وكالات – كتابات :
تجددت احتمالات نشوب مواجهة عسكرية بين “إسرائيل” من جهة، و”لبنان”، ممثلاً في (حزب الله) من جهة أخرى، إثر وصول منصة التنقيب (إنرغين باور)؛ التابعة لشركة (إنرغين) اليونانية، إلى حقل (كاريش) المتنازع عليه بين “لبنان” و”إسرائيل”؛ في 05 حزيران/يونيو 2022، وتحذير وزير الدفاع اللبناني؛ “موريس سليم”، من تدهور أمني جنوب البلاد، بالإضافة إلى تهديد الأمين العام لـ (حزب الله)، “حسن نصرالله”، بأن: “المقاومة” لن تقف مكتوفة الأيدي، وأن كل الإجراءات الإسرائيلية لن تستطيع حماية المنصة العائمة لاستخراج “النفط” من حقل (كاريش)؛ كما استهل التحليل الذي أعده مركز (المستقبل) للأبحاث والدراسات المتقدمة.
خلافات على مدار عقد..
يعود أصل النزاع بين “لبنان” و”إسرائيل”؛ حول حقل (كاريش)، إلى نزاع أعم يشمل منطقة بحرية تُقدر مساحتها بنحو: 860 كيلومترًا مربعًا على أقل تقدير؛ و2290 على أقصى تقدير؛ إثر خلاف بين البلدين حول ترسيم الحدود البحرية، والخطوط المعتمدة بوصفها أساسًا لترسيم الحدود. ويمكن إجمال أسباب الخلاف الحالي في العوامل التالية:
01 – اختلاف خطوط الترسيم: اعتمدت “إسرائيل” الخط: (23)، بوصفه أساسًا للتفاوض مع “لبنان” حول المنطقة المتنازع عليها، وهو ما يحصر هذه المنطقة في مساحة: 860 كيلومترًا، وهو الخط الذي اعتمده “لبنان” في الاتفاق الأولي على ترسيم الحدود البحرية مع “قبرص”، وصُدر به مرسوم الحكومة اللبنانية رقم (6433) عام 2011، الأمر الذي استغلته “إسرائيل” ودفعت بمقتضاه سفن التنقيب إلى بعض المناطق المتنازع عليها طيلة السنوات الماضية، وصولاً إلى الواقعة الأخيرة في حقل (كاريش)؛ الذي يقع خارج هذا الخط، غير أن “بيروت” سرعان وما تراجعت عن المطالبة بهذا الخط.
ففي 2012؛ رفض “لبنان” مقترح الوسيط الأميركي؛ “فريدريك هوف”، بتقسيم المنطقة بالتساوي بين “لبنان” و”إسرائيل”. وفي آيار/مايو 2020، عادت المفاوضات بوساطة المبعوث الأميركي؛ “آموس هوكشتاين”، وتوقفت بعد أربع جولات؛ في شباط/فبراير 2022، إثر دفع المفاوضين اللبنانيين بالخط: (29)، بدلاً من الخط: (23)، ليكون أساسًا للتفاوض، ما يعني زيادة المساحة التي يُطالب “لبنان”؛ إلى: 2290 كيلومترًا مربعًا.
02 – التباينات الداخلية اللبنانية: كان الخلاف بين القوى اللبنانية ذاتها أحد المسببات الرئيسة للخلاف الراهن بين “لبنان” و”إسرائيل”؛ إذ لم تنجح جولات وزيارات الوسيط الأميركي في إقناع القوى اللبنانية، أو على أقل تقدير الرئاسات الثلاث؛ (الجمهورية – الحكومة – البرلمان)، في تبني موقف موحد من المقترحات الأميركية.
وزاد الأمر تعقيدًا رغبة المفاوضين اللبنانيين في تغيير الأساس التفاوضي مع “إسرائيل”؛ لينتقل من الخط: (23) كأساس للترسيم إلى الخط: (29)، مما أسهم في جمود المفاوضات.
وأدت الخلافات الداخلية اللبنانية إلى عدم صدور مطلب موحد بالخط: (29)؛ إذ أصدرت حكومة تصريف الأعمال برئاسة؛ “حسان دياب”، في نيسان/إبريل 2021، مرسومًا لتعديل المرسوم رقم (6433)، وينص على أن الخط الأولي للحدود البحرية اللبنانية هو الخط: (29)، وليس الخط: (23)، بما يسمح لـ”لبنان” بالاستفادة من حقل (قانا) الغني بـ”النفط”؛ فضلاً عن جزء من حقل (كاريش)، إلا أن هذا المرسوم لم يجرِ توقيعه من قبل الرئيس اللبناني؛ “ميشال عون”.
03 – تنفيذ العقود الإسرائيلية: يُمثل حصول شركة (إنرغين) اليونانية؛ من “إسرائيل”، على حقوق تطوير حقول في مياه المتوسط، ومنها حقل (كاريش)؛ في عام 2018، ثم التعاقد بين الشركة اليونانية وشركة (هاليبرتون) الأميركية؛ في 2021، على الاشتراك في التنقيب عن “الغاز” في هذه الحقول؛ أحد الأسباب الرئيسة الدافعة وراء تجدد النزاع والوصول إلى المشهد الراهن.
وحسب هذه الاتفاقات؛ كان مخططًا أن تصل منصة استخراج “النفط” من “سنغافورة” إلى حقل (كاريش)؛ في نهاية عام 2020، على أن يبدأ استغلال الحقل في مطلع العام الجاري 2022.
وكانت “إسرائيل” تٌّعول على إنهاء المفاوضات مع “لبنان” قبيل هذه المواعيد لتتمكن من استغلال هذه الحقول من دون عوائق قانونية، غير أن عدم الإنتهاء من المفاوضات مع “لبنان”، بل ومطالبة رئيس البرلمان اللبناني؛ “نبيه بري”، بأن يكون التفاوض غير محدد المدة، جعل “إسرائيل” تتجه إلى فرض الأمر الواقع.
تهديد متبادل بالتصعيد..
صاحب وصول منصة الاستخراج (إنرغين باور)؛ لحقل (كاريش)، تصعيد بين “لبنان” و”إسرائيل” حول الثروات النفطية في شرق المتوسط، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
01 – تهديد (حزب الله) اللبناني: يُمثل تهديد الأمين العام لـ (حزب الله)؛ “حسن نصرالله”، بأن المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي؛ تهديدًا صريحًا باستهداف المنصة؛ (إنرغين باورإ، وعرقلة مساعي “إسرائيل” استخراج “الغاز الطبيعي” من الحقل.
ويمكن قراءة هذا التهديد في ضوء نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، التي جرت في 15 آيار/مايو الماضي، وأسفرت عن تراجع نسبي لـ (حزب الله) وحلفائه داخل “مجلس النواب”. ومن ثم كان من الضروري أن يلوح الحزب بسلاحه في وجه “إسرائيل” ليُعيد ترسيخ صورة ذهنية لدى اللبنانيين بأن سلاح الحزب ما هو إلا سلاح مقاومة في مواجهة “إسرائيل”؛ ولا يستهدف سوى حماية “لبنان” وسيادته، وبصورة ترد على أي حديث عن سلاح (حزب الله)، ومن ثم حفاظ الحزب على سلاحه لتوظيفه داخليًا ضد خصومه السياسيين، أو خارجيًا ضد “إسرائيل”، على حدٍ سواء.
02 – رد إسرائيلي مقابل: استقبلت “تل أبيب”؛ تهديدات “حسن نصرالله”، بتهديدات مماثلة، والتي صدرت عن رئيس الأركان الإسرائيلي؛ “أفيف كوخافي”، والذي أعلن خلالها أن الجيش الإسرائيلي يتعامل مع ست جبهات قتال وفي مواجهة عددٍ كبير من التهديدات المتنوعة، فضلاً عن تأكيده وضع الجيش الإسرائيلي قائمة بآلاف الأهداف التي سيتم تدميرها في “لبنان” ضمن خطة هجوم تستهدف مقرات القيادة والقذائف الصاروخية والراجمات.
كما تبنت “إسرائيل” إجراءات دفاعية، فقد أكدت “هيئة البث الإسرائيلية” وصول مركبات بحرية، بما فيها غواصات ستُساعد في تأمين المنصة العائمة، وكذلك نسخة بحرية من منظومة (القبة الحديدية) للدفاع الصاروخي.
03 – مناورة “عربات النار”: أنهت “إسرائيل” أعمال المناورة العسكرية: “عربات النار”، وذلك قبل أيام من وصول منصة الاستخراج (إنرغين باور) إلى حقل (كاريش)، وتحديدًا في 03 حزيران/يونيو الجاري، ووصفت المناورات بأنها الأضخم على الإطلاق في التاريخ العسكري الإسرائيلي.
وقد أُجرى جزء منها في “قبرص”، وتدربت فيها القوات الإسرائيلية على خوض حرب على أكثر من جبهة. وفي هذه الأثناء وجهت “تل أبيب” ضربة لـ”مطار دمشق الدولي”؛ خرج على أثرها من الخدمة.
وهي كلها مؤشرات يمكن قراءتها في إطار الصراع “الإسرائيلي-الإيراني”، كما أنها مؤشر على استعداد “إسرائيل” للدخول في مواجهة ضد “إيران” وحلفائها على أكثر من جبهة، وبالتالي فإن أحد أهداف هذه المناورات هو ردع (حزب الله) عن التصعيد ضد “إسرائيل”.
استئناف المفاوضات غير المباشرة..
دفعت التهديدات المتبادلة بين (حزب الله) و”إسرائيل” باتجاه احتمالات تحوّل الخلاف الحدودي إلى نزاع عسكري، غير أن هناك عددًا من العوامل التي تُثبط من فرص حدوث مثل هذه المواجهات، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
01 – تحاشي الجانبين الحرب: يُلاحظ أن هناك حرصًا من جانب “إسرائيل” و(حزب الله)؛ منذ إنتهاء حرب 2006، على تجنب الدخول في حرب جديدة، وذلك مهما كانت الدوافع، وذلك من منطلق أن أي مواجهة بين الجانبين سوف تتحول إلى مواجهة شاملة بين الجانبين، وهو ما سيفرض كُلفة عسكرية واقتصادية باهظة لن يكون بمقدور أي من الجانبين تحملها.
ولذلك لا تعدو التهديدات المتبادلة كونها رسائل رمزية تُحقق لكلا الطرفين أهدافًا داخلية في المقام الأول.
هذا إلى جانب أنه على الرغم من التصعيد الإسرائيلي ضد “إيران”؛ في الآونة الأخيرة، فإن هذا التصعيد يبقى منحصرًا في “سوريا” و”إيران”، ولا يرغب أي من الأطراف الإقليمية أو الدولية في الوقت الراهن من الذهاب إلى مواجهات مفتوحة.
02 – وسيلة ضغط إسرائيلية: يمكن قراءة الخطوة الإسرائيلية المتمثلة في دفع منصة استخراج النفط، (إنرغين باور)، إلى حقل (كاريش) على أنها هدفت إلى فرض أمر واقع يُسهم في تحريك المفاوضات غير المباشرة حول ترسيم الحدود البحرية مع “لبنان”؛ بعدما توقفت المباحثات، على نحو أضر بمصالحها الاقتصادية، وأرجيء من قدرتها على الاستفادة من الثروات النفطية في حقل (كاريش).
ومن واقع هذه الأهداف لن يكون من مصلحة “إسرائيل” الدخول في مواجهة عسكرية مع “لبنان” أو (حزب الله)، تؤدي إلى المزيد من عرقلة الاستفادة من ثروات “الغاز الطبيعي” في وقت تبدو فيه الحاجة الإسرائيلية ملحة إلى الإسراع للاستفادة من تداعيات الحرب بين “روسيا” و”أوكرانيا” والحاجة الأوروبية الماسة إلى إيجاد بدائل لـ”الغاز الروسي”.
03 – وصول المبعوث الأميركي: سارع المسؤولون اللبنانيون إلى التنديد بوصول (إنرغين باور) إلى حقل (كاريش)، فضلاً عن دعوة الوسيط الأميركي؛ “آموس هوكشتاين”، إلى زيارة “بيروت” لاستئناف المفاوضات، وهو ما يكشف عن تحاشي “لبنان” التصعيد.
وزار “هوكشتاين” بالفعل؛ “بيروت”، في 13 حزيران/يونيو 2022، والتقى برؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان، وتلقى عرضًا شفهيًا يتمثل في التمسك بالخط: (23) كأساس لترسيم الحدود مقابل الحصل على حقل (قانا) النفطي بالكامل، وهو ما عُدّ أساسًا يمكن البناء عليه للمفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي واللبناني.
وفي الختام؛ تُشير المعطيات الراهنة إلى أن “إسرائيل” و”لبنان” تتحاشيان الدخول في مواجهات عسكرية، وأن الأمر الأقرب للحدوث هو استئناف التفاوض بين الجانبين بوساطة أميركية بناء على المقترح الأخير الذي قدمه المسؤولون اللبنانيون.
وفي الوقت ذاته، ستبقى هذه القضية من الملفات التي يعمل الفرقاء اللبنانيون على اختلافهم على استغلالها في خلافاتهم الداخلية، بما يُشير إلى احتمالية أن يعود (حزب الله) إلى الاعتراض على التنازل عن الخط: (29) مثلما اعترض من قبل على التنازل عن “مزارع شبعا”؛ بعد ترسيم الحدود البرية مع “إسرائيل”.