القديمة.
جورج الذي تعامل معه أكاديميون ومسؤولون اميركيون في بغداد ولاحقا في الولايات المتحدةالتي وصلها من بلاده بعد أن تلقى مع عائلته تهديدات عدة بالقتل اثر عمله رئيسا لهيئة الاثارالعراقية، اعتبروه “من أفضل خبراء العالم بآثار بلاد الرافدين” وانه عمل جاهداً لإعادة الآثارالمسروقة من المتحف العراقي.
اللافت ان استاذ الحضارة الرافدينية كان قد غادر بلاده في آب (اغسطس) العام 2006 مكرهاً بعد تعرض أولاده للتهديد بالقتل، وتعرضه شخصياُ الى ضغوطات كبيرة في عمله كانوصفها في تصريحات عقب وصوله أميركا مما ادى به الى ” تقديم طلب التقاعد بعد أكثر منثلاثين سنة خدمة حقيقة في كل مجالات الآثار، والمستغرب أنه حصلت الموافقة على طلبي بعدساعتين فقط من تقديم الطلب من دون أي استفسار من قبل الحكومة، مع العلم أن منصبيرئيساً لهيئة الآثار كان بدرجة وكيل الوزارة“.
وفيما راح دوني جورج ينشط مع مؤسسات دبلوماسية واكاديمية اميركية في تعقب اثار بلادهداخل، كان الرئيس السابق للهيئة العامة للآثار والتراث يؤكد انه كان “شاهد عيان لما حدث مناستباحة لآلاف القطع النادرة والمخطوطات والرقيمات والتماثيل“، ويرى جورج “رغم كلالتبريرات التي قيلت عن وجود لصوص ليسوا معروفين قاموا بهذا العمل (نهب المتحف العراقيوتدمير كثير من كنوزه)، أو عدم وجود أوامر واضحة بالدفاع عن المتحف وآثاره ضد أياعتداء، فالذين قاموا بهذا العمل كانوا يدركون جيدا ماذا يفعلون، ويبدو انهم كانوا يملكونمخططات مفصلة للمبنى ومخازن الاثار وأماكن القطع الثمينة، حيث استخدموا الممراتوالابواب عن دراية تامة وكانوا مزودين بالمعدات وآلات قطع الزجاج الكبيرة، وكل التسهيلاتالتي تكفل نقل القطع المطلوبة بالسرعة القصوى“.
ويكشف عالم الاثار العراقي الراحل ان “ثلاث مجموعات دخلت الى المتحف، توزع كل منهامهمة، بحيث تكفلت جميعها بالقضاء على المتحف بشكل كامل حتى قطع الاثاث والمعداتالتكنولوجية والمكتبية وصور الأرشيف والمقاعد والطاولات، وكان اخطرها المجموعة التي سلكتطريقا غير معروف حتى للعاملين في المتحف للوصول الى المخازن، وسرقة اكثر من خمسةالاف ختم اسطواني وبعض الحلي الذهبية التي تعود الى آلاف السنين قبل الميلاد.. وعندماوصلت تلك المجموعة الى القاعة البابلية قام افردها بتحطيم رؤوس تماثيل الاسود لعدم قدرتهمعلى سرقتها نظراً لكبر حجمها وكأنهم كانوا يعملون وفق قاعدة: خذوا ما تستطيعون حمله أماما تبقى فحطموه أو احرقوه“.