تُديره شركات كبرى ومؤسسات ضخمة .. عالم “صناعة” السجون في أميركا يُدر أرباحًا طائلة !

تُديره شركات كبرى ومؤسسات ضخمة .. عالم “صناعة” السجون في أميركا يُدر أرباحًا طائلة !

وكالات – كتابات :

السجون هي المكان الذي يُعاد فيه تأهيل المجرمين، وكل من يرتكب مخالفة لقانونٍ ما في الدولة، أو على الأقل هذه هي الصورة البسيطة التي قد ترتسم في أذهان الكثيرين عند التفكير في دور السجون في المجتمعات، فهي مكان لهؤلاء الذين يشذون عن قواعد المجتمع وقوانينه.

ولكن بعض النظريات الاجتماعية أخذت منحىً أبعد في تحليل المسألة؛ فتقول النظرية “الوظيفية-Functionalism” مثلًا إن الجريمة ضمن حدٍ معقول مفيدة للمجتمع، ودون إغراق في تفاصيل هذه النظرية؛ يمكننا القول إن وجود الجريمة في مجتمع ما أمر لا يمكن تجُنبِه، وهو بعد ذلك مفيد في تكامل المجتمع؛ فمثلاً دون وجود المجرمين لن يكون هناك وجود للشرطة، والمحاكم، والقضاة، وبإنتهاء الجريمة تنتهي وظائف هؤلاء جميعًا.

لكن نظام السجون الأميركي أخذ الأمر إلى أبعد بكثير من تفهّم “وظيفة” الجريمة والمجرمين في المجتمع؛ إذ تحولت السجون إلى قطاعٍ خاص كبير جدًا، يُقدر حجمه بعدة: مليارات دولار، ويوظف ما لا يقل عن: 45 ألف موظف، فضلًا عن أرباحه الضخمة جدًا من العمالة الرخيصة والخدمات المقدمة في السجون، وتعاقد شركات من مختلف القطاعات للاستفادة من هذه “الصناعة”.

ويمكن للعامة اليوم شراء أسهم في هذه الشركات، والاستفادة من الاستثمار في قطاع لا يمكن أن يتوقف عن العمل في المدى القريب، وبالنسبة للمستثمرين لن يكون من المنطقي أن تُحل مشكلة الجريمة في مجتمعٍ ما، ولا حتى أن تنخفض معدلاتها، فهذا ضارٍ بالعمل، ولتكتمل الصورة سوءًا فإن هؤلاء المستثمرين ليسوا في الغالب أفرادًا عاديين؛ بل هم مستثمرون كبار لديهم ما يكفي من القدرة التي تجعلنا نفترض وجود “تضارب مصالح” واضح بين هذه الصناعة وبين “الهدف” المرجو منها.

مصدر الصورة: رويترز

فكيف وصلنا إلى: “اقتصاد السجون” هذا ؟.. ما شكله اليوم ؟.. كيف تستطيع الشركات المستثمرة فيه تحقيق الربح ؟.. وما هي هذه الشركات بالضبط ؟.. وكيف يُمكنها التأثير على صناعة القرارات المتعلقة بالجريمة لتحصيل الربح؛ حتى لو كان ذلك على حساب المجتمع وأهداف إعادة التأهيل في المجتمع ؟

كيف تُبقي السجون على العبودية بعد إلغائها ؟

في ستينيات القرن التاسع عشر؛ دخل التعديل الثالث عشر على “الدستور الأميركي” حيز التنفيذ، والذي قضى بموجبه تحرير جميع العبيد، ومنع بقاء الخدمة الإجبارية في “الولايات المتحدة الأميركية”، في عهد الرئيس الأميركي الأسبق؛ “إبراهام لينكولن”.

لكن هذا التعديل أبقى على استثناءٍ صغير للعبودية والإجبار على العمل والخدمة، وهو حالة كون هذه العبودية أو الخدمة الإجبارية عبارة عن عقوبة على جريمة، مع إبقاء هذا الاستثناء عامًا، ودون تحديدٍ واضح، حتى أنه بات يُعتبر من طرف البعض ثغرة قانونية في التعديل، تسمح بالإبقاء على العبودية في شكل غير الذي كان عليه سابقًا.

وفي عام 1871؛ قضت محكمة في ولاية “فيرغينيا” الأميركية اعتبار السجناء: “عبيدًا للولاية”، وحرمانهم من حقوقهم الدستورية؛ ما يعني إمكانية إعادة: “اقتصاد العبودية” مجددًا، ولكن بشكلٍ مختلف، وضمن هذا القانون للحكومة الفيدرالية، والولايات، والأعمال الخاصة، الاستفادة من السجناء، واستخدام قوة عملهم دون أجر، تحت شعار: “إعادة التأهيل”.

ويلاحظ هنا أمران: الأول أن السجون الأميركية امتلأت بنسبة كبيرة من ذوي الأصول الإفريقية، والثاني أن عدد السجناء ارتفع بشكلٍ كبير مع مرور الزمن، حتى أصبحت “الولايات المتحدة الأميركية” صاحبة أكبر عدد مساجين في العالم، وأكبر نسبة من السجناء قياسًا إلى عدد السكان الكلي.

ويسرد الفيلم الوثائقي: (13th) كيف أن النظام القانوني في “الولايات المتحدة الأميركية”، بالإضافة إلى الرأي العام العنصري منذ تحرير العبيد وحتى اليوم، فضلًا عن مجموعات الضغط السياسية المتحالفة مع الشركات ورجال الأعمال المستفيدين، تمكنوا من رسم صورة: “الرجل الأسود” المجرم في البلاد، وتصميم القوانين؛ بحيث تستهدفهم على وجه الخصوص، حتى باتت احتمالية سجن السود في “أميركا” خمسة أضعاف البيض.

ويقتفي الفيلم أثر ارتفاع عدد السجناء؛ خلال التاريخ الأميركي، والذي وصل اليوم إلى أكثر من: مليوني سجين، وبنسبة: 640 سجينًا لكل: 100 ألف مواطن، كما يقتفي دور مجموعات ضغط مرتبطة بشركاتٍ خاصة تعمل في قطاع السجون للعمل على تشريع قوانين تسمح بزيادة عدد المساجين، وزيادة مدد سجنهم، كل ذلك للاستفادة من الأرباح الممكنة من اقتصاد السجون بشكل عام.

فكيف وصل الحال إلى ما هو عليه اليوم، بدءًا من تحرير العبيد بفعل القانون، وتحديدًا التعديل الثالث عشر، مع أهمية فهم الثغرة القانونية فيه، والتي سمحت بوجود اقتصاد السجون، وهو مثالٍ واضح على آلية تحويل كل شيء إلى مال، وفرصة ربح في الرأسمالية التي نعيش فيها، وخصوصًا في أهم بلد رأسمالي على وجه الأرض اليوم: “الولايات المتحدة الأميركية”، ولكن ما هو شكل نظام السجون هذا اليوم ؟.. كيف يتوزع النزلاء على السجون، هل كلها سجون خاصة ؟.. وكيف تربح الشركات التي تُدير السجون الخاصة ؟

مصدر الصورة: BBC

واقع “اقتصاد السجون” الأميركي..

مع بداية عصر الرئيس الأميركي الأسبق؛ “دونالد ريغان”، منذ الثمانينيات، وحربه على المخدرات تحديدًا، زاد عدد السجون بشكل كبير، وزاد عدد المساجين حتى امتلأت السجون، وأدى ذلك إلى إنشاء السجون الخاصة في “الولايات المتحدة”، بالإضافة إلى الميل العام لدى إدارة “ريغان” نحو: “لبرلة الاقتصاد”، وتقليص حجم الحكومة، تحت إدعاءات أن القطاع الخاص أكثر كفاءة منها في إدارة الأعمال والاقتصاد بشكل عام، ووجوب حصر عمل الحكومة في مهام أقل، وضمن الحد الأدنى من التدخل الحكومي للسماح بالمنافسة في السوق.

فتوزعت السجون الأميركية إلى سجون ولايات وسجون فيدرالية، وسجون مملوكة للقطاع الخاص تستقبل مساجين من كلي النوعين، لتضم ما نسبته: 8% من إجمالي المساجين في “الولايات المتحدة الأميركية”؛ عام 2019، بعدد وصل إلى: 120 ألف سجين.

لكن هذه ليست كل القصة؛ فحتى في السجون العامة التي تُديرها الدولة هناك مجال للربح من طرف الشركات الخاصة، بدءًا من شركات الإنشاءات التي تتعاقد مع الحكومة لبناء السجون وتصميمها، مرورًا ببائعي مختلف أنواع المعدات والأجهزة الإلكترونية، دون الإنتهاء بشركات تزويد الطعام ومختلف الخدمات اللازمة داخل السجون، ولكن لنركز على السجون المدارة من طرف القطاع الخاص، وعلى طريقة عملها، وكيف تستطيع هذه الشركات تحصيل ربح من استضافتها لهؤلاء المساجين ؟

كيف يعمل “منجم الذهب” ؟

تفترض الليبرالية الاقتصادية أن الحكومة تكون أقل كفاءة من القطاع الخاص في إدارة بعض القطاعات في الاقتصاد، نظرًا لأن الشركات الخاصة تعمل ضمن قواعد السوق، ولأنها مهتمة بالربح فهي تستطيع معرفة أمثل الطرق لتحقيقه بأقل التكلفة؛ بالطبع فهذه الكفاءة محتسبة بمقدار الكُلفة التي يوفرها القطاع الخاص، وليس بالضرورة جودة هذه الخدمة وتأديتها لهدفها.

ففي قطاع السجون يحصل الأمر كما يلي: تحتسب الحكومة التكلفة اللازمة لها مقابل كل سجين، ولنفترض أن هذه التكلفة كانت: 200 دولار في اليوم للسجين الواحد، ثم تتقدم شركة قطاع خاص للحكومة بعرض لا يمكن رفضه، وهو أن تُدير سجنًا بألف سجين، على ألا تضطر الحكومة لدفع أكثر من: 150 دولارًا.

فإضافة إلى توفير: 50 دولارًا للسجين الواحد؛ تُقلل الحكومة من الأعباء المختلفة المترتبة عليها من إدارة السجون، وتُقلص حجم مهامها، فالحجم الكبير من المهام يحمل معه خطر معدل أخطاء أكبر، والاختصاصية في عمل القطاع الخاص تجعل هذه المخاطر أقل.

في المقابل تعمل الشركات الخاصة على احتساب التكاليف قبل التقدم بهذا العرض، وتجد – على سبيل المثال – أنها لن تحتاج لصرف أكثر من: 100 دولار للسجين الواحد، وهي بالتالي تربح: 50 دولارًا لكل سجين.

لذلك فقد تعمل السجون الخاصة على توفير مساحة أكبر لإيواء عدد أعلى من السجناء مما هو عليه في السجون العامة، كما أنها قد تلجأ إلى تخفيض النفقات المختلفة المتعلقة بالمساجين، فلأن ما تقبضه من الحكومة غير متغير على المدى القصير؛ على هذه الشركات أن تعمل على تقليل النفقات، وعلى محاولة رفع مُدد محكومية المساجين فيها؛ لأن ما تدفعه الحكومة يُحتسب عن طريق كُلفة إيواء السجين الواحد لكل يوم، فكلما زاد عدد السجناء، وزادت محكومياتهم، ارتفعت أرباح هذه الشركات.

ويمكننا أن نستشرف أوضاع السجون الخاصة في “الولايات المتحدة الأميركية” مقارنة بالسجون العامة؛ عن طريق النظر في بعض الإحصاءات المتعلقة بالمقارنة بين هذين النوعين من السجون:

أولًا: بحسب البيانات الرسمية الأميركية؛ يقضي السجناء في السجون العامة أقل من نصف ما يقضونه في السجون الخاصة بالمتوسط، وهو دليل على عمل السجون الخاصة على رفع مُدد بقاء السجناء فيها أكبر وقتٍ ممكن.

ثانيًا: تُظهر البيانات أن حالات العنف داخل السجون الخاصة أعلى بنسبة: 50% تقريبًا من حالات العنف في السجون العامة، في حالة العنف بين المساجين أنفسهم، وأعلى بنسبة: 65% في حالة العنف ضد حراس السجن.

وقد يرجع ذلك إلى أسباب مختلفة قد يصعب معرفتها، لكن إحدى الإحصاءات تُفيد بمعرفة أحد هذه الأسباب، وهو قلة عدد ساعات التدريب اللازمة للحراس في السجون الخاصة مقارنة بالعامة، فالسجون الخاصة تستلزم: 58 ساعة تدريب أقل من السجون العامة، وهو ما يعني أن السجن الخاص خفض تكلفة التدريب؛ على حساب أمن وسلامة المساجين، وحراس السجن، مسببًا بذلك ارتفاع نسبة ربحه.

مصدر الصورة: رويترز

ثالثًا: أن نسبة حراس السجون الخاصة الذين يقررون ترك العمل أعلى بثلاثة أضعاف من نسبتهم في السجون العامة، وهو ما يعني حكمًا انخفاض خبرة هؤلاء الحراس مقارنة بحراس السجون العامة، وطبيعي أن السجون الخاصة تستفيد من المعدلات المرتفعة في ترك العمل لديها؛ لأن توظيف حراس غير مدربين يعني توظيفهم برواتب أقل، مقارنة بحالة اضطرار السجون لرفع الرواتب بشكل مستمر للحراس حال استمرارهم في العمل.

رابعًا: كشفت إحدى الدراسات في أحد السجون الخاصة في “الولايات المتحدة الأميركية”؛ وتحديدًا في ولاية “مسيسيبي”، أن السجناء يُعانون من نقص في الغذاء؛ وأن أوزانهم نقصت ما بين: 4.5 – 27 كيلوغرام خلال مدة احتجازهم.

ولا تحتاج هذه الشركات لنشر كثير من المعلومات عن ظروف الاحتجاز، والصورة السلبية العامة عن المجرمين في المجتمع تمنع إمكانية كشف كثير من التعديات التي يُقصد منها تقليل التكلفة على الشركات الخاصة؛ ما يعني إمكانية أكبر لعدم معرفة المشكلات الحاصلة داخل هذه السجون، وربما في بعض الحالات عدم معرفة مقدار الربح، وربما أيضًا الفساد الحاصل في هذه السجون.

الربح أمام إعادة التأهيل: التناقض القاتل !

يُفترض أن يكون أحد أهم وظائف السجون هو إعادة تأهيل المساجين؛ بحيث لا يرتكبون جريمة مرة أخرى تُجبرهم على الرجوع إلى السجن، ولكن ألا يتناقض هذا مع وظيفة السجون الخاصة ؟.. هذا ما سنعرفه الآن.

في حالة السجون العامة الموضوع بسيط جدًا: الحكومة تنفق مبالغ طائلة على المساجين، لكنها لا تستطيع تحمل تكلفة وجود المجرمين بدون عقاب، ولكن الأفضل بالنسبة لها تخفيض الجريمة إلى أقل حد، أو في حالة افتراضية إنهاؤها تمامًا، والتخلص من تكاليف طائلة تُدفع كل يوم على المساجين.

لذلك نظريًا يمكن القول إن نموذج السجن العام متوافق مع هدفه الطبيعي بإعادة التأهيل، فليس من مصلحة الحكومة أن تستمر بالدفع على هؤلاء المساجين للأبد، ولا أن يعودوا للسجن لاحقًا، ولكن الموضوع مختلف تمامًا مع السجون الخاصة؛ فإذا إنتهت الجريمة، أو انخفضت، فهذا يعني انخفاض الأرباح؛ إذًا كيف يمكن التعويل على هذه السجون لتأدية وظيفة مناقضة لنموذج عملها ؟

توضح البيانات الرسمية من “وزارة العدل” الأميركية؛ أن: 82% من المساجين المُطلق سراحهم أعيد اعتقالهم خلال: 10 سنوات من إطلاق السراح، مع ملاحظة أن نسبة من يُعاد سجنهم تنخفض مع مرور الزمن عن تجربة السجن، وهذا قد يكون انعكاسًا للأثر السلبي للسجن على المُدانين؛ ما يعني عدم استفادتهم من تجربة السجن لإعادة التأهيل.

يعتقد الكثيرون أن حرب “ريغان” على المخدرات لم تحصل إلا لهذا السبب؛ فهذه الحرب أتت معها قوانين أكثر تشددًا في حبس المدانين وفي طول مُدد سجنهم، وهو مفيد جدًا لأصحاب السجون الخاصة، كما أنه مفيد جدًا للشركات الخاصة التي تعمل لتوفير خدمات ضمن السجون العامة، سواءً في توفير الغذاء، التنظيف والصيانة وغيرها من المهام.

كما أن هؤلاء المساجين يعملون بمقابل زهيد جدًا – مثل: 0.1 دولار في الساعة؛ أو دون مقابل أصلًا على اعتبار كونهم “طلابًا” و”متدربين”، لصالح شركات تُدر ربحًا كبيرًا، وتتعاقد مع السجون الخاصة لتوظيف المساجين؛ فيما يوفر ربحًا ضخمًا لكلا الطرفين على حساب المساجين، ويجعل من مصلحة هذه الشركات جميعًا زيادة عدد المساجين، وإطالة مدد حبسهم، كما أنه قد جرى تسجيل حالات إجبار للمساجين على العمل في السجون الخاصة.

وتنخرط في هذه الصناعة بشكل مباشر وغير مباشر؛ شركات تُقدر مبيعاتها بالمليارات، وتستطيع الضغط على الحكومة والتدخل في صناعة القوانين والتشريعات المفيدة لعملها، والتي تُدر أرباحًا طائلة، ولكونها شبكة معقدة من الشركات المختلفة؛ فهي تستطيع التحالف فيما بينها لإتمام عمليات الضغط على الحكومة والمشرعين، وتمتلك رأس مال وقوة أكثر من كافيين لفعل ذلك.

فإذا كانت النظرية الوظيفية في علوم الاجتماع تقضي بفائدة الجريمة للمجتمع؛ رغم غرابة الفكرة، فإن النموذج الذي يُطبق في “الولايات المتحدة الأميركية” يُفيد جزءًا معينًا من المجتمع، على حساب باقي المجتمع، فبدلًا عن قانون عادل وتطبيق سليم له، من المنطقي أن نقول إن “أميركا” بحكومتها، وتشريعاتها، وشركاتها الخاصة، تُدير واحدة من أكبر مشاريع استغلال البشر، وعلى عدد كبير من سكان البلاد.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة