وكالات – كتابات :
لم تُلق الحرب “الروسية-الأوكرانية” بظلالها الثقيلة على الأوضاع الاقتصادية والجيوسياسية العالمية فحسب، بل إن التخوف الأكبر يتمثل في احتمالية تكرار هذا السيناريو العسكري بين: “الصين” و”تايوان”، في ظل تصاعد التوترات بين البلدين؛ بهذا افتتحت الدكتورة “إيمان فخري”؛ تحليلها المنشور على موقع مركز (المستقبل) للأبحاث والدراسات المتقدمة.
وعلى الرغم من تباين وجهات النظر حول إمكانية قيام “الصين” بتوجيه ضربة عسكرية لـ”تايوان” من عدمه، والاختلاف أيضًا بشأن تحديد مدى هذه الضربة، بمعنى هل سيكون هناك اجتياح بري أم مجرد ضربات جوية للمواقع الحيوية في “تايوان”؛ بيد أن ثمة إجماعًا بين الخبراء والمراقبين على أن أي حرب بين “الصين” و”تايوان” سيكون لها تأثير مُدمر على الاقتصاد العالمي.
ونرصد في هذا التحليل أهم أوجه التأثيرات الاقتصادية العالمية المُتوقعة في حالة نشوب حرب بين: “الصين” و”تايوان”. ويمكن عرضها في النقاط التالية:
01 – فرض عقوبات اقتصادية على “الصين”..
من المُتوقع أن تُقدم “الولايات المتحدة” والدول الغربية وبعض الدول الآسيوية؛ على فرض عقوبات اقتصادية على “الصين”، في حالة اندلاع حرب مع “تايوان”، وهنا المجال الأكثر عُرضة للعقوبات سيكون واردات “الصين” من الطاقة؛ وذلك لوقف الآلة العسكرية لـ”الصين” وممارسة ضغط قوي على اقتصادها.
ولكن العقوبات الاقتصادية على “بكين” ستكون سلاحًا ذا حدين؛ بسبب أنها مُندمجة بشكلٍ كامل في الاقتصاد العالمي، حيث تُسيطر “الصين” حاليًا على: 18.2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في العام الماضي، خلف “الولايات المتحدة”؛ البالغة حصتها: 23.8%، في حين تمتلك “روسيا”: 3.11% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
كما تُعد “الصين” مركزًا صناعيًا عالميًا وأكبر سوق تصدير لمعظم دول العالم، بما في ذلك “الولايات المتحدة” و”أوروبا”، ناهيك عن أن “الصين” حاليًا هي أكبر دائن منفرد في العالم مع امتلاكها قروضًا مُستحقة على دول أخرى بقيمة: 05 تريليونات دولار أو أكثر من: 6% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وفي هذا السياق؛ من المُحتمل ألا يخشى قادة “الصين” من العقوبات الاقتصادية، لإدراكهم أنها لن تؤثر على اقتصادهم من دون أن يتم إلحاق الأضرار بالتجارة العالمية وسلاسل التوريد والمؤسسات المالية الدولية.
02 – تعطل الصناعات التكنولوجية في “الصين”..
سيتأثر الاقتصاد الصيني بتوقف إمدادات “تايوان” من الرقائق الإلكترونية، حيث تُشير الإحصاءات إلى أن “بكين” تستورد: 40% من احتياجاتها من الرقائق من “تايوان”.
وبالرغم من أن بعض المحللين يرون أن “الصين” إذا نفذت عملية اجتياح بري لـ”تايوان” ستتمكن من السيطرة على مصانع الرقائق، فإن هذا السيناريو مردود عليه، حيث من المُتوقع أن تقوم “تايوان” بتدمير منشآت تصنيع الرقائق مع بدء أي عملية عسكرية صينية، كنوع من الدفاع عن النفس وتحميل “الصين” مسؤولية الأزمة العالمية الطاحنة التي ستطال الصناعات التكنولوجية جراء الحرب.
وبالتالي، إذا تمكن الاقتصاد الصيني من التغلب على العقوبات الاقتصادية، فإنه من الصعب التغلب على نقص الرقائق الإلكترونية.
03 – إضعاف اقتصاد “تايوان”..
سيؤثر أي صراع عسكري بين “الصين” و”تايوان”، سلبًا على النشاط الاقتصادي في الأخيرة، وذلك من عدة أوجه؛ أولها انخفاض معدلات التصدير، حيث تستوعب “الصين” و”هونغ كونغ”، حوالي: 50% من صادرات “تايوان”.
وفي حالة تصاعد التوترات العسكرية، من المُتوقع أن تفرض “الصين” قيودًا على واردات “تايوان”، لاسيما من الفاكهة التي يتم تصديرها بشكل حصري إلى “الصين”، وهو ما سيخلق أزمة كبيرة للمزارعين في “تايوان” والذين قد يحتجون ويلومون حكومتهم على تدهور العلاقات مع “بكين”.
ويتمثل ثاني التأثيرات الاقتصادية في توجيه المزيد من الموارد إلى موازنة الدفاع، حيث خصصت “تايوان”:: 8.7 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المُقبلة لشراء الأسلحة، بما في ذلك معدات عسكرية دقيقة بعيدة المدى، وسفن حربية.
وهنا فإن التركيز على تخصيص الموارد لموازنة الدفاع قد يكون له تأثير سلبي على موازنة البحث والتطوير وقدرة الاقتصاد التايواني على التطور.
أما الوجه الثالث من التأثيرات؛ فينصرف إلى تراجع معدلات الاستثمارات الأجنبية في “تايوان”، وسعي المستثمرين لتوجيه استثماراتهم إلى شركات الرقائق الإلكترونية في “الولايات المتحدة” و”أوروبا”.
ولا شك أن اندلاع أي حرب بين “تايوان” و”الصين” سيضر بشدة مختلف العمليات الإنتاجية في الأولى، وسيطال جميع الصناعات بما فيها صناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات.
04 – شلل الصناعات الإلكترونية العالمية..
تُعد “تايوان”، عبر شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية؛ (Taiwan Semiconductor Manufacturing Company)، المورد الرئيس للرقائق الإلكترونية الدقيقة في العالم، حيث تُشارك بحصة تصل إلى: 90% من إجمالي الطلب العالمي من الرقائق الإلكترونية.
وكما هو معلوم، تُعتبر أشباه الموصلات والرقائق الالكترونية مُكونًا رئيسًا لجميع الصناعات الإلكترونية تقريبًا، بدءًا من الهواتف وأجهزة الكمبيوتر والساعات، إلى وحدات التحكم في الألعاب والمُعدات الصناعية، وصولاً إلى السيارات والطائرات المدنية والعسكرية وغيرها.
وبشكلٍ خاص، تتفوق “تايوان” في إنتاج الرقائق التي تقل عن: 10 نانومترات، مما يجعلها المورد الرئيس للغالبية العظمى من تلك النوعية اللازمة لتشغيل الأجهزة الإلكترونية الأكثر تقدمًا في العالم، من تليفونات (آي فون)؛ التي تُصّنعها شركة (آبل) الأميركية، إلى الطائرات المُقاتلة من طراز (إف-35).
ومن ثم، فإن أي نقص في أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية سيؤثر على صناعات عديدة في العالم.
وجديرٍ بالذكر أن جائحة (كورونا) أدت إلى اضطراب سلاسل توريد أشباه الموصلات على مستوى العالم، مما كان له تأثير سلبي على صناعة السيارات، حيث قامت شركات (فورد) و(غاغوار لاند روفر)، و(فولكس فاغن) – وهي أكبر ثلاثة من مُصنعي سيارات في العالم – بإغلاق عدد من مصانعهم، وخفض إنتاج السيارات، وتسريح آلاف العمال؛ خلال العام الماضي.
وبالتالي، فإن حدوث أي اضطراب في “تايوان” سيؤدي إلى شلل شبه تام في الصناعات الإلكترونية في العالم، علمًا بأن “الصين” لا تُنتج سوى: 5% فقط من الإنتاج العالمي للرقائق، ولا تُنتج الرقائق المُتقدمة التي تتفوق فيها “تايوان”.
ووفقًا لدراسة أجرتها (مجموعة بوسطن الاستشارية)، فإن انقطاع إمدادات الرقائق التايوانية لمدة عام واحد سيُكلف شركات التكنولوجيا العالمية ما يقرب من: 600 مليار دولار.
وتحسبًا لهذا السيناريو الكارثي، تعمل الدول الكبرى حاليًا على تنويع سلاسل تصنيع وتوريد أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية، حيث تعتزم الشركات التكنولوجية الأميركية ضخ ما يقرب من: 80 مليار دولار كاستثمارات جديدة في صناعة أشباه الموصلات في “الولايات المتحدة” حتى عام 2025.
ومن المُزمع أيضًا أن تبدأ شركة (TSMC) التايوانية في بناء مصانع تصنيع أشباه الموصلات في ولاية “آريزونا” الأميركية ومدينة “كوماموتو” اليابانية؛ في عام 2024. ومن المُقرر أن تُدشن شركة الإلكترونيات الدقيقة المتحدة؛ (UMC) التايوانية – وهي ثالث أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم – مصنعًا في “سنغافورة” في العام نفسه.
لكن من المُتوقع أن تستغرق هذه الجهود وتلك الاستثمارات الضخمة أعوامًا عديدة من أجل تقليل سيطرة “تايوان” على مجال صناعة الرقائق الإلكترونية. كما تُدرك “تايوان” أن تفوقها في صناعة الرقائق هو عامل الحماية الأهم لها من أي تدخل عسكري صيني مُحتمل، لذا ليس متوقعًا أن تقوم الحكومة التايوانية بنقل تقنيات تصنيع الرقائق كافة إلى الخارج.
وبالتالي، لا يبدو أن هناك بديلاً عن الاعتماد التكنولوجي العالمي على “تايوان” في المديين القصير والمتوسط.
05 – اضطراب حركة التجارة العالمية..
يُتوقع أن يؤثر سيناريو الحرب بين “الصين” و”تايوان” على معدلات التجارة العالمية، والآسيوية على وجه خاص، وذلك في ضوء الاعتمادية العالية في العالم على “الصين” في تلبية احتياجات الأسواق من السلع الزراعية والصناعية.
وقد يواجه العالم نقصًا سلعيًا شديدًا، خاصةً في المُنتجات الغذائية والطبية في حالة التصعيد العسكري بين البلدين.
وفي هذا السياق؛ سينجم عن سيناريو التصعيد العسكري اضطراب في خطوط الشحن البحري في “بحر الصين الجنوبي”؛ والذي تمر عبره شحنات تجارية تُقدر بقيمة: 5.3 تريليون دولار أميركي سنويًا، كما يمر عبره أكثر من: 60% من التجارة البحرية العالمية، وأكثر من: 22% من إجمالي التجارة العالمية، و40% من المُنتجات البترولية العالمية.
وبالتالي، فإن أي صراع عسكري بين “الصين” و”تايوان” سيترتب عليه ارتفاع جنوني في أسعار المُنتجات النفطية وغير النفطية.
06 – خسائر لاقتصادات منطقة آسيا والمحيط الهاديء..
تُعد “اليابان” من أكثر الدول المُتضررة اقتصاديًا في حال نشوب حرب بين “الصين” و”تايوان”، حيث تمر: 40% من التجارة البحرية لـ”اليابان” عبر “بحر الصين الجنوبي”، مما قد يُعيق حركة التجارة اليابانية.
كما أنه في حالة مساندة “اليابان”؛ لـ”تايوان”، فإن “الصين” – الشريك التجاري الرئيس لـ”اليابان” – ستقوم بفرض قيود للحد من تجارتها مع “اليابان”، وهو ما سيُقوض استقرار الاقتصاد الياباني.
وقد يُعاني الاقتصاد الأسترالي كذلك من تراجع صادرته إلى “الصين”، لاسيما في مجالي الزراعة والتعدين. ومن المُتوقع أن تشهد قطاعات تجارة التجزئة والبناء والصناعات التحويلية في “أستراليا”، تراجعًا شديدًا مع اضطراب خطوط الشحن البحري والجوي، مع الأخذ في الاعتبار احتمالية فرض “الصين” قيودًا على التجارة مع “أستراليا” إذا ساندت الأخيرة “تايوان”.
ومع فرض قيود على التجارة مع “الصين”، من المُنتظر أيضًا أن يواجه قطاع الكيماويات والأدوية في “الهند” تحديات جسيمة؛ بسبب التبعية الحالية لـ”الصين” في هذين القطاعين تحديدًا.
ختامًا، يتعين التأكيد أن قياس الأثر الاقتصادي لسيناريو التدخل العسكري الصيني في “تايوان” يعتمد على عاملين جوهريين؛ الأول يرتبط بحدود ومدى هذه العملية العسكرية، فإذا تم فقط توجيه ضربات صاروخية لبعض المنشآت العسكرية التايوانية؛ سيكون التأثير الاقتصادي أقل ضررًا من سيناريو الغزو البري.
وينصرف العامل الثاني إلى توقيت التدخل العسكري المُحتمل، فإذا بدأت “بكين” في شن عمل عسكري ضد “تايوان”؛ خلال السنوات الثلاث القادمة، فإن الآثار الاقتصادية ستكون مُدمرة وقد لا يُمكن التعافي منها، خاصةً على صعيد الصناعات التكنولوجية والتي تُعد عصب النمو الاقتصادي العالمي، حيث يصعب تأمين مصدر آخر لتوفير الرقائق الإلكترونية خلال هذه الفترة القصيرة نسبيًا.
أما إذا قامت “الصين” – بعد فترة زمنية طويلة – بشن عملية عسكرية ضد “تايوان”، فإنه بإمكان العالم احتواء بعض الآثار الاقتصادية السلبية المُحتملة على صناعات الإلكترونيات العالمية.
وعلى أية حال، وفي إطار كل السيناريوهات، لا يمكن تجنب حدوث تراجع في معدلات التجارة والاستثمار العالميين، وحدوث أزمة جديدة في نقص السلع وتضخم أشد تأثيرًا مما نشهده الآن، فـ”الصين” تُهمين على سلاسل التصنيع والتوريد لمعظم السلع الاستهلاكية في العالم.