خاص: كتبت- نشوى الحفني:
من فوق قمة جبل “قاسيون”؛ وقف وزير الخارجية التركي؛ “هاكان فيدان”، إلى جوار “أحمد الشرع”؛ المعروف بلقبه الحركي: “أبو محمد الجولاني”، متأملًا في جغرافيا العاصمة السورية؛ “دمشق”، وكأن لسان حاله يقول: “عادت إلينا دمشق من جديد”.
عمليًّا دشَّن “هاكان فيدان”؛ بصفته الرسمية وزيرًا للخارجية، مسّار الاعتراف بالنظام الجديد في “سورية”، حيث أنه أول وزير خارجية يزور “دمشق” ويلتقي “الجولاني”؛ وسط حفاوة كبيرة من الأخير وفريقه. وجاءت زيارة “فيدان” بعد أقل من أسبوعين على الزيارة التي قام بها رئيس الاستخبارات التركية؛ “إبراهيم كالن”، بصحبة نظيره القطري؛ “عبدالله الخليفي”.
التقارير الإعلامية التي تداولت؛ منذ سقوط “بشار الأسد”، أكدت مرارًا على الدور التركي في إسقاط نظام “الأسد” ورحيله عن “سورية” بشكلٍ نهائي، كما تؤكد على النوايا والأطماع التركية تجاه “سورية”.
مرحلة جديدة في صراع السلطة..
وعلى الرُغم من أن رحيل “الأسد” قد يبدو وكأنه نقطة تحوُّل، فهو ليس ستارًا يُسدَل على معاناة “سورية”. وإنما يُشير إلى بداية مرحلة جديدة في صراعات السلطة القديمة، التي رسمّت منذ فترة طويلة الخطوط العريضة لمفترق الطرق الحاسم للإمبراطوريات، وفق “أندرو لاثام”، أستاذ العلاقات الدولية في كلية (ماكاليستر) في “سانت بول”، بولاية “مينيسوتا”.
النزعة العثمانية الجديدة..
وقال “لاثام”؛ وهو باحث أول في معهد (السلام والدبلوماسية)، وباحث غير مقيم في مؤسسة (أولويات الدفاع) في “واشنطن” العاصمة، في مقاله بموقع صحيفة (ذا هيل)؛ التابعة لـ”الكونغرس”، من بين الجهات التي تتنافس على النفوذ في “سورية” ما بعد “الأسد”، برزت “تركيا” بوصفها جهة رابحة بوضوح.
وعلى مدى العقد الماضي؛ اتَّبعت “أنقرة” سياسة غالبًا ما توصّف: بـ”النزعة العثمانية الجديدة”، وهو مصطلح يلخِّص طموحها لاستعادة النفوذ على الأراضي التي كانت تحكمها “الإمبراطورية العثمانية”. وتُشير النزعة العثمانية الجديدة إلى إطار استراتيجي وإيديولوجي، تسعى فيه “تركيا” إلى توسيع نطاق نفوذها الاقتصادي والسياسي والثقافي عبر المناطق الخاضعة تاريخيًا للسيّطرة العثمانية، بما في ذلك “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والبلقان”.
أسقط نظام “الأسد”..
وأشار الكاتب إلى أنه في عهد الرئيس؛ “رجب طيب إردوغان”، استفادت “تركيا” باستمرار من هذا النهج لتوسيع نطاق وجودها في “سورية”. في البداية، وُضِعَ تدخل “تركيا” في الصراع السوري في إطار الاستجابة للتهديد الكُردي على طول حدودها الجنوبية؛ والجهود الإنسانية الرامية إلى معالجة أزمة اللاجئين.
ومع ذلك؛ أصبحت دوافع “أنقرة” الأعمق واضحة عندما فرضت سيطرتها العسكرية على شمال “سورية”، وشيَّدت البُنية التحتية ونفذت سياسات تعزِّز الثقافة التركية والحكم في المناطق المحتلة. وبحلول الوقت الذي سقط فيه “الأسد”، كانت “تركيا” قد رسَّخَت نفسها بوصفها الجهة الفاعلة الأجنبية المهيمنة التي تشكِّل مستقبل “سورية”.
تحولات متغيَّرة بين القوى المتنافسة..
وأوضح الكاتب أن “الأسد” لم يرحل عن منصبه من فراغ. وإنما كان رحيله نتيجة لتحولات متغيَّرة بين القوى المتنافسة الرئيسة في “سورية”، ألا وهي “روسيا وإيران وتركيا والأكراد”. وشاركت كل من هذه الجهات الفاعلة في الصراع السوري، غير أن استراتيجية “تركيا”؛ “العثمانية الجديدة”، أثبتت أنها الأكثر قابلية للتكيف والديمومة.
انحسار الدور الروسي والإيراني..
ورُغم أن “روسيا” أدّت دورًا حاسمًا في دعم نظام “الأسد”، فقد ضعف موقفها في “سورية” بسبب حربها في “أوكرانيا” التي أنهكتها. ويسَّلط تنظيم “موسكو” لفرار “الأسد” إلى “روسيا” الضوء على حدود نفوذها.
وبالمثل؛ انحسر دور “إيران”. رُغم أن “طهران” دعمت “الأسد” في البداية حفاظًا على (محور المقاومة)، فقد أدّى النهج البراغماتي لـ”تركيا” إلى تقويض استراتيجية “إيران” الطائفية. بحسب تعبيرات وتصورات الكاتب المضللة.
وفي الوقت نفسه؛ قُوِّضَ الأكراد السوريون، الذين سعوا إلى الحكم الذاتي في خضم فوضى الحرب، من خلال العمليات العسكرية التركية والمناورات الدبلوماسية، مما جعلهم عُرضة للخطر في ظل تقليص “الولايات المتحدة” لوجودها الإقليمي.
استراتيجية متعدَّدة الأوجه..
وعزا الكاتب؛ نجاح “تركيا” في “سورية” ما بعد “الأسد” إلى استراتيجيتها متعدَّدة الأوجه التي تجمع بين القوة العسكرية والاستثمار الاقتصادي والجاذبية الإيديولوجية. وقد فُرضت تدخلاتها العسكرية سيطرتها على المناطق الرئيسة في شمال “سورية”، مما أدى إلى إقامة منطقة عازلة تؤمِّن حدود “تركيا” وتعزِّز التسوية السياسية المستقبلية في “سورية”.
وفي الوقت نفسه، ضخّت “أنقرة” الموارد لإعادة بناء البُنية التحتية في المناطق التي تحتلها “تركيا”، مما عزَّز التبعية وخلق شعورًا بالاستقرار غابَ عن أماكن أخرى في “سورية”.
ومن الناحية الثقافية؛ تتجلى رؤية “تركيا”؛ “العثمانية الجديدة”، في تعزيز اللغة والمناهج التركية، فضلًا عن التكامل الاقتصادي الذي يربط هذه المناطق برباط أوثق بـ”أنقرة”.
إعادة رسم الحدود الوطنية..
وتمتدّ تداعيات صعود نجم “تركيا” إلى ما وراء “سورية”. فإذ تُعيّد “تركيا” تأكيد ذاتها خليفة لـ”الإمبراطورية العثمانية”، فهي تُعيّد تشّكيل النظام الإقليمي الذي أُنشيء بعد الحرب العالمية الأولى. وهذا التحوُّل يوهن إرث القومية العربية ويُقدم نموذجًا عمليًا للحكم يروق للسكان الذين أنهكتهم الحرب. كما تروج الآلة الدعائية الصهيوأميركية الغربية.
فضلًا عن ذلك؛ لدى “تركيا” القدرة على إعادة رسم التحالفات في الشرق الأوسط، إذ ربما تسّعى دول مثل: “المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة” إلى التعامل مع “أنقرة” لموازنة قوى “إيران وروسيا”.
وفي حين أن تصرفات “تركيا” لا تشّي صراحة بسّعيها إلى إعادة رسم الحدود الوطنية، فإن إدارتها للأراضي السورية تطمس المفاهيم التقليدية للسيّادة، مما يثَّير تساؤلات حول مستقبل “سورية” كدولة موحدة.
تحديات تواجه المشروع العثماني الجديد..
ومع ذلك؛ يقول الكاتب، إن مشروع “تركيا” العثماني الجديد لا يخلو من التحديات، مشيرًا إلى أن “إردوغان” يواجه انتقادات داخلية بسبب الضغوط الاقتصادية والاستقطاب السياسي الذي تفاقم بسبب التدخلات المكلفة في الخارج.
وعلى الصعيد الدولي؛ تُخاطر “تركيا” بإبعاد الشركاء الغربيين، بما في ذلك “أميركا” و”حلف شمال الأطلسي”، بسبب المخاوف بشأن الميول الاستبدادية لـ”أنقرة” وتعاونها مع الجهات الفاعلة غير الغربية؛ مثل “روسيا”.
فضلًا عن ذلك؛ من الممكن أن يثَّير الاستياء من السيّطرة التركية في شمال “سورية” مقاومة محلية، مما يهدَّد الاستقرار الذي تسعى “أنقرة” إلى ترسيّخه.
وقال الكاتب: لقد شقَّت “تركيا” لنفسها طريقًا جديدًا؛ بوصفها خليفة لـ”الإمبراطورية العثمانية”. ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت النزعة العثمانية الجديدة تمَّثل إطارًا قابلًا للتطبيق للاستقرار الإقليمي أم شكلًا جديدًا من أشكال الإمبريالية.