وكالات – كتابات :
كان العامان الماضيان؛ منذ بدء الجائحة وحتى هدوئها، استثنائيين جدًا في تاريخ البشرية كلها؛ فلم يكن عالمنا يومًا بمثل هذا الترابط والتشابك، وهو ما سمح بحدوث الجائحة بهذا الشكل من الانتشار، فسابقًا كان يمكن لوباء مثل (كورونا) أن يكون مجرد عدوى محلية في مكان ظهورها فحسب، لا أن تنتشر في كل العالم بهذه السرعة والعمومية.
أحد الضحايا المؤقتين للجائحة كان سوق العمل؛ فالإغلاقات العامة في معظم دول العالم أدت إلى استحالة عمل الكثيرين في مختلف القطاعات وبقائهم في منازلهم، وذلك أدى أيضًا إلى اختلاف أنماط استهلاكهم واستثمارهم، وتعاظم ذلك مع الإجراءات الحكومية المختلفة من تخفيض أسعار الفائدة إلى قرابة الصفر، وتحديدًا في دول العالم المتقدمة، مع إنفاق حكومي ضخم لتقليل أثر الجائحة.
وإذا ما أردنا التركيز على سوق العمل في الاقتصاد الأميركي وحده، فقد يبدو أن الاقتصاد عاد إلى حالة ما قبل الجائحة، على الأقل إذا ما أخذنا بعين الاعتبار نسبة البطالة في “الولايات المتحدة الأميركية” دون أي اعتبار آخر؛ فقد استطاع الاقتصاد الأميركي الوصول إلى نفس عدد الوظائف ما قبل بدء الجائحة في عام 2020، بعد سنتين وربع من بدئها، طبقًا لبيانات النصف الثاني من عام 2022.
لكن عدة أمور علينا أخذها بعين الاعتبار قبل الإطمئنان لمثل هذا الاستنتاج؛ كما توضح كثير من البيانات في “الولايات المتحدة الأميركية”، وهي كيف تغير التوظيف في القطاعات المختلفة. وهل كسبت قطاعات ما وظائف أكثر من غيرها ؟.. وبالتالي هل ما تزال بعض القطاعات في ظرف أسوأ مما كانت عليه قبل الجائحة، ولماذا ؟.. وهل يشعر العمال الأميركيون بأن وظائفهم آمنة بعد الجائحة ؟.. وكيف تغيرت ظروف العمل بالنسبة لفئات مختلفة في السوق ؟
يُحاول هذا التقرير؛ الذي أعدته صحيفة (الغارديان) البريطانية، الإجابة عن هذه الأسئلة بالنسبة للاقتصاد الأميركي وحده؛ باعتباره أكبر اقتصادات العالم، وأكثرها تقديمًا للبيانات التي يمكن الاعتماد عليها في التحليل، ولأن التغير في اتجاهات سوق العمل في “الولايات المتحدة” قد يكون مشابهًا في غيرها من الدول؛ وذلك لأن هذه الدول شهدت ظروفًا مشابهة بسبب عالمية الجائحة، وإن كان من المنطقي افتراض اختلاف استجابة كل اقتصاد لهذه الظروف.
الرابحون والخاسرون.. كيف تغير شكل سوق العمل الأميركي ؟
لنبدأ أولًا بنظرة سريعة على سوق العمل الأميركي قبل الجائحة، وتحديدًا من خلال مؤشري البطالة وقوة العمل. بدايةً البطالة هي نسبة من لا يعملون إلى إجمالي قوة العمل، لا إلى إجمالي عدد السكان. فبعض من لا يعملون لا يُصنفون ضمن قوة العمل، سواء لكونهم ينتمون إلى فئة عمرية لا يُسمح لها قانونًا بالعمل، أو لأنهم توقفوا عن البحث عن عمل بشكل فعَّال لأي سببٍ من الأسباب.
وبما أن قوة العمل، أو ما يُمكن التعبير عنه بمؤشر (Labor Participation Rate)، هو الأساس الذي يجمع العاملين والعاطلين عن العمل؛ فسنبدأ به أولًا. ويمكن من خلال الرسم أعلاه تتبع نسبة من يعملون في الاقتصاد الأميركي؛ منذ الخمسينيات وحتى حزيران/يونيو 2022. ويمكن من خلاله أن نرى أن نسبة من يعملون في المجتمع الأميركي بدأت في التناقص بشكلٍ ثابت منذ بداية الألفية على الأقل.
ففي عام 2000؛ كان: 67% من المجتمع الأميركي – ممن هم في سن العمل – ضمن قوة العمل، لكن هذه النسبة استمرت في الهبوط بشكلٍ عام حتى وصلت إلى نسبة: 63.4% عشية الجائحة في شباط/فبراير 2020.
ولم تتسبب الجائحة في فقدان الكثيرين لوظائفهم فحسب كما سنُبّين لاحقًا، ولكنها أيضًا تسببت في خروج الكثيرين من سوق العمل أصلًا، سواء لتوقفهم عن البحث عن عمل، أو لقرارهم ترك سوق العمل حتى لو لم يفصلوا من وظائفهم لمختلف الأسباب، حتى وصلت النسبة إلى أدنى مستوى لها في شهر نيسان/إبريل من عام 2020، بنسبة: 60.2%، لكنها بدأت في التحسُّن لاحقًا مع تحسن الاقتصاد.
بغض النظر عن أن نسبة البطالة ومعدلات التشغيل في الاقتصاد الأميركي عادت إلى نفس معدلاتها قبل الجائحة، فإن قوة العمل، ونسبة مشاركة الأميركيين في العمل، لم تُعد إلى نفس نسبتها السابقة بعد؛ إذ لا تزال عند: 62.2%؛ في شهر حزيران/يونيو 2022؛ ما يعني أن مئات الآلاف من الأميركيين ما زالوا خارج قوة العمل اليوم، رغم أنهم كانوا ضمنها قبل الجائحة، وهو مؤشر على أن الجائحة ما تزال تؤثر على بعض الفئات، وتمنعهم من الرجوع إلى العمل مرة أخرى، أو هم يرفضون الرجوع لقوة العمل بشكل تطوعي فقط.
ففي عام 2020؛ قُدِّر أن الوظائف التي خسرها الاقتصاد بلغت: 20 مليون وظيفة على الأقل؛ وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة من: 3.7% عام 2019، إلى: 8.1% عام 2020، لكن الاقتصاد ظل يعوض هذه الخسارة في الوظائف، ويُقلل معها البطالة حتى وصل معدل البطالة إلى: 3.6%؛ في حزيران/يونيو 2022، وهي نسبة مطابقة “تقريبًا” لنسبة عام 2019. فهل يمكن القول إن أول فئة من الخاسرين بهذه الاعتبارات هم الأميركيون الذين خرجوا من قوة العمل ؟
لماذا يعمل عدد أقل من الأميركيين ؟
تقترح دراسة نُشرت في نيسان/إبريل 2022؛ ثلاثة عوامل يمكن أن تكون قد ساهمت في تخفيض نسبة مشاركة الأميركيين في سوق العمل، وزيادة من يقررون عدم العمل وعدم البحث عن عمل أيضًا، بمعنى أنهم لم يعودوا ضمن العاطلين؛ (الذين أخفقوا في الحصول على عمل بعد سعيٍ جاد)؛ لكونهم لم يبحثوا بشكل فعال عن عمل في الفترة الأخيرة.
أول هذه العوامل؛ انخفاض عدد النساء المشاركات في سوق العمل بسبب الجائحة، بعد أن تزايدت نسبة مشاركتهن في سوق العمل لعقود. وخصوصًا الأمهات اللواتي أصبح كثير منهن مجبرات على ترك العمل لرعاية الأطفال، ومتابعة دروسهن بعد إغلاق المدارس، وقد كان الاقتصادي الأميركي؛ “جوزف ستيغلتز”، قد أشار سابقًا إلى أهمية معالجة هذا الاختلال، وإمكانية فعل ذلك عن طريق بعض السياسات المقترحة من قبل الرئيس الأميركي؛ “جو بايدن”.
والعامل الثاني؛ هو اضطرار الكثيرين للتقاعد بسبب مخاوف صحية ناتجة عن الجائحة. أما العامل الأخير؛ فهو السياسات الحكومية التي هدفت إلى تعويض العاملين بسخاء طوال شهور كثيرة من الجائحة، ومعها انخفاض أسعار الفائدة التي عنت إمكانية أكبر للاستدانة دون تكلفة كبيرة. وغيرها من السياسات التي ضخت أموالًا كثيرة لفئات كبيرة من المجتمع، وقللت استهلاكهم أيضًا؛ ما جعل كثيرين منهم يرغبون في البقاء خارج قوة العمل، والإنتفاع من هذه المساعدات. وآخرون أدخروا الكثير من هذه الأموال، ويستطيعون اليوم عدم العمل والإنفاق مما أدخروه فقط.
وبينما يمكن القول إن من خرجوا من سوق العمل لهذه العوامل يمكن عودتهم لاحقًا، سواء بسبب إعادة فتح المدارس، وتوفير خدمات مناسبة للأمهات، أو بسبب تراجع انتشار الجائحة والفزع الذي أثارته، وأخيرًا بسبب تحسن سوق العمل بشكلٍ يجعل العمل أكثر جاذبية من البطالة والإعانات، أو حتى بسبب توقف هذه الإعانات الحكومية.
ولكن البعض يُحاجج بأن هذه الأسباب ليست هي الوحيدة التي تؤدي إلى انخفاض رغبة الأميركيين في العمل، بل إن بعض العمال يختارون عدم العودة للعمل لأسباب تتعلق ببيئة العمل والظروف النفسية المرافقة لذلك؛ فالكثيرون يرفضون العودة لظروف عمل ما قبل الجائحة، ويرغبون في الحصول على ظروف عمل عن بُعد، وأجور أعلى، أو بيئة عمل أفضل في المجمل، وغيرها من المطالب التي تتعلق باحترامهم واحترام عملهم.
ولا يمكن توفير مثل هذه الأمور في كل القطاعات، بل في بعضها فحسب، والواضح أن المديرين بدأوا ولو بشكلٍ بطيء في تفهم هذه المطالب وتوفيرها للعمال تدريجيًا، وهو ما قد يعني معالجة جزء من المشكلة لاحقًا.
كيف اختلف شكل سوق العمل بناءً على القطاعات المختلفة ؟
صحيح أن الرقم المطلق لعدد الوظائف عاد إلى ما كان عليه قبل الجائحة، لكن هذا لا يعني أن كل فرد في الاقتصاد الأميركي عاد إلى مكانه؛ فبعض الوظائف ما تزال أقل مما كانت عليه قبل الجائحة، بينما وظائف أخرى كسبت الكثير بسبب الجائحة نفسها.
ولنبدأ بصف الرابحين حسب كل قطاع، فلدينا على جهة الرابحين كلًا من أصحاب المهن الاحترافية وخدمات الأعمال مثل المحاسبين، والباحثين في مختلف العلوم، والعاملين في مجالات الإدارة والاستشارات التقنية، وقد أضاف الاقتصاد: 820 ألف وظيفة من هذه الوظائف منذ بدء الجائحة، ومعهم: 709 ألف وظيفة في مجالات النقل والتخزين بما في ذلك عاملو التوصيل طبعًا.
وهذان القطاعان هما المستفيدان الأكبر، وذلك نتيجة لتغير أنماط الاستهلاك خوفًا من التفاعل المباشر مع الآخرين؛ ما يعني أن الاقتصاد استغنى عن الكثيرين في مجالات خدمة الزبائن في المطاعم – مثلًا، وأضاف بدلًا عنهم عاملين في خدمات التوصيل خلال الجائحة، ولم يكن ذلك اختياريًا أصلًا، ولكن الأميركيين ربما غيروا أنماط استهلاكهم بشكلٍ دائم، وأصبحوا أقل ميلًا للذهاب إلى المطاعم – على سبيل المثال، حتى لو جرى فتح الاقتصاد بشكل كامل، وأصبحوا يُريدون احتكاكًا أقل، وبالتالي عمال توصيل أكثر.
وبشكلٍ أقل ارتفع عدد الوظائف للعاملين في مجالات البيع بالتجزئة، وبالنظر إلى البيانات التفصيلية فإن أكثر هؤلاء العاملين كانوا في مجالات البيع بالتجزئة على الإنترنت، ولكن بعض العاملين في المجال ما زالوا أقل مما كانوا عليه سابقًا، وتحديدًا العاملين في بيع الأثاث والملابس، وهي الوظائف التي يمكن الاستبدال بها عن طريق الإنترنت أكثر من غيرها، مقارنة مثلًا بالعاملين في مجالات بيع مواد البناء، وفي هذا السياق يُذكر أنه جرت إضافة: 160 ألف عامل جديد.
أما باقي الوظائف التي كانت في مجال الرابحين فلم تُحقق زيادة كبيرة في فرص العمل بالقطاعات الثلاثة المتبقية وهي قطاعات التمويل؛ (78 ألف موظف)، المعلومات (64 ألف موظف)، والتشييد (40 ألف موظف).
أما أكبر الخاسرين فقد كانت بالطبع القطاعات التي توقفت بشكلٍ كامل أو بشكلٍ أكبر من غيرها لفترات أطول من أي قطاع آخر، وتحديدًا قطاعات المطاعم والفنادق وما شابهها؛ فقد خسرت حتى شهر آيار/مايو الماضي: 1.3 مليون وظيفة، بسبب الإغلاقات أولًا، ثم بسبب تغير أنماط الاستهلاك.
تليها الوظائف الحكومية، والتي فقدت أكثر من: 600 ألف وظيفة، وما يزال القطاع الحكومي يُعاني من عدم القدرة على تعويض النقص منذ بدء الجائحة، جزئيًا بسبب استقالة الكثيرين من أعمالهم بسبب الضغوط التي واجهوها أثناء الجائحة، وتغير طبيعة التعليم فيها، ولأن رواتب الوظائف الحكومية شهدت ارتفاعًا أقل من نظيراتها في القطاع الخاص؛ ما يعني أن البعض ربما غير طبيعة عمله بشكلٍ كامل منذ بدء الجائحة لهذه الأسباب وغيرها.
وبشكلٍ مرتبط بفقدان الوظائف في القطاعات الحكومية؛ فإن قطاعي التعليم والصحة من أكثر القطاعات فقدانًا للوظائف؛ فهذان القطاعان فقدا: 340 ألف وظيفة؛ بسبب الضغوط نفسها المتعلقة بالجائحة، ولكن أيضًا بسبب اختلاف أنماط استهلاك هذه الخدمات عند الأميركيين، والاستبدال بكثير من هذه الخدمات أخرى إلكترونية، تتطلب خلق وظائف من نوع مختلف عما كان عليه الوضع قبل الجائحة.
انقلاب منطق سوق العمل..
نهايةً علينا الإشارة إلى بعض الملاحظات المهمة بخصوص سوق العمل وطريقة تغيره، فبسبب التغير النوعي في شكل سوق العمل – مع الوصول إلى نفس معدلات التوظيف – تغيرت بيئة العمل بالنسبة للكثيرين، وليس فقط العمال، بل الشركات أيضًا.
فبسبب أن الاقتصاد وصل إلى قمة قدرته على توظيف الناس، رغم أن الكثيرين تركوا سوق العمل، بالتزامن مع تغير شكل سوق العمل، أصبحت الشركات تُعاني من نقص الأيدي العاملة في بعض القطاعات؛ ما دفع كثيرًا من الشركات لرفع الأجور التي يعرضونها على العمال الجدد.
أدى ذلك إلى بزوغ ظاهرة (ضغط الأجور-Wage Compression)، والتي تعني أن العمال الجدد، والذين لا يمتلكون خبرة كافية، يُجنون أكثر من العمال القدامى بخبرات كبيرة، نسبة إلى الفرق بين الفئتين من حيث الخبرات، وهو ما يُفيد فئة العمال الأقل مهارة وخبرة وتعلمًا على حساب غيرهم ممن يعملون بالفعل، ومن هم على رأس عملهم في شركاتهم؛ وذلك بسبب نقص العمالة في السوق.
كما أن الظاهرة نفسها تعمل على تغيير الكثيرين لوظائفهم؛ فالتوجه نحو قطاعات أخرى قد يجلب معه دخولًا أفضل؛ خصوصًا في القطاعات التي لا تحتاج أصلًا لخبرة ومهارة عاليتين، مثل الانتقال من العمل في المطاعم إلى العمل في التوصيل، وغيره من الوظائف، وهذا الانتقال مدفوع بارتفاع الطلب في قطاعات، وانخفاضه في قطاعات أخرى، ونقص العمالة في السوق في هذه القطاعات.
ولكن مثل هذا الوضع لا يمكن استمراره؛ فالعمالة الأكبر خبرة ومهارة ستبدأ في التذمر، والمطالبة برفع أجورهم، بما يتناسب مع خبرتهم ومهارتهم التي تفوق غيرهم من العمال، وهو ما يعني ارتفاع تكاليف الشركات، ويُعزز هذه المطالب ارتفاع التضخم بشكل غير مسبوق منذ أربعة عقود في “أميركا”، ومخاوف حصول ركود وشيك دون انخفاض معدلات التضخم، ومن الناحية الأخرى فهذا سيرفع التكاليف على الشركات المنتجة للسلع والخدمات في الاقتصاد، وقد يدفعها إلى بدء التخلص من العمال، وبالتالي مضاعفة مخاوف التضخم.
من ناحية أخرى؛ فإن نسبة الأميركيين الذين يشعرون بأمان وظيفي لا تبلغ إلا خُمس الموظفين، وهذه ليست المشكلة الوحيدة في الاقتصاد؛ فالتضخم يأكل من القدرة الشرائية للأميركيين؛ فبينما تتوقع الشركات ارتفاع الأجور بنسبة: 3.4% فقط خلال العام الجاري، فإن التضخم اليوم وصل إلى: 8.8%؛ ما يعني أن الأجور الحقيقية انخفضت بشكلٍ عام في الاقتصاد.
ولا تتوافر بيانات كافية لمعرفة كيف اختلفت أجور الموظفين المختلفة بعد تغير شكل سوق العمل في القطاعات المختلفة، ولكن بيانات التضخم تُبيّن انخفاضها بشكلٍ عام بصرف النظر عن القطاع، وهذا يعني أنه رغم الظاهرة الغريبة المتمثلة في ضغط الأجور، والتي قد تجعل الكثيرين يظنون أنهم يجنون أموالًا أكثر، فإنه وبعد أخذ التضخم بعين الاعتبار فإن أجورهم نفسها بعد الزيادة تشتري أقل مما كانت تشتريه قبل الجائحة.