وكالات – كتابات :
في مقاطعة “ليكنغ”، بولاية “أوهايو” الأميركية، تنقل أساطيل من شاحنات التفريغ والجرافات في الموقع المستقبلي لأكبر مصانع الرقائق الإلكترونية الأميركية، حيث تقوم شركة (إنتل) ببناء منشآت هناك بتكلفة حوالي: 20 مليار دولار لأجل أصغر منتج في العالم، والأكثر طلبًا في نفس الوقت.
وفي آذار/مارس الماضي، وصف الرئيس الأميركي؛ “جو بايدن”، هذا المشروع بأنه: “حقل الأحلام”، في خطابه عن حالة الاتحاد، قائلاً إنه: “الأرضية التي سيُبنى عليها مستقبل أميركا”.. لكن ما الذي يحدث الآن لهذه الصناعة الضخمة والهامة بفعل الركود ؟
صناعة الرقائق الإلكترونية الأميركية تتحول لـ”كوابيس” مرعبة بسبب الركود..
تقول مجلة (إيكونوميست) البريطانية، إنه في الربيع الماضي كان من السهل أن يحلم “بايدن” بتطوير صناعة الرقائق في “أميركا”، حيث أثبتت أزمة نقص الرقائق الإلكترونية أو “أشباه الموصلات”؛ التي سببتها إغلاقات الوباء، مدى أهمية الرقائق في الحياة الحديثة، فهي التي تدخل في صناعة كل شيء حديث تقريبًا، من الشاشات إلى الهواتف والسيارات وحتى الأسلحة والصواريخ النووية.
وفي شهر آذار/مارس 2022، حيث كان الطلب لا يزال في ارتفاع على جميع أنواع التكنولوجيا التي تعمل بالرقائق، كان المستثمرون أكثر تفاؤلاً حول الرقائق مقارنةً بالتقنيات الأخرى، التي كانت تتعرض لضربة في سوق الأوراق المالية. وكان “قانون الرقائق” أو (chips)، يشق طريقه عبر “الكونغرس”، واعدًا بضخ إعانات بقيمة: 52 مليار دولار في الصناعة المحلية، من أجل تقليل اعتماد “أميركا” على الصناعات التحويلية الأجنبية، ودعم مشاريع مثل مصنع (إنتل)؛ في “أوهايو”.
لكن بعد نصف عام تبدو الأحلام مرعبة بسبب شبح الركود، حيث ينخفض الطلب على التقنيات بالسرعة التي ارتفع بها خلال الوباء. ففي أواخر أيلول/سبتمبر 2022، أعلنت شركة (Micron)، الشركة المصنّعة لرقائق الذاكرة في ولاية “أيداهو”، عن انخفاض بنسبة: 20% على أساس سنوي في المبيعات الفصلية.
وبعد أسبوع من ذلك الإعلان خفضت شركة تصميم الرقائق الأميركية؛ (amd)، في “كاليفورنيا”، تقديرات مبيعاتها للربع الثالث بنسبة: 16%. وفي غضون أيام من تلك الأنباء ذكرت وكالة (بلومبيرغ) الأميركية أن شركة (إنتل) تُخطط لتسريح الآلاف من الموظفين، بعد سلسلة من النتائج السيئة التي من المحتمل أن تستمر، كما سيورد تقريرها ربع السنوي ذلك، في 27 تشرين أول/أكتوبر 2022.
صناعة الرقائق الإلكترونية الأميركية.. إنهيار بمقدار 1.5 تريليون دولار..
منذ تموز/يوليو، قامت حزمة من أكبر: 30 شركة رقائق إلكترونية أميركية بخفض توقعات الإيرادات للربع الثالث على التوالي، من: 99 مليار دولار إلى: 88 مليار دولار. ومنذ بداية العام وحتى الآن – أي منتصف تشرين أول/أكتوبر 2022 – تم محو أكثر من: 1.5 تريليون دولار من القيمة السوقية المجمعة لشركات أشباه الموصلات الأميركية المدرجة، بحسب البيانات التي جمعتها مجلة (إيكونوميست) البريطانية.
وتشتهر صناعة الرقائق بالتقلبات الدورية في أفضل الأوقات: السعة الجديدة المبنية على استجابة للطلب المتزايد تستغرق عدة سنوات حتى تتحقق، وفي ذلك الوقت لم يُعد الطلب مرتفعًا. في “أميركا” يتم الآن شحن هذه الدورة من قبل الحكومة.
ويُعد “قانون الرقائق”، الذي أصبح ساريًا في آب/أغسطس الماضي، محفزًا لجانب العرض في أعمال أشباه الموصلات، بينما تُكثف إدارة “بايدن” جهودها لمنع الرقائق الأميركية الصنع ومعدات صناعة الرقائق من الذهاب إلى “الصين”، حيث تسعى “بكين” بقوة لمنافسة “واشنطن” في سوق أشباه الموصلات العالمي.
وسواء أكان من المنطقي بالنسبة لـ”أميركا” جلب المزيد من إنتاج الرقائق إلى الولايات الأميركية أم لا، وإعاقة “الصين”؛ منافستها الجيوسياسية، بحظر التصدير، فإن الجمع بين المزيد من العرض وقلة الطلب هو وصفة للمتاعب كما تقول الـ (إيكونوميست).
وإذا سرعت السياسات الأميركية جهود “الصين”: “لكسب المعركة بقوة في التقنيات الأساسية الرئيسة”، كما أكد الرئيس؛ “شي جين بينغ”، في خطاب ألقاه أمام مؤتمر (الحزب الشيوعي)، في 16 تشرين أول/أكتوبر 2022، فقد تؤدي إلى ظهور منافسين صينيين أقوياء. وهو ما يُهدد أحلام “بايدن”، ويخلق له كوابيس كافية أن تبقيه مستيقظًا طوال الليل.
دورة الركود أكثر حدة في سوق السلع الاستهلاكية الأميركية..
كانت دورة الركود حتى الآن أكثر حدة في السلع الاستهلاكية، وتُمثل أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية ما يقرب من نصف ما قيمته: 600 مليار دولار من المنتجات التي تدخل فيها صناعة الرقائق التي تُباع سنويًا.
وبعد عمليات شراء استهلاكية غير مسبوقة خلال الوباء، فإن المتسوقين المنهكين من التضخم الآن يشترون عددًا أقل من الهواتف والأجهزة المحمولة وغيرها من الإلكترونيات. وتتوقع شركة (Gartner) للأبحاث أن تنخفض مبيعات الهواتف الذكية بنسبة: 6% هذا العام ومبيعات أجهزة الكمبيوتر الشخصية بنسبة: 10%.
وشركات مثل (إنتل)، التي كانت تُخبر المستثمرين، في شباط/فبراير الماضي، أنها تتوقع أن ينمو الطلب على أجهزة الكمبيوتر الشخصية بشكل مطرد خلال السنوات الخمس المقبلة، تقوم بمراجعة توقعاتها، حيث يتضح أن العديد من عمليات الشراء في عصر (كوفيد) قد كانت طفرة بسبب الدعم الحكومي للمواطنين الأميركيين الجالسين في بيوتهم.
الأزمة ستطال قطاعات صناعية أخرى..
يعتقد العديد من المحللين أن القطاعات الصناعية الأخرى قد تكون التالية، حيث تسبب الذعر في الشراء وسط النقص العالمي في الرقائق، العام الماضي، في جعل العديد من شركات صناعة السيارات ومصنعي معدات الأعمال التجارية تفيض بمخزوناتها. وتُقدر شركة (New Street Research) للتحليل، أن مخزون الشركات الصناعية من الرقائق بين شهري: نيسان/إبريل وحزيران/يونيو الماضيين، كان حوالي: 40% أعلى من المستوى التاريخي بالنسبة للمبيعات. وبالمثل، فإن مخزونات صانعي أجهزة الكمبيوتر وشركات السيارات ممتلئة. وألقت شركتا (إنتل) و(ميكرون) باللوم في نتائجهما الضعيفة الأخيرة جزئيًا على ارتفاع المخزونات.
ويقول محللون إن وفرة العرض وقلة الطلب يضربان الأسعار بالفعل، حيث انخفضت تكلفة رقائق الذاكرة بمقدار الخمسين في العام الماضي، وفقًا لشركة أبحاث (Future Horizons). كما انخفض سعر الرقائق المنطقية، التي تُعالج البيانات وتكون أقل سلعة من رقائق الذاكرة، بنسبة: 3% في نفس الفترة.
وفي آب/أغسطس الماضي، لمّحت (Hewlett Packard Enterprise) و(Dell)، وهما شركتان كبيرتان لتصنيع الأجهزة، إلى أن الطلب من العملاء التجاريين قد بدأ في التراجع. ولا يستطيع صانعو الهاتف حشو المزيد من الرقائق على أجهزتهم إلى الأبد. بالنسبة لشركات مثل: (Qualcomm)، التي تستمد نصف مبيعاتها من رقائق الهواتف الذكية، وشركة (Intel)، التي تحصل على حصة مماثلة من تلك الخاصة بأجهزة الكمبيوتر، فإن هذا يُمثل مشكلة كبيرة.
كان رد صانعي الرقائق هو المراهنة على الأسواق الجديدة سريعة النمو. وتتصارع كل من: (amd) و(Intel) و(Nvidia)، وهي شركات تصميم رقاقات كبيرة أخرى، على مراكز بيانات الحوسبة السحابية، حيث لا يزال الطلب على الرقائق يتزايد.
المنافسة مع “الصين”..
مثل نظرائهم في “الصين” و”أوروبا”، يُريد السياسيون في “أميركا” تقليل اعتماد بلدانهم على صانعي الرقائق الأجانب، ولا سيما العملاق التايواني؛ (tsmc)، التي تُصّنع: 90% من الرقائق الرائدة في العالم.
ردًا على ذلك تُخطّط “أميركا والصين والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان” لدعم صناعة الرقائق المحلية، بما يصل إلى: 85 مليار دولار سنويًا على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وفقًا لحسابات محللين.
في الوقت نفسه؛ تتضاءل احتمالات تفريغ الرقائق الأميركية، خاصة بالنسبة للشركات الأميركية، نتيجة تشديد الضوابط الأميركية على الصادرات إلى “الصين”. حيث تُعتبر العديد من الشركات الأميركية أن العملاق الآسيوي، الذي استورد ما قيمته: 400 مليار دولار من أشباه الموصلات العام الماضي، هو أكبر أسواقها.
وشكلت مبيعات (إنتل) الصينية: 21 مليار دولار من إجمالي إيراداتها البالغة: 79 مليار دولار العام الماضي. وقالت شركة (Nvidia) إن جولة سابقة من القيود، التي حدّت من مبيعات رقائق مراكز البيانات المتقدمة للعملاء الصينيين و”روسيا” بعد غزوها لـ”أوكرانيا”، ستُكلفها: 400 مليون دولار في مبيعات الربع الثالث، أي ما يُعادل: 6% من إجمالي إيراداتها.
تُمثل القيود الأخيرة، التي تستهدف الحوسبة الفائقة وجهود الذكاء الاصطناعي في “الصين”، مصدر قلق خاصًا للشركات التي تُصّنع أدوات صناعة الرقائق. ثلاث من أكبر خمس شركات في العالم: (أبلايد ماتيريالز، وكلا، ولام ريسيرتش)، أميركية. وارتفعت حصة مبيعات الثلاثي هذا، التي تذهب إلى “الصين” بسرعة في السنوات القليلة الماضية، إلى حوالي الثُلث.
يخشى رؤساء الرقائق الأميركية الآن من أن “الصين” يمكن أن تنتقم؛ ما يُزيد من تقييد وصول شركاتهم إلى سوقها الواسع. إنها بالفعل تضاعف الجهود لرعاية الشركات المحلية القوية مثل (smic) و(ymtc)، التي يمكن أن تتحدى يومًا ما تفوق “أميركا” التاريخي للسيليكون. قد تكون النتيجة صناعة أميركية متضائلة ذات نفوذ عالمي أقل وقدرة أكبر مما تعرف ماذا تفعل بها، هذا هو الأساس المهتز الذي تبني عليه “أميركا” مستقبلها.