خاص: كتبت- نشوى الحفني:
لم يكن القتل وحده الوسيلة الإسرائيلية الوحيدة للإبادة داخل “قطاع غزة”؛ فلكونه احتلالٍ غادر استخدم سلاح التجويع كآلة حاصدّة للأرواح إلى جانب الغارات التي وزعت أشلاء الغزاويين في كل مكان داخل القطاع، والآن يسيّر الاحتلال بخطوات تسَّطرها علامات الجوع على أجساد المدنيين؛ وخاصة الأطفال، ليترك آثاره على الأجيال القادمة صحيًا وبدنيًا، ليُنتج شعبًا مريضًا معاقًا لا يُمكنه المقاومة أو الإنتاج، وهو الأمر الذي تُحاول (كتابات) تسليّط الضوء عليه من خلال الشهادات الحية من داخل القطاع.
إحصائيات “وزارة الصحة” في “غزة”؛ تقول إن عدد الوفيات نتيجة سوء التغذية منذ بداية الحرب، بلغ: (175) شهيدًا، من بينهم: (93) طفلًا.
وسُجلت خلال العام الحالي، وحتى الآن، (100) حالة وفاة، منها ثلاث حالات بواقع حالة في كلٍ من: شباط/فبراير وآذار/مارس ونيسان/إبريل، وحالتان في شهر أيار/مايو، وخمس في حزيران/يونيو؛ بينما استشهد الباقون خلال تموز/يوليو المنَّصرم، وهو الرقم الأكبر الذي يُسّجل منذ بداية الحرب، بواقع: (90) حالة. وسُجلت: (50) حالة وفاة خلال عام 2024، وأربع حالات في العام الذي سبقه.
وبلغ مجُمل المصنَّفين على أنهم حالات سوء تغذية: (28677)، وهناك: (260) ألف طفل دون الخمسة أعوام بحاجة للغذاء، و(100) ألف حامل، و(1556) حالة ولادة مبكرة، و(3120) حالة إجهاض ووفيات داخل الرحم، و(159409) من كبار السن، و(18) ألف جريح؛ جميعهم معرَّضون لمُضاعفات بسبب سوء التغذية.
تجاوز مرحلتين من المجاعة..
وبحسّب “برنامج الأغذية العالمي”؛ فإن معدلات سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة ارتفعت أربع مرات في “قطاع غزة”؛ خلال الفترة الأخيرة. ووفق التصنّيف المرحلي للأمن الغذائي، توجد أجزاء بـ”غزة” تجاوزت مرحلتين للمجاعة من أصل ثلاث. وأكد البرنامج أن الوقت ينفدّ أمام إطلاق استجابة إنسانية شاملة بالقطاع.
وحذَّرت “وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين”؛ (الأونروا)، من أن سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة تضاعف بين: آذار/مارس وحزيران/يونيو، نتيجة للحصار الإسرائيلي على “قطاع غزة”، موضحةً أن المراكز الصحية والنقاط الطبية التابعة لها أجرت في هذه الفترة ما يقُرب من: (74) ألف فحص للأطفال للكشف عن سوء التغذية، وحدّدت ما يقُرب من: (5500) حالة من سوء التغذية الحاد الشامل، وأكثر من: (800) حالة من سوء التغذية الحاد الوخيم.
ووفقًا لـ”وزارة الصحة”؛ بـ”غزة”، فإن: (40) ألف طفل يتهدّدهم خطر الموت بفعل نفاد الحليب ونقص الغذاء.
انعدام حاد للأمن الغذائي..
ويواجه سكان القطاع مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد؛ بحسّب تقرير أممي مشترك بشأن “الأمن الغذائي والتغذية في العالم لعام 2025″، صادر عن “منظمة الأغذية والزراعة”؛ (فاو)، و”برنامج الأغذية العالمي”، و”الصندوق الدولي للتنمية الزراعية”، و”منظمة الأمم المتحدة للطفولة”؛ (يونيسيف)، و”منظمة الصحة العالمية”.
وأعلن “المرصد الرئيس للأمن الغذائي في العالم”؛ أن: “أسوأ سيناريو مجاعة يحصل الآن في قطاع غزة”، بحسّب “التصنّيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي”؛ (IPC)، الذي وضعته “الأمم المتحدة”. وحذَّر من أن عمليات إلقاء المساعدات فوق القطاع غير كافية لوقف الكارثة الإنسانية، مشيرًا إلى أن عمليات إدخال المساعدات برًا أكثر فاعلية وأمانًا وسرعةً.
“غزة” دخلت المرحلة الخامسة من الجوع..
وفي شهادته؛ يقول “د. محمد أبو سليمة”، مدير “مجمع الشفاء” بقطاع غزة، في تصريحات خاصة لـ (كتابات)، أن المجاعة وسوء التغذية في “غزة” بلغت مبلغًا صعبًا الآن في ظل إغلاق المعابر لأكثر من (04) شهور ونصف لم يصل لـ”قطاع غزة” أي شيء، الآن أصبح أكثر من (02) مليون شخص في “قطاع غزة” يُعانوا الآمرين، نرى الناس في الشوارع هائمة على وجوهها، عيونها غائرة وجوهها ذابلة لا تستطيع المشي ولا التحرك بسبب سوء التغذية، يأتي إلينا للمستشفيات أعداد كبيرة من المرضى يُعانون سوء التغذية، ما نقدَّمه لهم فقط عبارة عن محاليل طبية لا تُثمن ولا تُغني من جوع لأنه لم يدخل إلى “قطاع غزة” أي من الفواكه أو الأجبان والبيض واللحوم منذ أربعة شهور ونصف، فبالتالي دخلنا المرحلة الخامسة من الجوع حيث تُسجّل وفيات يوميًا من هؤلاء المجوعين داخل “غزة”.
100 ألف طفل يُعانون من سوء تغذية حاد..
ويتحدث أن هناك (100) ألف طفل أو يزيد دخلوا في سوء تغذية حاد، منهم (40) ألف طفل يراجعوا المستشفيات بشكلٍ كبير ومنهم من يتوفى يوميًا؛ خصوصًا من يُعانون من الأمراض، حيث لا يتوفر الغذاء والدواء لهؤلاء المرضى يتوفى منهم عددٍ كبير.
وأضاف “أبو سليمة”؛ أن لديهم (60) ألف امرأة حامل يُعانين من سوء تغذية كبير جدًا تؤثر على حياتهن وعلى حياة الأجنة، ولدينا المئات من الأمهات يوميًا بسبب سوء التغذية يدخلن في حالة من الخلل المناعي فيؤدى إلى التهابات عند هؤلاء السيدات منهن من يدخل العناية المركزة ومنهن من توفين، وأيضًا يؤثر على الأجنة، حيث يولدن قبل الميعاد بأطفال بأوزان قليلة جدًا.
عجز 70% في المواد الطبية..
ويتأسف من أن المستشفيات لديها نقص في المواد الطبية وصل إلى (60) أو (70%) من الأدوية في “قطاع غزة”، فنحن في المستشفيات نُحارب على أكثر من جهة، الجهة الأولى وهي الجرحى الذين يأتون إلينا بالعشرات من مراكز توزيع المساعدات ومن مراكز القصف الإسرائيلي، وأيضًا الأمراض المزمنة؛ وأيضًا المجوعين ممن يأتون إلينا بسوء تغذية كبير، فللأسف لا نُقّدم لهم شيء صراحة سوى المحاليل الطبية التي تبُقيّهم على قيّد الحياة فلا يوجد أي من المقومات الطبية كالمُكملات الغذائية والفيتامين أو الأملاح المعدنية أو الكربوهيدرات أو البروتينات.
لافتًا إلى أنه حتى الجرحيى ممن ينقذَّون حياتهم بعد عملية كبيرة؛ يُعانوا الآمرين بسبب عدم توفير الغذاء للمرضى داخل المستشفيات، فلا تلتئم جروحهم وربما تلتهب، فمنهم من يدخل في مضاعفات ومنهم من يستَّشهد وهناك الطواقم الطبية التي تعمل على مدار (24) ساعة منذ أكثر من (22) شهرًا، أيضًا هي جائعة لا تعمل بكفاءتها، منهم من أغمي عليه وهو داخل العمليات ومنهم من أصيب ومنهم من أعطيناه بعض المحاليل والجلوكوز حتى يتقوى على العمل بالمستشفيات، فلهذا الوضع مأساوي بمعنى الكلمة.
وأوضح “أبو سليمة” أن نسبة أشغال الأسرة في “مستشفى الشفاء” على سبيل المثال وصل إلى: (250%) من الجرحى والمجوعين، وهذا يفوق طاقتنا الاستيعابية بكثير، فلم نجد سرير للمرضى؛ حيث نضعهم على الأرض وفي الطرقات حتى نتمكن من استيعاب هذه الأعداد الكبيرة من المجوعين ومن سوء التغذية ومن عشرات الجرحى.
دمار جيل كامل بسبب سوء التغذية..
وعن سوء التغذية؛ يؤكد أنها تنعكس بالسلب على جيلٍ كامل بعد ذلك لأن الطفل إن لم ينمو بطريقة صحيحة في سنواته الأولى ستتعرض حياته للخطر في قابل الأيام؛ وسيكون لديه مشكلة في أعضائه الداخلية ومشكلة في الإدراك والعظام ويتعرض للتقزم، ومع التعرض لمشكلة في الناحية الإدراكية سيكون لديه مشكلة تعليمية وسلوكية ليُصبّحوا منطويين على أنفسهم وربما يتعرضوا للتوحد.
واستدّرك قائلًا؛ أن الإسعافات الأولية التي تدخل للغذاء، لا نعتمد على الطحين فقط، كما يصّور العالم أننا يدخل إلينا الطحين، نُريد اللحوم والأسماك، والبيض والخضروات والفواكه حتى يتمكن الإنسان من بناء نفسه من المواد الغذائية اللازمة لـ”قطاع غزة”؛ ومن الزيوت وأيضًا المواد الطبية ومستَّهلاكاتها والأدوية اللازمة لعلاج أمراض سوء التغذية مثل المُكملات الغذائية والفيتامينات والأملاح والكربوهيدارات، نحتاجها بشكلٍ عاجل جدًا خصوصًا للأطفال والحوامل، فإن لم يحدث التدخل العاجل وأدخل كميات بشكلٍ كبير سيكون لدينا عدد وفيات أكبر بكثير، الآن نتحدث عن أكثر من (180) رجل وامرأة وطفل استشهدوا من التجويع ونتحدث عن (95) طفل منهم، وفي الأساس نُريد وقف الحرب على “غزة” حتى نتمكن من تقديم الرعاية الطبية، فمثلًا جراحة العظام أصبح رصيدها صفر فلا يوجد مثبَّتات الكسور ولا حتى الشاش المعقم ولا عمليات ولا غرف عناية مركزة، فأصبح القطاع الطبي منهار تمامًا أمام الأعداد الكبيرة من المجوعين والجرحى.
تدمير مقصود وممنهج..
وفي شهادته لـ (كتابات)، قال الدكتور “جمال عصمت”؛ مستشار “منظمة الصحة العالمية”، إن ما يحدَّث في “غزة” هو جريمة متعدَّدة الأبعاد، فالطفل الذي لا يتلقى غذاءً كافيًا في سنواته الأولى، سيتعرض في المستقبل لمشكلات عقلية وإدراكية، فضلًا عن ضعف المناعة والتعرض للأمراض المزمنة، مؤكدًا أن نقص التطعيمات وانعدام الرعاية الصحية الأساسية سيجعل “غزة” منطقة موبوءة صحيًا، محذرًا من أن ذلك ليس خطرًا محليًا فقط، بل يمتدّ أثره إلى الأمن الصحي الإقليمي والدولي.
وأضاف “عصمت”؛ أن تدمير النظام الصحي في “غزة” مقصود وممنَّهج، إذ لم يتبّق أي مستشفى عاملة بكامل طاقتها، ولا حضّانات، ولا غرف عناية مركزة، ولا إمكانات للجراحات الطارئة، وهو ما يوضح أن هدف الاحتلال لم يُعد فقط إسكات الأصوات، بل إبادة القدرة الجسدية والفكرية للشعب الفلسطيني، وإخضاع سكان “الضفة الغربية” بالتهديد بمصيّر شبيّه.
تحولت لمنطقة ضعيفة صحيًا..
ويكمل “د. جمال عصمت”، تصريحاته الخاصة لـ (كتابات)، قائلًا أن المشكلة التي تواجه الأجيال في “غزة” نتيجة لسياسة التجويع التي يستخدمها المحتل الصهيوني هو الضعف البدني والعقلي، حيث أن نقص المواد الغذائية لا تؤثر فقط على الجسم بل تؤثر على العقل ونموه وعلى المناعة الطبيعية للجسم والتي تؤثر على مقاومة الأمراض، ليس هذا فقط وإنما النقص الشديد في التطعيمات التي يحتاجها الطفل في سنوات مبكرة من عمره، فبهذا تحولت “غزة” إلى منطقة ضعيفة صحيًا، حيث لا يوجد بها أي خدمة صحية بسبب “إسرائيل” والدول الداعمة لها، حيث أوقفت الغذاء والإشراف الطبي داخل القطاع؛ وخصوصًا على الأطفال أكثر المتأثرين بالمجاعة وسوء التغذية.
موضحًا أن هذا مرتبط كله بتدمير النظام الصحي في “غزة”، حيث لم يتبقى أي مستشفى تستطيع القيام بعملها، فلا حضّانات ولا رعاية مركزة ولا إسعافات عاجلة ولا دم ولا غرف للعمليات.
وأكد على أن هدف المُحتل هو القضاء على شعب “غزة”، وأثناء التفكير في كيفية القضاء عليهم، يُركزون على تخويف سكان “الضفة الغربية” من تكرار نفس السيناريو معهم.