وكالات – كتابات :
يلعب الاقتصاد دورًا مهمًا في تحديد تفضيلات المواطنين الانتخابية، فيما يُعرف باسم: “التصويت الاقتصادي”، والذي يُفيد بأن المواطنين يعتمدون كثيرًا على أداء الاقتصاد في الفترة الأخيرة في تحديد المُرشح الذي سيمنحونه أصواتهم، حتى وإن لم يكن الاقتصادُ العاملَ الأوحد لتحديد مسار الانتخابات.
ففي سياق انتخابات “فرنسا” الأخيرة؛ تعددت تحليلات نتائج الجولة الأولية من الانتخابات؛ وستتعدد تحليلات نتيجة الجولة الثانية أيضًا، والتي فاز فيها؛ “إيمانويل ماكرون”، على منافسته؛ “مارين لوبان”، وبنسبة مُريحة نوعًا ما، وإن كانت النتيجة الرسمية لم تُعلن بعد، ويبدو أنها ستنتهي بنسبة: 58%؛ لصالح “إيمانويل ماكرون”، فكيف لعب الاقتصاد دورًا في تحديد هذه النتيجة ؟.. وكيف كان شكل برنامجي المرشحين ؟.. ولماذا ارتفعت نسبة التصويت لليمين الفرنسي ممثلًا في “لوبان” ؟.. وبنسبة مقاربة: لـ 8% عن الانتخابات الماضية ؟
نظرة عامة على الاقتصاد في عهد “ماكرون”..
قد نعرف ما تُريد “مارين لوبان” فعله في الاقتصاد حال انتخابها؛ وذلك بقراءة برنامجها الانتخابي، ولكن في حالة “ماكرون” فنحن نعرف ما قام به بالفعل، ونُدرك الآلية التي أدار بها الاقتصاد خلال فترة حكمه، ولا ننظر إلى ما يقوله برنامجه، أو ما يرغب في فعله خلال الفترة القادمة.
كما أن الأعوام الخمسة من حكم “ماكرون” لم تكن أعوامًا عادية؛ فالعالم كله كان في فترة محاولة التعافي من آثار الأزمة المالية العالمية: 2007 – 2009، والتي ضربت الاقتصاد الفرنسي بحدة عامي: 2008 و2009 تحديدًا؛ فقد سجلت نموًا قريبًا من الصفر عام 2008، وسالبًا بنسبة أقل من: 3% بقليل في العام التالي، ثم دخلت في أزمة جائحة (كورونا)؛ عام 2020، ويعيش العالم اليوم آثار العملية العسكرية الروسية في “أوكرانيا”، والتي تؤثر في “أوروبا” أكثر من غيرها.
ومنذ عام 2008؛ لم تكسر “فرنسا” حاجز نمو بنسبة: 2% إلا مرتين فقط: عام 2011، وعام 2017. أما باقي الأعوام فلم تسجل أية نتيجة أعلى من: 2% في المطلق، وكان متوسط نمو الاقتصاد الفرنسي: 1.4%؛ حتى عام 2019، لكنه يُصبح: 1.1% إذا ما جرى احتساب عامي: 2020 – 2021، ومتوسط أعوام حكم “ماكرون” وحدها تساوي: 1% فقط.
وقد أدى الاقتصاد الفرنسي – بالاعتماد على نمو الناتج المحلي الإجمالي وحده – أسوأ من الاقتصاد العالمي في المجمل، ولكنه كان مقاربًا لاقتصادات: “أميركا، ألمانيا، والمملكة المتحدة”، على الرغم من أن الاقتصاد الفرنسي لا يُعاني من معدلات تضخم مرتفعة، ولكنه يُعاني من معدل بطالة مرتفع؛ خصوصًا إذا ما قورن بالدول المذكورة سابقًا؛ رغم أنه جرى تخفيض معدل البطالة بشكل ملحوظ في عهد “ماكرون”، وبعكس كل من: “ألمانيا والولايات المتحدة”؛ فلم يرتفع المعدل عام الجائحة، كما ظل مستقرًا عند: 8% تقريبًا عام 2021.
وعلى جانب آخر تُعاني “فرنسا” من ارتفاع معدلات الفقر متعدد الأبعاد، والذي يحتسب معدل الفقر بناءً على مستوى المعيشة، ولكن بإضافة عوامل أخرى من التعليم والصحة؛ فـ”فرنسا” تُعاني اليوم من فقر: 18% من إجمالي سكانها، وهي نسبة ضخمة بالنسبة إلى دولة غنية، كما أن النسبة في ارتفاع منذ تولي “ماكرون” للرئاسة عام 2017.
ويهتم الفرنسيون بمثل هذه النتائج الاقتصادية تحديدًا، خصوصًا بسبب طغيان مسألة اللاجئين في “فرنسا” على المشهد السياسي، وتُصدرها لنقاشات الرئاسة الفرنسية، خصوصًا مع ترويج “لوبان” واليمين الفرنسي؛ لسياسات معادية للمهاجرين مع تأكيد من طرفهم بأنها ستُحسن الحالة الاقتصادية للمواطنين الفرنسيين، وتخفف من أعبائهم المادية؛ كما ستسمح برفع معدلات توظيفهم.
كما أن “فرنسا” ما زالت تُعاني من عجز في حسابها الجاري؛ والذي يُمثل الميزان التجاري الجزء الأهم منه؛ (الصادرات-المستوردات)، وعجز في الموازنة الحكومية تجاوز: 150 مليار دولار في العامين الماضيين، ولم يكن موجبًا في أي عام سابق.
ولكن حتى هذه النتائج التي تظهر جزءًا من الصورة؛ لا تظهرها بشكل كامل، خصوصًا بالنسبة لاقتصاد أوروبي من أضخم اقتصادات العالم، فقد تستطيع دولة نامية احتمال نسبة بطالة مرتفعة نسبيًا مثل التي في “فرنسا”، وبطبيعة الحال يُعبر معدل الفقر متعدد الأبعاد الذي تُحققه “فرنسا” أمرًا مختلفًا عن معدلات الفقر المدقع وغيره في دول نامية؛ نتيجة لاختلاف الخدمات المقدمة، واختلاف آلية احتساب خطوط الفقر.
لكن رغم كل ذلك تُعتبر هذه الأرقام مرتفعة جدًا عندما نعلم أن البلد التي تحققها بلد متطور، وضمن أغنى الأمم في العالم، ومع ذلك فحتى هذه الأرقام لا تخبرنا صورة الوضع بشكل كامل في “فرنسا”، خصوصًا فيما يتعلق بما يؤثر في الناس بشكل مباشر؛ وبالتالي فيما يُحدد توجهاتهم الانتخابية.
إنجاز حقيقي أم دعاية مبالغ فيها على حساب الفرنسيين ؟
بطبيعة الحال يحشد مؤيدو “ماكرون” قبل الانتخابات وبعدها؛ كل المؤشرات التي تبدو في صالحه، والتي تُبين أن سياساته كانت ناجحة في إدارة البلاد اقتصاديًا، ولكننا نعلم أنه لا يمكن تقييم اقتصاد ما باستخدام بعض المؤشرات دون غيرها، فمن بيانات “البنك الدولي” يمكننا أن نعلم أن الاقتصاد الفرنسي انكمش؛ عام 2020، بنسبة مقاربة: لـ 8%؛ (وهي نسبة كبيرة جدًا، وتساوي أكثر من ضعف الانكماش على مستوى العالم)، لكنه عاد ونما عام 2021؛ بنسبة: 7%، وهي إحدى أعلى معدلات النمو في العالم بعد الجائحة، لكن من الذي أحس بمعدلات النمو المذكورة في الاقتصاد ؟.. وكيف توزعت فائدة هذا النمو ؟
هنا يُجادل أنصار “ماكرون” بأن الانخفاض المستمر في معدلات البطالة نتيجة لحسن إدارة “ماكرون” للاقتصاد، ولكن عند التدقيق سنعلم أن جزءًا من هذا الإنجاز راجع إلى إجراءات تضر بالعاملين، والأقل دخلًا، بينما قد تُفضِّل الشركات والأعمال؛ حتى بات يُعرف “ماكرون” باسم: “رئيس الأغنياء”؛ في “فرنسا”.
وفي تقرير لقناة (France 24) عن أعوام “ماكرون” الخمسة في حكم “فرنسا”، وتقييمها من عدة جوانب منها الناحية الاقتصادية التي عمل عليها “ماكرون”، والتي كانت في صالح الأغنياء على حساب غيرهم، ذكر التقرير في جزئه الثاني من الأجزاء الخمسة أمثلة من سوق العمل في “فرنسا” تتلخص في أن “ماكرون” خفّض الضرائب عن الشركات من: 33.3% إلى: 25%.
كما خفض “ماكرون” من تكلفة العمالة على الشركات بتقليص ما يجب عليها دفعه مساهمةً في الضمان الاجتماعي، وأخيرًا عدلت “فرنسا” قانون العمل؛ بحيث سهّل على الشركات إقالة العمال، أو توظيفهم ضمن بيئة غير آمنة.
كان تعديل القانون عاملًا أساسيًا في تخفيض البطالة، فالشركات قد تخشى من توظيف كثير من العمال إذا ما خشيت من ألا تستطيع فصلهم لاحقًا عند تغير الظروف، ولذلك قد تعمد إلى تقليل معدلات التوظيف، ولكن تخفيض الأمن الوظيفي للعمال يعني أن الشركات تستطيع التوظيف بمعدلات أكبر دون خوف من مثل هذا المصير، كما أن “فرنسا” شهدت انخفاضًا في جودة الوظائف المقدمة للعمال.
من الطبيعي أن تنخفض البطالة عندما تُصبح بيئة العمل هكذا؛ فسابقًا كنت مضطرًا لتوظيف العمال في وظائف ذات جودة عالية، بالإضافة إلى توفير بيئة آمنة تضمن لهم بقاءهم في العمل مستقبلًا، وألا يتعرضوا للفصل بسهولة، ولكن عندما تنخفض التكلفة والإلتزامات المستقبلية يُصبح ممكنًا توظيف عدد أكبر من الناس دون الخوف من هذه النتائج.
كما أن آلية احتساب معدلات البطالة إحصائيًا قد تُسهم في وضع قناع على الحالة الحقيقية على أرض الواقع لمعدلات البطالة؛ ففي العادة يحتسب الاقتصاديون معدلات البطالة بقسمة عدد من يستطيعون العمل ويرغبون فيه، مع بحثهم الجاد خلال فترة معينة قبل الدراسة، على إجمالي من تطبق عليهم هذه الصفات، سواء كانوا عاملين أم لا.
ولكن بعض الظروف الاقتصادية قد تدفع الكثير من المحتاجين للعمل إلى ترك البحث الجاد عنه؛ لأنهم أصبحوا موقنين بعدم القدرة على إيجاد وظيفة، أو إيجاد عمل مناسب لكفاءتهم؛ ما يجعلهم بمثابة: “عمالة محبطة”؛ (Discouraged Workers)، تخرج من حسابات البطالة والعمالة في البلاد.
وسجلت “فرنسا” خروج مليوني فرد تقريبًا من قوة العمل خلال عام 2020 وحده بحسب التقرير، كما أن بيانات “البنك الدولي” تُظهر أن نسبة قوة العمل إلى إجمالي السكان؛ (العاملين والعاطلين)، تقل منذ عام 2000، ولكنها شهدت انخفاضًا ملحوظا خلال عهد “ماكرون”، بحيث إنها أصبحت: 58.6% من السكان؛ في عام 2020، بعد أن كانت: 60.7%؛ عام 2017.
وتُساهم مثل هذه البيانات في تخفيض غير حقيقي لمعدل البطالة، يرجع أساسًا إلى الظرف الاقتصادي الصعب بالنسبة لبعض الفئات؛ ما يدفعها إلى عدم البحث عن العمل، لا نتيجة لنجاح اقتصادي استثنائي، يُسهم في تحسين معيشة الناس، ومثل هذه التغيرات في الاقتصاد هي الملموسة بالنسبة للجميع، وإن كانت بعض المؤشرات الاقتصادية تقول عكس ذلك.
كل ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة لـ”ماكرون”؛ بل قام أيضًا بتقليل الإنفاق على الدعم الاجتماعي في البلاد، وهو الأمر الذي يضر تحديدًا بأصحاب الدخول المحدودة والأقل، وقد تسبب فعليًا في احتجاجات شعبية في “فرنسا”.
وبالتالي فإن نهج “ماكرون” القادم في الاقتصاد لن يكون مختلفًا كثيرًا عما حصل في سنوات حكمه الأولى على الأغلب، بل إن المتوقع تعميق سياساته السابقة، بل إن كثيرًا من وعوده الانتخابية لن تتحقق، كما أنه لم يحقق بعضها من الانتخابات السابقة.
“مارين لوبان” والبحث المضني عن البديل..
خلال العقود الماضية؛ تسيد الفكر النيوليبرالي على العالم، والذي يدعم مصالح الأغنياء على حساب قوت الفقراء، وتنسحب بسببه الدولة من الاقتصاد ومن دعم المجتمع، بينما تسود قيم: “التنافس والسوق الحر”، ولأن “فرنسا” محكومة بعلاقتها بـ”الاتحاد الأوروبي”، فإنها تتبع السياسة النقدية الموحدة على كامل دول الاتحاد، دون القدرة على اتخاذ السياسة النقدية الخاصة بها، والتي قد تكون أكثر مناسبة لاقتصادها ووضعه الحالي.
وكذلك فـ”الاتحاد الأوروبي” يضع قواعد اقتصادية كثيرة على الدول الأعضاء، وهو ما يمنع كثيرًا من الدول من اتخاذ السياسات الاقتصادية المناسبة، فضلًا عن ضغط المستثمرين في “فرنسا” على الحكومة، والتي تضطر لإرضائهم وإلا أخرجوا استثماراتهم من البلاد.
ومن الطبيعي أن يتزايد السخط عند عموم الفئات المتضررة من النهج الاقتصادي المتوافق مع “الاتحاد الأوروبي” والبقاء فيه، بل انتقال كثير من الأصوات من معسكر “ماكرون” إلى معسكر اليمين، و”لوبان” تحديدًا، والتي تُعد ببرنامج اقتصادي مختلف عن برنامج “ماكرون”، وقد يكون فيه حل للكثير من مشاكل هذه الفئات، بالإضافة إلى القضايا الساخنة المُناقشة عادة في بلادنا على وجه الخصوص؛ مثل قضايا اللاجئين والحجاب ومعاداة الإسلام وغيرها.
ولكن “لوبان” أيضًا تُقدم نموذجًا اقتصاديًا آخر لحكم “فرنسا”، وإن لم يكن نموذجًا مكتملًا أو واضحًا، بل قد لا يكون قابلًا للتطبيق حتى، ولكن ظاهره يحل كثيرًا من المشاكل التي تنتجها اللبرلة والسوق الحر، كما أنه يُقدم حلًا بسيطًا لمشكلة عضوية “الاتحاد الأوروبي”، بالانفكاك عنه ببساطة، أو على الأقل القبول بما لا يتعارض مع: “سيادة فرنسا”، رغم أن دوافع “لوبان” في ذلك قد لا تكون اقتصادية فقط.
وقد لا يهتم الكثير من الناس بالتفريق الثقافي بين اليمين واليسار، فالمهم هو النماذج التي تُحقق المصلحة المادية المباشرة، والتي تتعلق بالمعيشة اليومية، وقد لا يتفق الكثيرون في “أوروبا” مع توجهات “لوبان” اليمينية المعادية للمهاجرين مثلًا، لكنهم يصوتون لها في نفس الوقت لكونها تحمل وعدًا بنموذج اقتصادي آخر يناسب مصالحهم.
فـ”لوبان” اليوم مثل كثير من قادة وتيارات اليمين في العالم، ودول الغرب – “أوروبا” و”أميركا” تحديدًا – خصوصًا، تُعد المواطنين، والعمال منهم تحديدًا، بنموذج قد يقترب مما تقدمه نماذج اليسار، فـ”لوبان” تعد الفرنسيين: بـ”حمائية ذكية”، في مقابل السوق الحرة المفتوحة على العالم بأسره، والتي تضر العمال الفرنسيين والصناعات الوطنية ومجمل الاقتصاد.
كما أنها تعد بتصحيح خطأ القبول الكامل بالسوق الحر، وترى وجوب تدخل الدولة في الاقتصاد، على الأقل عندما يحتاج الأمر إلى ذلك، بهدف حماية العمال، وحتى الصناعات الوطنية، وتعد “لوبان” منذ الانتخابات الماضية بأن تنجح سياساتها الحمائية في رفع النمو الاقتصادي ليصل إلى: 2.5%.
تُعتبر “فرنسا” من أكثر الدول في العبء الضريبي في العالم، وتعد “لوبان” بتخفيف هذه الأعباء، ولو على فئات معينة من المواطنين، مثل إعفاء كل من هم أصغر من: 30 عامًا من الضرائب بشكل كامل، بل إعفاء الشركات من الضرائب إذا قبلت برفع أجور العمال بنسبة: 10%، وغيرها من تخفيضات الضراب، بحسب تقرير لوكالة (Bloomberg).
لا تهدف هذه السياسات إلى تخفيف الأعباء على المواطنين فقط، بل إلى تحفيز النمو الاقتصادي؛ فتخفيف العبء الضريبي على المواطنين يعني استهلاكًا أكثر، والطلب الأعلى يعني نموًا أكبر؛ لأن الشركات ستزيد مبيعاتها، وبالتالي أرباحها، وتوظف المزيد من العمال الذين سيتمكنون من الشراء أكثر وهكذا.
كل ذلك قد يكون جزءًا من تفسير ارتفاع شعبية “لوبان” بين الانتخابات الأخيرة والحالية، لكن النتيجة النهائية للانتخابات لا تُحدد عن طريق الاقتصاد فقط، فقد يتفق كثيرون مع “لوبان” اقتصاديًا أكثر من اتفاقهم مع “ماكرون”، ولكن يكون وجودهم ذاته مهددًا في “فرنسا” بسببها، وحينها لن يكون في الإمكان إلا التصويت لـ”ماكرون”، مع كل ما يأتي معه من سياسة ليبرالية وانسحاب للدولة، وتخفيض للإنفاق على الدعم الاجتماعي.