خاص : كتبت – نشوى الحفني :
ما إن حدث تمرد قائد مجموعة (فاغنر) شبه العسكرية؛ “يفغيني بريغوجين”، وتوالت التعليقات المناهضة لنظام الرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، فاعتبر الرئيس الفرنسي؛ “إيمانويل ماكرون”، أن التمرد يُظهر الانقسامات الموجودة داخل المعسكر الروسي، وهشاشة جيوشه وقواته الرديفة.
كما اعتبرت “الولايات المتحدة”، أن التمرد شّكل تحديًا لسلطة “بوتين”؛ وكشف وجود: “تصدّعات حقيقية” في أعلى هرم السلطة، وأجبر السلطات على: “الدفاع” عن “موسكو”، بحسّب وزير الخارجية الأميركي؛ “آنتوني بلينكن”.
وتابع “بلينكن”: “لم نشهد بعد الفصل الأخير”؛ من هذه الانتفاضة، وأضاف: “لكن وجود أحد ما في الداخل يتحدى سلطة بوتين ويُشّكك بشكلٍ مباشر في الأسباب التي من أجلها أطلق هذا الهجوم على أوكرانيا؛ هو أمر وقعّه قوي جدًا”.
من جهته؛ علق الرئيس الأوكراني؛ “فولوديمير زيلينسكي”، على: “تمرد اليوم الواحد”؛ الذي وقع في “روسيا” وانتهى السبت، معتبرًا أنه عرّى ضعف “بوتين”.
وقال الرئيس الأوكراني؛ “فولوديمير زيلينسكي”، إن الأحداث التي وقعت في “روسيا”، يوم السبت، كشفت ضعف حكم الرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”.
هيبّته وقوته وحياته على المحك..
وتوالت تعليقات المحللين والخبراء الدوليين والصحف الدولية بعد ذلك؛ ففي مقال تحت عنوان: “كيف يخرج بوتين من هذه الإهانة لهيبّته وقوته ؟”، بصحيفة (فايننشال تايمز) البريطانية، قارن الكاتب “جدعون راخمان”، بين وضع “روسيا” منذ أكثر من عام ووضعها في الوقت الراهن. قبل خمسة عشر شهرًا، كان جيش الرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، في ضواحي “كييف”. أمس، كان القائد الروسي قلقًا من خسّارة السّيطرة على “موسكو”.
يُعتبر تمرد قوات (فاغنر)؛ بقيادة “يفغيني بريغوجين”، التأكيد النهائي على مدى كارثية الخطأ الذي بلغته الحرب في “أوكرانيا” بالنسبة إلى “بوتين”. فحتى لو انتصر الرئيس الروسي في المعركة المباشرة ضد (فاغنر)، تقول (فايننشال تايمز) إنه من الصعب تصديق أن “بوتين” يمكن أن ينجو في النهاية من هذا النوع من الإهانة. هيبّته وقوته وحتى حياته أصبحت الآن على المحك. المفارقة التاريخية هي أن تصرفات “بوتين”؛ هي التي تسّببت بوقوع أكثر ما يخشاه: تمرد يُهدد كلاً من الدولة الروسية وسلطته الشخصية.
مخاوف تاريخية..
يعود خوف “بوتين”؛ من “ثورة ملونة” في “روسيا”، إلى ما يقرب من 20 عامًا. تكمن أصوله في “أوكرانيا”. أثارت “الثورة البرتقالية” سنة 2004، وهي انتفاضة شعبية ديمقراطية ضد انتخابات مزورة في “أوكرانيا”؛ (بحسب ترويج الصحيفة الأميركية المضلل)، حالة من جنون الارتياب لدى الرئيس الروسي؛ وقد اشّتدت بشكلٍ مطرد على مر السنين. منذ ذلك الحين، ظل “بوتين” مسّكونًا بخوفين مترابطين.
الأول هو أن تنزلق “أوكرانيا” من قبضة “روسيا” بشكلٍ لا رجوع عنه. الثاني هو أن تكون انتفاضة ناجحة مؤيدة للديمقراطية في “كييف” بمثابة بروفة لحدوث الشيء نفسه في “موسكو”. كان قراره بغزو “أوكرانيا”؛ سنة 2022، محاولة لإنهاء كلا الخطرين في النهاية، من خلال تنصيب حكومة موالية لـ”روسيا” في “كييف”.
استخفاف ومبالغة قاتلة..
بصفته عميلاً سابقًا في الاستخبارات ومنظرًا للمؤامرة، كان “بوتين” مقتنعًا بأن أصول أي: “ثورة ملونة”، سواء في “أوكرانيا” أو “روسيا”، ستكّمن في “واشنطن”. أدى رفضه للاعتقاد بأن الأوكرانيين قد يكون لديهم شخصية معنوية أو سلطة إلى استخفافه القاتل بقوة مقاومة البلاد لغزو روسي.
بالإضافة إلى التقليل من أهمية القوة الأوكرانية، عمد “بوتين” المخمور بأساطير “الجيش الأحمر” في الأربعينيات؛ إلى مبالغة قاتلة في تقدير القوة العسكرية الروسية. فتح فشل الجيش الروسي الباب أمام مجموعة (فاغنر) لدخول الحرب. أعطى هذا “بريغوجين” قاعدة لقوته ومنصة دعائية سمحتا له في النهاية بالانقلاب على الدولة الروسية.
تذكير بفشل الانقلاب ضد “غورباتشوف”..
لطالما كان خطاب “بوتين” أمام الشعب الروسي هو أنه أنقذ البلاد من فوضى التسعينيات. لكن ما حدث السبت يُذكر المراقبين بالفشل العسكري والانقلاب المتشّدد ضد؛ “ميخائيل غورباتشوف”، سنة 1991، عندما قام “بوريس يلتسين” بنشر دبابة خارج البرلمان. في تلك المرحلة، لعب شعب “موسكو” دورًا حيويًا في تكشف الأحداث. سيكون رد فعل السكان الروس على انتفاضة “بريغوجين” جزءًا مهمًا، وهو غير معروف حتى الآن، من هذه القصة.
في ملاحظاته الأولى عن انتفاضة “بريغوجين”، نظر “بوتين” إلى سابقة أكثر قتامة: “الطعنة في الظهر”؛ المزعومة التي أنهت المجهود الحربي الروسي سنة 1917، ودفعت البلاد إلى ثورة وحرب أهلية. كان من المفترض أن تنقل هذه الكلمات صلابة الهدف. لكنها لم تكن مطمئنة، حسّب “راخمان”.
فرصة تاريخية لمعارضي “بوتين”..
سوف يمنح تمرد (فاغنر) الأمل لمعارضي حكم “بوتين”، داخل “روسيا” وخارجها. بالنسّبة إلى الجيش الأوكراني الذي فشل هجومه المضاد في تحقيق اختراق، تبدو هذه فرصة تاريخية. إذا انقلبت القوات الروسية على بعضها البعض أو تم سّحبها من خط المواجهة للدفاع عن “بوتين” فقد تنهار في شرق “أوكرانيا”.
أضاف الكاتب؛ أن “بريغوجين” ليس ليبيراليًا بالطبع. خطابه قومي وإمبريالي صارم. تتمتع قوات (فاغنر) بسّمعة عن قسّوتها مكتسّبة عن حق. لكن “بريغوجين”، مثل “بوتين”، أطلق العنان الآن للقوى التي سيكافح من أجل السّيطرة عليها.
كسّيرًا للأبد..
من جهتها؛ ذكرت صحيفة (تليغراف) البريطانية؛ أن هذه هي نهاية الطريق لـ”فلاديمير بوتين”. قد ينجو بنفسه من ثورة مسّلحة بقيادة “يفغيني بريغوجين” ومرتزقة (فاغنر) الذين صنعهم، لكنه سيُمسّي كسّيرًا إلى الأبد، وأيامه في (الكرملين) معدودة، معتبرة أن هالة الحصانة والسّيطرة التي رسّمها “بوتين” حول نفسه، التي تضررت بشدة بسبب غزوه المضلل والفاشل لـ”أوكرانيا”، ستتحطم قريبًا. فالروس يُفضلون أن يكون قادتهم أقوياء ويعدون الضعف مهلكًا.
وملايين الروس الذين تطلعوا إلى “بوتين” بأمل بصفته منقذهم الذي لا يُقهر بعد أن أعاد لهم الفخر الروسي إثر انهيار “الاتحاد السوفياتي” عام 1991، ومذلة التسعينيات، سيرون أمامهم رجلاً كسّيرًا.
والمسؤولون الروس الذين كانوا في السابق متواضعين وتهافتوا على إرضاء “بوتين”؛ على أمل أن ينالوا حظوظًا وثروات وخدمات، سيتطلعون إلى سواه الآن.
والقادة الروس والسوفيات نادرًا ما صمدوا لفترة طويلة بعد أي انقلاب عسكري، حتى لو كان مآله الفشل في النهاية.
انقلاب أم ثورة على وزير الدفاع ؟
بذل “بريغوجين”؛ الذي لا يكّل ولا يمّل قصّارى جهده ليوضح أن هذا ليس انقلابًا، وإنما ثورة على وزير الدفاع الروسي؛ “سيرغي شويغو”، ورئيس أركان الجيش الروسي؛ “فاليري غيراسيموف”، الذي اتهمه “بريغوجين” بانعدام الكفاءة التي أفضت إلى مقتل آلاف الجنود الروس.
لكنها ثورة مسّتترة، تقول الصحيفة، إذ إن “بوتين” هو رئيس الدولة. وإذا كان الجنود الروس يُحاربون مرتزقة روسًا في “روسيا”، فستكون قيادته للبلد في خطر جسّيم.
انتفاضة بتخطيط محكم..
ويبدو أن هذه الانتفاضة حظيت بالتخطيط المحكم من “بريغوجين” وجيشه الخاص. فقد ورد في تقارير أنهم سّيطروا على مواقع عسكرية محورية محيطة بمدينتي: “روستوف” و”فورونيغ”، وأنهم يُخططون للزحف على “موسكو”، قبل أن يُعلنوا انسّحابهم ليلاً بموجب اتفاق توسّطت فيه “بيلاروسيا”.
وكان صراخ “بريغوجين”؛ ضد الجيش الروسي، متزايدًا طوال الأسبوع الماضي. ويوم الجمعة الماضي، انتقل من الانتقادات البالية لتكتيكات الجيش الروسي إلى الطعن في دوافع غزو (الكرملين) لـ”أوكرانيا”، الذي وصفه أيضًا بغير الضروري والفاشل.
وكانت تلك تصريحات خطرة، لأن الجميع يعلم أن “بوتين” هو الذي اتخذ قرار الغزو.
وقال “بريغوجين”؛ إنه جند: 25 ألف مقاتل دعمًا لقضيته. وبعض هؤلاء من المُدانين السابقين، لكن البعض الآخر يضم خيرة الجنود الروس وجنود القوات المسّلحة السابقين وأعضاء سابقين من حرس (الكرملين).
ورغم أن هذه الأرقام قد تكون مضخمة؛ فهؤلاء مخلصون لـ”بريغوجين” ويروق لهم تصديه للجيش الروسي، وسّيطرته على مدينة “باخموت” بعد حصار عصيب دام ثمانية أشهر.
الروح المعنوية في الحضيض..
ولم يكن واضحًا ما إذا كان الجيش الروسي المسّلح تسّليحًا أفضل من (فاغنر) بمزيد من الدبابات والمروحيات الهجومية والطائرات الحربية، ولكن معنويات جنوده في الحضيض ويُعاني من قيادة مشكوك في قدراتها، سيكون قادرًا على التصدي لقوة أصغر عددًا، ولكنها أكثر إصرارًا وعزيمة.
استمالة “الحرس الوطني”..
واسّتمال “بريغوجين” أيضًا أعضاء من (الحرس الوطني)؛ الذي يُعد أحد أكبر الجيوش داخل “روسيا”، واسّتمال أيضًا جنودًا آخرين للانضمام إليه. ولكن بقي السؤال معلقًا: هل سينضمون إليه ؟.. علمًا أن الجنرال “سيرغي سوروفيكين”، المشهور: بـ”الجنرال أرمغدون”، والمقرب من مجموعة (فاغنر)، أمر الجنود الروس بأن يبقوا مخلصين لـ (الكرملين).
وبالتزامن مع الدمار الذي حل بالقوات الروسية وروحهم المعنوية المتداعية بعد 16 شهرًا من الحرب في “أوكرانيا”، سيسّاور (الكرملين) القلق حيال الوضع الراهن. وتُفيد التقارير الواردة من الجبهة أن القوات الأوكرانية عّززت هجومها المضاد بالتزامن مع الانقلاب العسكري لـ”بريغوجين” بُغية اختبار معدن الجنود الروس الضعفاء أصلاً.
ردة فعل “بوتين”..
ولدينا أيضًا ردة فعل “بوتين”؛ يقول معد التقرير الأميركي، فقد اختفى الرئيس الروسي، الذي يُعده المحللون شخصًا انتهازيًا قاسيًا، وتوارى عن الأنظار لعدة ساعات قبل أن يُصدر بيانًا صباح أمس يصف فيه الثوار بالخونة.
“يهوذا بوتين” !
أدى “بريغوجين” أدوارًا عديدة صبت في صالح “بوتين”؛ على مدار عقدين من الزمان. فكان له طاهيًا وساقيًا ومُصلحًا وأمير حرب ومرتزقة، لكن الدور الأخير الذي سيؤديه ستكون له التبعات الأكبر على “بوتين” – دور “يهوذا بوتين”.
استغلال الفرصة لإبعاد زعيم “فاغنر”..
ويرى فريق من المراقبين في تقرير لـ (BBC) البريطانية، أن “بوتين” ربما استغل الفرصة التي سّنحت له، لإبعاد رجل كان يخشى من تزايد نفوذه، ونفوذ ميليشياته المسّلحة، فقد تحدث كثيرون عن أن زعيم (فاغنر)، كان ينسّج شبكة علاقات داخل بعض أفرع القوات المسّلحة، وأنه كان يُجهّر بعدائه لوزير الدفاع الروسي، وربما منح الاتفاق الأخير، الذي توسّط فيه رئيس روسيا البيضاء؛ “ألكسندر لوكاشينكو”، الفرصة لـ”بوتين” لإبعاد زعيم (فاغنر) والتخلص منه نهائيًا، وإعادة هيكلة تلك الميليشيات وفق ما يخدم مصلحته.
غير أن بعضًا من المراقبين الغربيين يرون أن تمرد (فاغنر)، وعلى عكس ما تُعلنه القيادات الروسية، ربما يُمثل جرس إنذار للرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، بضرورة إنهاء تلك الحرب، للتفرغ لترميم البيت الروسي من الداخل، ومواجهة حالة عصيان قد تتجّدد، في ظل رفض البعض لاستمرار الحرب، التي لم تُحقق فيها “موسكو” انتصارًا واضحًا حتى الآن.
وبجانب القلق من تنامي حركة عصيان داخلي، فإن كثيرين يتحدثون عن مخاطر التدهور الاقتصادي للبلاد، في ظل العقوبات المفروضة على “روسيا”، وهو ما سيؤدي في حالة الاستمرار في الحرب، إلى تدهور الحالة المعيشية للمواطنين وزيادة سّخطهم على السلطة.