خاص / بغداد – كتابات
أورد مؤرخون ورحّالة منهم البلاذري والسمعاني وياقوت الحموي وصفهم لـ”البصرة” كجنة من جنات الدنيا لكثرة ما فيها من نخيل. وحتى نهاية السبعينات من هذا القرن كانت البصرة تحتفظ لوحدها بسبعة ملايين نخلة من مجموع نخيل العراق البالغ 21,842,000 نخلة. وكانت منطقة الفرات الأوسط تأتي بالمرتبة الثانية بعد البصرة في عدد النخيل ثم مناطق أخرى محصورة بين المنطقتين الوسطى والجنوبية من العراق.
وفي العام 1998 نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية تقريراً جاء فيه “مكّنت الملايين التي تزيد على العشرين من النخيل في العراق، من احتلال المرتبة الأولى بين دول العالم في عدد النخيل وإنتاجها من التمور. وحين كان العراق يصدر تموره الى 70 دولة، لم تعد لائحة التصدير في المؤسسات العراقية تتجاوز بلداناً على عدد أصابع اليد وأصبح عدد النخيل في العراق اليوم لا يتجاوز ستة ملايين نخلة، وهكذا فالنخلة ليست رمزاً اعتباطياً للعراق، بل أصبحت دالة على حالته الإقتصادية والإجتماعية، تنتعش وترتوي مع إنتعاش انسانه وتنكمش مع إنكماشه”.
الحروب أحالت النخيل جذوعاً محترقة
ساهمت الحرب العراقية – الايرانية في تدمير شبه كامل لأكبر غابات النخيل في العالم, تلك الممتدة على طول شط العرب. و(مسؤولية) الحرب تأتي عبر مستويين: الأول (مباشر) حيث أحالت القذائف الايرانية والعراقية على السواء، ملايين النخلات الى جذوع محترقة ليست بعيدة عن مشاهد تنتمي في تأثيراتها الى (السريالية)، فحين كانت القوات الايرانية لم تعبر (شط العرب) بعد، كانت القذائف تنهال على القطعات العراقية المرابطة على الشاطيء الآخر من الشط وبعد ان احتلت ايران الفاو وشريطا طويلاً من شط العرب كانت القذائف العراقية تنهال على البقية الباقية من النخيل لطرد المعتدين.
والمستوى الثاني الذي دمّرت الحرب بموجبه غابات النخيل في البصرة (غير مباشر): ومثلته ملوحة الأراضي المتزايدة، وهذه نتجت إثر قيام السلطات العراقية خلال الحرب بردم أكبر أقنية للتصريف الطبيعي للمياه الممتدة ما بين شط العرب وبساتين النخيل، وذلك لتهيئة الأرض لحركة المدرعات والمدفعية وعجلات القوات المسلحة المتمركزة في المنطقة.
وساهمت أحداث الثأر من السلطة العراقية المركزية بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت وهزيمته في الحرب 1991 في صب المزيد من النار على بساتين النخيل، فقد استخدمها المقاتلون الثائرون على النظام العراقي كمناطق اختباء لهم بعد انسحابهم من البصرة وضواحيها، وهذا جعلها هدفاً للقطعات المطاردة لهم والتي ضمت ألوية من الحرس الجمهوري والرئاسي الخاص.
وإذا كانت عمليات الثأر التي أعقبت حرب الخليج الثانية 1991 قد جاءت بنتائجها على نخيل البصرة، فهي جاءت بنتائج مماثلة على جزء مهم من بساتين النخيل الممتدة ما بين مدينة الحلة (مركز محافظة بابل) وقضاء “الهاشمية” فعلى طول 34 كيلومتراً تبلغها المسافة بين المدينتين كانت بساتين النخيل تمتد على الطريق المحاذي لنهر (الحلة) وبسبب (عدم ولاء) أهل المنطقة للسلطة المركزية، أمر (طالع خليل ارحيم الدوري) – الحاكم العسكري لمنطقة بابل – بعد الأحداث بتسوية قرابة نصف مليون نخلة مع الأرض الممتدة ما بين المدينتين، ثم قامت سلطات المحافظة لاحقاً لتهدأة خواطر اصحاب البساتين بصرف بعض المبالغ تعويضاً لهم.
النخيل والحظر الجوي
في ناحية (الإمام) القريبة من مركز محافظة بابل، والتي تشتهر بساتينها بكثرة نخيلها وتعدد أصناف تمورها، تتصاعد الحسرات في نفوس المزارعين وبعد ان كانت بساتينهم تعمر بالحياة أصبحت مهددة كلياً بالأمراض التي أصابت النخيل وأحالت (القلوب) المثمرة الى كتل متفحمة أعلى النخلة.
ويقول مدير شعبة زراعة الناحية، ان مكافحة الأمراض كانت تتم بواسطة الطائرات الزراعية، وكانت هذه الطائرات لا تغادر المنطقة إلا بعد التأكد تماماً من معالجتها بشكل نهائي.
غير ان الحظر المفروض على تحليق هذه الطائرات ومنذ عدة سنوات، سمح لنمو أجيال جديدة من الحشرات سرعان ما فتكت بالنخيل، فيما لم تنفع محاولات الرش الأرضي، لإرتفاع النخيل وعدم توفر المضخات الكفوءة التي بإمكانها ايصال المبيدات الحشرية الى أعلى النخلة.
ويعدد مدير قسم النخيل في مديرية زراعة البصرة، طه زويد أسباباً أخرى ساهمت في (موت النخيل) والنقص المستمر في إنتاج التمور فقد وصل انتاج عام 1997 إلى 30% أقل مما كان عليه في عام 1996 ويسمي منها عدم وجود قروض من المصرف الزراعي وعدم وجود تشريع لتعويض متضرري الحرب وقلة المبيدات لمكافحة آفات النخيل وتحسين قنوات المبازل للتقليل من ملوحة التربة.
بلاد النخيل تستورد التمور!
وبعد العام 2003 تحولت الآمال بتغيير الكوارث التي انتجها النظام السابق إلى كوابيس حقيقية، فتواصلت الجرائم بحق شجرة العراق الأولى، فتشهد مناطق وأقضية محافظة البصرة اليوم قلع وبيع اشجار النخيل التي يتم تصديرها خارج العراق وبالتحديد الى دول خليجية، ما ادى الى ضعف انتاج محصول التمور في المحافظة الجنوبية المشهور بزراعة النخيل وانتاج التمور.
ويعتبر قضاء القرنة من الاقضية الكبيرة التي كانت تنتج أنواعا مختلفة من التمور “لكنها لم تكن كما كانت في السابق وتعرضت الى القلع والتدمير جراء الحروب والسرقة والقلع وأعمال البيع من قبل البعض بعد عام 2003”. بحسب قول رئيس المجلس المحلي للقضاء محمد المالكي الذي تحدث لـموقع “الجورنال نيوز” قائلا ان “الاهتمام بشجرة النخيل اختفى، حيث كانت هناك أعمال توزيع بعض الفسائل بشكل مجاني على المواطنين، لكن في يومنا هذا اختفت هذه العملية”.
ويلفت نقيب المهندسين الزراعيين في المحافظة علاء البدران إلى جانب آخر من القضية “بساتين النخيل اغلب مالكيها من دول عربية او خليجية والعراقيون منهم هاجروا منذ زمن، حيث قام البعض ببيعها بثمن الارض وليس للبستان، باعتبار ان القيمة السوقية للارض اعلى من قيمة البستان”.
ونتيجة لذلك فمنطقة النخيل الأكبر في العالم سابقا، باتت تستورد التمور من إيران، والامارات والسعودية.
التجريف التجريف
وتحدث رئيس لجنة “الزراعة والموارد المائية” في المحافظة جمعة هجول، عن أسباب أخرى لتدهور زراعة النخيل في البصرة، قائلا أن “أعمال التجريف والتصحر وغياب الدعم الحكومي، ساهمت جميعها في تدني مستوى انتاج التمور العراقية””، لافتا إلى إن “النزاعات على الملكية أدت الى تجريف بعض تلك البساتين المثمرة”.
وهنا يعمد عدد من أصحاب البساتين إلى إبادة المزروعات، من أجل تحويل الأرض من زراعية إلى سكنية، ما يوجب دق ناقوس الخطر المهدد لأشجار النخيل.
وفي مقطع فيديو مصور قرب منطقة الدورة بالعاصمة العراقية، تظهر بساتين النخيل ولم تبق منها سوى أعمدة سيقان خاوية.
ويقارن صاحب الفيديو بين بستان سقي بالنفط والبنزين لتحويل الأرض إلى سكنية وآخر لم يتعرض لهذه “المجزرة الزراعية” حيث تبدو فيها الأشجار شامخة وزاهية، وسط سكوت الإدارات الحكومية المتواطئة الفاسدة.
صحيح إن مجلس الوزراء العراقي قد قرر في وقت سابق “اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإيقاف تجريف البساتين والأراضي الزراعية ومنع تحويلها الى اراضٍ سكنية او تغيير استعمالاتها لأغراض أخرى”، لكن الفساد المستشري في مفاصل الحكومة وضغوط قادة الأحزاب والمجموعات المسلحة المتنفذة يجعل من القرار الحكومي مجرد حبر على ورق، ويصبح بذلك “تغيير جنس الأرض” أمرا ممكنا وبالتالي تواصل عمليات تجريف النخيل.
“لا مؤهلات لا حس وطني”
عضو لجنة الزراعة والموارد المائية النيابية البرلمانية، شروق العبايجي، ترى ان “النخيل هي احدى ضحايا الفساد، في العراق فشهدنا الكثير من البساتين تباد وتحرق في سبل تحويلها لدور سكنية او مناطق ترفيهية او غيرها”.
وتعتقد العبايجي، في تصريحات صحافية إن “ايقاف هذا الهدر بالثروة الوطنية يتجلى باستبدال المسؤولين الفاسدين الذين جاءوا من خلال المحاصصة وهم لا يمتلكون أي مؤهلات أو أي حس وطني ولا يعملون سوى لمصالحهم الشخصية التي أوصلت البلد إلى هذه الأوضاع الكارثية”.