وكالات – كتابات :
نشرت مجلة (ذا دبلومات) تقريرًا أعدَّه، “زسولت سيبريغي”، نائب مدير قسم الشؤون الدولية في مركز “أنتال جوزيف للمعرفة” في “المجر”، استعرض فيه المنافع التي حققتها “إسرائيل” من إبرام اتفاقات التطبيع، أو ما يُعرف إعلاميًّا: بـ”الاتفاقات الإبراهيمية”؛ مع “الإمارات”، وتداعيات تلك الاتفاقات على العلاقة بين “بكين” و”تل أبيب”، واصفًا هذه الاتفاقات بأنها حقَّقت أول: “سلام دافيء”، بين “إسرائيل” وبلد عربي.
وخلُص الكاتب إلى أن دخول “الصين” إلى ساحة الشرق الأوسط؛ والتراجع التدريجي النسبي لنفوذ “الولايات المتحدة”، أسهم في تغيير سياسات الشرق الأوسط، على الرغم من أنه لم يكُن من المُتصوَّر أن تسمح “إسرائيل” للقوى الأجنبية، ناهيك عن الدول العربية، بالاستيلاء على الموانيء وخطوط الأنابيب.
الحفاظ على التوازن في مستنقع الصراعات..
يُشير “سيبريغي”، في بداية تقريره؛ إلى أن نفوذ “الصين” الاقتصادي والسياسي في المنطقة “الأوروبية-الآسيوية” شهِد توسُّعًا كبيرًا، على مدى السنوات العشر الماضية؛ من خلال طريقتين إثنتين، وهما: المبادرات المتعددة الأطراف التي تقودها “بكين”، والاتفاقيات الثنائية التي صُمِّمَت خصيصًا للبلد الشريك المَعْنِي.
ويمكن القول إنه لا توجد منطقة أخرى مثَّلت تحديًا أكثر صعوبة لـ”الصين”؛ من منطقة الشرق الأوسط؛ حيث اضطرت “بكين” إلى أن تناور بين الدول المتناحرة تناحرًا شديدًا، مثل منطقة المثلث الذي يجمع بين: “إيران والسعودية وإسرائيل”، وأن تُنفِّذ إستراتيجيتها الدبلوماسية على نحوِ يُمكِّنها من إرضاء كل دولة من دون إغضاب دول أخرى.
ويضيف التقرير: ويجب أن تستند العلاقات بين: “الصين” و”إسرائيل”، بالتحديد، إلى موقف براجماتي، (واقعي)، وغير سياسي بالمرة؛ ذلك أن لدى كلا البلدين عوامل أخرى يجب وضعها في الحُسبان. ويجب أن تدير “الصين” مُستنقَع الصراع في الشرق الأوسط وتأمل في أن تظل أقدامها بعيدةً عن أن تزل فيه. أضف إلى ذلك أن السياسة الخارجية والأمنية الإسرائيلية يجب أن تتماشى بصورة دائمة مع رؤية القوة العظمى الراعية لها؛ “الولايات المتحدة الأميركية”.
ولم يكن مسؤولو الوزارات في “تل أبيب” غرباء على هذا التوازن الدقيق، وآية ذلك أن “إسرائيل” اضطرَّت في حالتين سابقتين إلى أن تنسحب من اتفاقات أبرمتها مع “الصين”، للحصول على أسلحة مُعيَّنة أو اتفاقات مزعومة تتعلَّق بتكنولوجيا ذات استخدام مزدوج، استجابةً للضغط الذي مارسته “الولايات المتحدة”؛ ما تسبب في إلحاق الضرر بالمسيرة الوظيفية للمسؤولين الإسرائيليين المعنيين أو أنهى مسيرتهم بالأساس.
شراكات غير مسبوقة..
ويؤكد تقرير “سيبريغي”؛ أنه بغض النظر عن تاريخ “الصين” و”إسرائيل” المُعقَّد؛ و”الخطوط الحمراء” التي وضعتها “واشنطن”، شهدت السنوات العشر الماضية، في ظل الحكومات الإسرائيلية؛ التي قادها “نتانياهو”، ارتفاعًا غير مسبوق في الشراكات المنعقدة بين “الصين” و”إسرائيل”، وكانت دائمًا ما توصف هذه الشراكات بأنها براجماتية وتعود بالنفع على الطرفين، وليست مُوجَّهة ضد أي قوة أخرى.
بيد أنَّ ما بدا مثاليًّا من الناحية النظرية؛ وفي الخطابات والتصريحات؛ لم يكن من المفترض أن يمضي بسلاسة على النحو الذي أراده الجانبان؛ ذلك أن المنافسة بين “الصين” و”الولايات المتحدة” أصبحت أكثر حدَّة وانصبَّ تركيزها على المجال التكنولوجي.
وعلى الجانب الصيني، دائمًا ما كان يُنظَر إلى الشراكة مع “إسرائيل”؛ بوصفها حالة خاصة. وخلال ذروة حِقبة سنوات “مبادرة الحزام والطريق”، الواسعة النطاق، عندما رَفعَت “بكين” مستوى علاقاتها مع عشرات الدول المشارِكة في المبادرة، في إطار عَقْدِ شراكات شاملة، وقَّعت “الصين”: “اتفاق شراكة ابتكارية شاملة” مع “إسرائيل”. وتمثَّل الهدف من صياغة هذا الاتفاق، مع التركيز على كلمة: “الابتكار”، في إرسال إشارة إلى العالم تفيد بأن هذا الاتفاق لا يتعلَّق بإقامة أي تحالف سياسي؛ ولكنَّه يقتصر على الأعمال التجارية.
ومع ذلك، ونظرًا إلى أن هذه الاتفاقات التجارية كانت تتجاوز تدريجيًّا حدود أهم مجالين في مجالات المنافسة الحالية على القوة العالمية، وهما البنية التحتية الحيوية والتكنولوجيا المُتقدِّمة، واجهت تلك العلاقة المتطورة مزيدًا من الانتقادات، على الصعيدين المحلي والأجنبي. وشعر مسؤولو الأمن القومي الإسرائيلي بقلق شديد من جرَّاء جهود حكومة “نتانياهو” الرامية إلى تقديم المصالح الاقتصادية على اعتبارات الأمن القومي، بما يتعارض مع جوهر ثقافة صناعة القرار الإسرائيلية التي تُركِّز على الأمن.
معوقات إسرائيلية وقلق أميركي..
ويستدرك “سيبريغي”؛ قائلًا: ومع ذلك، لم تتمكَّن الانتقادات المحلية من التغلُّب على رؤية الحكومة المدنية المُتمثِّلة في توسيع دائرة المستثمرين في البلاد. وتُعد “إسرائيل” حالة مثيرة للاهتمام، نظرًا إلى إمكانية جذبها رؤوس أموال كبيرة وضخِّها في مشروعات الأعمال التجارية التابعة للقطاع الخاص، ولكنَّها تواجه صعوبات في تنفيذ أي مشروع عام كبير، (مثل السكك الحديدية والموانيء وخطوط الأنابيب)، لا يُدِر ربحًا تجاريًّا فوريًّا ومباشرًا، أو يوفِّر فائدة عسكريًّا.
وكانت الاستثمارات الصينية، التي أسترشدت برؤية “مبادرة الحزام والطريق”، المُتمثِّلة في توسيع نطاق الاتصال في المنطقة “الأوروبية-الآسيوية”، هي ما تحتاجه “إسرائيل” تمامًا لإستراتيجيتها الخاصة؛ بتهيئة نفسها بوصفها نقطة اتصال بين القارات الثلاث المتجاورة وتطوير بنيتها التحتية وفقًا لذلك.
ووصلت التوترات المتصاعدة إلى ذروتها مع بيع “ميناء حيفا” الإسرائيلي، لهيئة استثمارية صينية مدعومة من الدولة، وهي شركة “شنغهاي إنترناشيونال بورت”، في عام 2015؛ ما أثار قلق السلطات في “واشنطن”. وهدَّدت عملية الشراء هذه؛ بتوسيع نطاق المراقبة الصينية في منطقة “شرق البحر المتوسط”، للقوات البحرية الأميركية، وحلفائها في بيئة مُتنازَع عليها بالفعل، ضمن أمور أخرى، بين: “الاتحاد الأوروبي، وتركيا، وروسيا، والولايات المتحدة، وإيران”.
وتمثَّلت إحدى المشكلات الرئيسة في الزيارات المنتظمة، للأسطول الأميركي السادس؛ في “حيفا”، للموانيء الإسرائيلية، والتي كان من المُزمَع إيقافها إذا لم يُصحِّح الإسرائيليون النهج المتهاون الذي أتَّبعوه وغياب الإشراف الأمني على النفوذ الصيني المتزايد. وصدرت تهديدات مستترة وصريحة مُماثلة من “البيت الأبيض”، الذي كان يعلم تمام العلم أن النخبة العسكرية والسياسية الإسرائيلية المتشابكة للغاية لا تقبل تفكيك دعائم الضمانات الأميركية على الإطلاق.
واضطر السياسيون في “تل أبيب”، بعد تردُّد؛ إلى اعتماد آلية فحص الاستثمار؛ استجابة للضغط الذي مارسته “الولايات المتحدة”، وتقليص الإنخراط السريع مع “الصين”، مع الاستمرار في محاولة تحقيق التوازن بين جذب رأس المال والحفاظ على الدعم الأميركي.
إستراتيجية جديدة في “الهندي” والهاديء” !
ويُلمح التقرير إلى أن “واشنطن” أدركت أنها لا تستطيع منع شريكها الكائن في منطقة الشرق الأوسط؛ من جذب رأس المال الأجنبي؛ ما يؤدي إلى إلحاق الضرر بمصالحها في الدولة اليهودية. ومن المفارقات أن الأزمة السياسية الداخلية الإسرائيلية، التي شهدتها البلاد في المدة التي تمتد من عام 2019 حتى عام 2021، فضلًا عن تفشِّي جائحة (كوفيد-19)، أتاحت فرصة تُمكِّن “واشنطن” من تطوير إستراتيجية بديلة لممارسة ضغطٍ قاسٍ، بينما انصب تركيز “إسرائيل”، داخل البلاد. واضطرت “الولايات المتحدة” إلى أن تُقدِّم إمكانيات أخرى، وهي إستراتيجية تستخدمها أيضًا في منطقة المحيطين: “الهندي” و”الهاديء” لإبعاد البلدان عن المسار الصيني.
وجاء مفتاح حل هذا اللغز مع المبادرة التي أعلنتها إدارة “ترامب”، في المدة التي تمتد من عام 2019 إلى 2020، وهي: “صفقة القرن”، التي طال انتظارها، وتحمل عنوان: “السلام من أجل الرخاء”. وفي هذا الإطار، أشرفت إدارة “ترامب” على اتفاقات التطبيع والسلام؛ التي عُرفت بـ”الاتفاقات الإبراهيمية”. ويتمثَّل الحل الملموس للمشكلات الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط في الربط بين رأس المال الخليجي، والتكنولوجيا الإسرائيلية، والأسواق العالمية، والعمالة العربية.
وحقَّقت هذه الاتفاقات الجوانب الثلاثة الأولى إلى حد كبير، ولكن تظل الركيزة الرابعة من دون حل؛ ذلك أن الوسائل الاقتصادية لا يمكن أن تتنصَّل من الحلول السياسية لمِحنة الفلسطينيين.
وتحتل طالإمارات”، وهي من بين الدول التي وقَّعت على الاتفاق، مكانة تسمح لها بأن توفِّر حجم رأس المال المطلوب في “إسرائيل”، طالما أن “السعودية” لا تزال مُجرَّد شريك سري للدولة اليهودية.
سلام دافيء..
وينوِّه التقرير إلى أنه بعد انتهاء الاحتفالات، في أيلول/سبتمبر 2020، بدأت الصفقات الاقتصادية بين الإسرائيليين والإماراتيين تتدفق تدفُّقًا سريعًا، ويُعد هذا الاتفاق أول: “سلام دافيء”؛ بين “إسرائيل” وبلد عربي. وامتد التعاون الاقتصادي ليشمل جميع المجالات التي كانت تجذب رأس المال الصيني فيما مضى، من بينها شركات التكنولوجيا الفائقة، والمشروعات المُشتركَة، والبنية التحتية الحيوية.
وكانت البنية التحتية الحيوية أهم مجال من مجالات التعاون، لأنه لم يكُن من المُتصوَّر حتى قبل بضع سنوات، أن تسمح “إسرائيل”، للقوى الأجنبية، ناهيك عن الدول العربية، بالاستيلاء على الموانيء وخطوط الأنابيب. ويوضِّح هذا التغيير في السياسات كيف تغيَّر الشرق الأوسط مع دخول “الصين” إلى الساحة والتراجع التدريجي النسبي في نفوذ “الولايات المتحدة”. وأجبرت هذه العمليات، الدول الإقليمية، على التكاتُف سويًّا، لا سيما في ضوء توسُّع نطاق “إيران”، (وهي شريك إستراتيجي للصين).
وتتمثَّل أبرز المشروعات التي تستخدم رأس المال الإماراتي في تلبية الاحتياجات الإسرائيلية في تطوير “ميناء حيفا”، وهو المقابل تمامًا للجزء السابق ذكره من الخليج المملوك لـ”الصين”. وفي إطار هذا المشروع، أبرمت “شبكة موانيء دبي العالمية”، التي تتخذ من “دبي” مقرًّا لها، شراكة مع شركة “إسرائيل شيبيارد إندستري”، (Israel Shipyards Industries)، (أحد العناصر الأساسية في المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي)، لإنشاء ميناء صديق لت”الولايات المتحدة” في هذه المنطقة؛ التي تُعد مركزًا حيويًّا للنقل في المستقبل.
وعلاوةً على ذلك، يعمل الجانبان على مشروع خط الأنابيب، (ميد ريد)، الذي سيربط بين “ميناء إيلات”، الذي يقع على الطرف الشمالي لـ”البحر الأحمر”، ومدينة “عسقلان”، التي تقع على شاطيء “البحر الأبيض المتوسط”؛ ما يسمح لنفط الخليج بتجنُّب العبور من “قناة السويس”.
بين إسرائيل والصين..
ويوضح “سيبريغي”؛ أن هذا التعاون واجه بطبيعة الحال بعض العقبات، مثل سحب المنح الأميركية التي تدعم هذه الاتفاقات والمخاوف البيئية الإسرائيلية؛ فيما يتعلق بخط الأنابيب المذكور آنفًا. غير أن هذه القضايا طبيعية ولا تنتقص من أهمية التحوُّل الإستراتيجي في العلاقات وشبكة التعاون بين قوى منطقة الأوسط. ووفقًا لوجهة النظر الإماراتية، تحررت القيود السياسية، وتستعد أموال الإماراتيين للاستثمار في أحد المراكز التكنولوجية الأكثر إنتاجية في العالم، التي تحتل موقعًا إستراتيجيًّا. وفي الوقت ذاته، يحرص الإسرائيليون على بيع أصولهم والاستفادة من موقعهم الجغرافي من دون إغضاب “الولايات المتحدة”.
ويطرح الكاتب سؤالًا: إلى أين تقود هذه التطورات والعلاقات الاقتصادية، التي شهدت إزدهارًا في وقت سابق بين “الصين” و”إسرائيل” ؟
ويجيب: من المهم تأكيد أنه لا يمكننا الحديث إلا عن انقطاع مسار توسيع نطاق العلاقات بين: “تل أبيب” و”بكين”، ولكن (على الأقل في وقت كتابة هذا التقرير)، لا يمكننا أن نتحدث عن تراجع النفوذ الصيني. وستبقى الأصول التي باعتها “إسرائيل” بالفعل في حيازة “الصين”، ولكنَّ عمليات الاستحواذ على مشروعات جديدة سيقيِّدها فحص الاستثمار، أو أنها لن تصل حتى إلى مرحلة التفاوض؛ لأن الشراكة الإماراتية التي توسِّع نطاقها تستغل حاليًا جميع الفرص المُحتملَة.
ويمكن القول إن العلاقة بين: “إسرائيل” و”الصين” لن تشهد تدهورًا كبيرًا، ولكن سيفقد كلا الجانبين على نحو هاديء الاهتمام بتوسيع نطاق العلاقات بالوتيرة التي لوحِظَت، قبل عام 2019.
غياب التفاعلات مع الصين..
ويمضي كاتب التقرير قائلًا: ومع أن الزيارات السياسية والتجارية بين “إسرائيل” و”الإمارات العربية المتحدة”؛ كانت تُعقد باستمرار في الأشهر السابقة، سواء زيارات مباشرة أو عبر الإنترنت، تغيب التفاعلات المماثلة مع “الصين” بصورة ملحوظة.
وعلى المستوى الحكومي، وضعت حكومة “بينيت/لابيد” الجديدة في “إسرائيل”؛ إستراتيجية مُتعدِّدَة الأوجه للسياسة الخارجية، ودخلت في تعاملات مع الشركاء القدامى والجُدُد، ولكنَّها لم تتعامل مع “الصين”.
وتمتلك “الصين” عديدًا من الخيارات الأخرى في الشرق الأوسط لتوسيع نطاق نفوذها، ولا تحتاج “بكين” إلى إهدار طاقتها في المساومة مع صُنَّاع القرار الإسرائيليين لتحقيق مكاسب هامشية تخضع للتمحيص المستمر. ولذلك، ستعود “بكين” أيضًا إلى موقفها الدبلوماسي السابق المؤيد للفلسطينيين، وإلى شركائها التقليديين مثل: “إيران وسوريا”.
ويختم الكاتب تقريره؛ بتأكيد أن الوتيرة السابقة لتطوُّر الشراكة بين: “الصين” و”إسرائيل” لم تكن مريحة وتُهدِّد الأطراف الإسرائيلية المحلية والأجنبية، لا سيما “الولايات المتحدة”. وأصبحت “إسرائيل” الآن متلائمة مع الأنماط الواسعة للمنافسة على القوة العظمى بين “الولايات المتحدة” و”الصين” في الساحة العالمية، ما يُلقي بظلال أعمق على منطقة الشرق الأوسط.