وكالات – كتابات :
نشرت مجلة (فورين بوليسي) تحليلًا؛ لـ”غيكوب ماشانغاما”، وهو محامٍ دنماركي ومناصرٌ لحقوق الإنسان ومعلِّق اجتماعي، تناول فيه الإشراف على عمل منصات التواصل الاجتماعي في “أوروبا” والقوانين التي تُحركها، إذ يرى أن هذا الإشراف يُمثل تهديدًا كبيرًا لحرية التعبير، ويأتي ذلك بعد أن اشترى الملياردير ورجل الأعمال؛ “إيلون ماسك”، منصة التواصل الاجتماعي؛ (تويتر)، مقابل: 44 مليار دولار.
ويستهل الكاتب تحليله بالإشارة إلى نتائج استحواذ “إيلون ماسك”؛ على موقع (تويتر)؛ المتمثلة في إثارة الخوف والبُغض بين المثقفين والسياسيين القَلِقين من تعهُّده بإعادة المنصة إلى مكانتها بوصفها: “جناح حرية التعبير لحزب دعاة حرية التعبير”، وربما تسعى هذه النُّخب القلقة إلى البحث عن عزاء لهم في “أوروبا”، حيث تواجه الآن أحلام “ماسك” التكنولوجية الطوباوية، التي يحلم من خلالها بحرية تعبير مطلقة عبر الإنترنت، عقباتٍ غير مسبوقة، وهناك سؤال آخر: هل تعرف هذه النخبة الجوانب الحالكة للثقافة التكنولوجية في “أوروبا” ؟
يمضي “الاتحاد الأوروبي” في خضم الإنتهاء من “قانون الخدمات الرقمية”؛ (DSA)، وهو عبارة عن محاولة تشريعية طموحة لإنشاء: “معيار ذهبي عالمي”؛ بشأن تنظيم المنصات الاجتماعية. وبعد خمسة اجتماعات ثلاثية، في 23 نيسان/إبريل، توصَّل “البرلمان الأوروبي” و”المجلس الأوروبي” إلى اتفاق سياسي مؤقت بشأن “قانون الخدمات الرقمية”.
وبالنظر إلى النفوذ الاقتصادي والسياسي لـ”الاتحاد الأوروبي”، قد يكون لـ”قانون الخدمات الرقمية” تأثير كبير يتجاوز “أوروبا” من خلال ما يُسمى: بـ”أثر بروكسل”. وعلى هذا النحو، من المُرجَّح أن يؤثر “قانون الخدمات الرقمية” في الممارسة العملية لحرية التعبير على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، سواء كانت موجودة في “وادي السيليكون” أو مملوكة لمليارديرات التكنولوجيا الأميركيين.
وفي حين أن حرية التعبير محمية بموجب “ميثاق الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية” و”الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان”؛ على حدٍ سواء، فإن هذه المواثيق القانونية توفر للحكومات مساحة أكبر بكثير من التعديل الأول لدستور “الولايات المتحدة” فيما يتعلق بتحديد الفئات، مثل خطاب الكراهية، والتي يمكن تنظيمها. كما لا يوفر القانون الأوروبي حماية قوية ضد مسؤولية الوسيط؛ كتلك التي توفرها المادة (230) من “قانون حشمة الاتصالات” الأميركي، الذي يحمي منصات الإنترنت الأميركية من المسؤولية عن معظم المحتوى الذي يُنشِئه المستخدم.
ويتضح هذا النهج المتوازن لحرية التعبير بين الديمقراطيات الأوروبية من خلال محتوى “قانون الخدمات الرقمية”. ويتضمن النص بعض المواد التي تستحق الثناء. ويتضمن ذلك إلتزاماتٍ أكبر بالشفافية على منصات التواصل الاجتماعي الكبيرة من الكشف عن قرارات الإزالة الخاصة بهم ونشر تقارير سنوية حول الإشراف على المحتوى وتطبيقه.
وسيسمح هذا للمستخدمين بفهم أفضل لكيفية التوصية بالمحتوى لهم وكيفية اتخاذ قرارات الإشراف. وسيكون لدى المستخدمين أيضًا الحق في إعادة محتوياتهم إذا ارتكبت المنصات أخطاءً. إنها أيضًا خطوة إيجابية تتمثل في أن “قانون الخدمات الرقمية” لا يفرض إلتزامات مراقبة عامة على منصات وسائل التواصل الاجتماعي؛ التي من شأنها زيادة استخدام خوارزميات تصفية المحتوى أو غربلته بهدف فحص المحتوى الذي يُفترض أنه غير قانوني ووضع علامات عليه وإزالته.
القانون لا يُحقق التوازن بين الأضرار وحماية حرية التعبير..
ويستدرك الكاتب قائلًا: لكن على الرغم من هذه العناصر الإيجابية، لا يُحقق “قانون الخدمات الرقمية” التوازن الصحيح بين مواجهة الأضرار الحقيقية عبر الإنترنت وحماية حرية التعبير. وسيؤدي ذلك على الأرجح إلى تقلُّص مساحة التعبير عبر الإنترنت، حيث تجد شركات وسائل التواصل الاجتماعي محفِّزات لحذف كميات هائلة من المحتوى القانوني تمامًا.
وفي الواقع؛ يتضمن “قانون الخدمات الرقمية” عددًا من الملامح التي يُرجَّح أن تتسبب في أضرارٍ جانبية خطيرة لحرية التعبير عبر الإنترنت في “أوروبا”. وقد اعتُمِد نموذج حدود الإزالة الإلزامية القصيرة، والذي يتطلب من المنصات حذف المحتوى غير القانوني المبلَّغ عنه بسرعة أو مواجهة غراماتٍ باهظة، لأول مرة في “ألمانيا”؛ في عام 2017، بوصف ذلك جزءًا من “قانون إنفاذ الشبكة” أو (NetzDG).
وبحلول عام 2020، كان أكثر من 20 دولة، بما في ذلك الأنظمة السلطوية مثل: “روسيا” و”تركيا”، قد اعتمدت هذا القانون. ويتكرر الآن هذا النهج جزئيًّا في “قانون الخدمات الرقمية”، والذي يُنشيء آلية: “الإشعار والعمل”. ويجب على الوسطاء التصرف بمجرد استلام مثل هذا الإشعار: “بدون تأخير لا داعي له”، مع مراعاة نوع المحتوى وضرورة الإزالة.
وتواجه المنصات الكبيرة جدًّا عبر الإنترنت غراماتٍ تصل إلى: 6% من حجم أعمالها السنوي في جميع أنحاء العالم في حالات عدم الإمتثال. وعلى الرغم من عدم وجود حدود زمنية صريحة، فمن الواضح أن أسلوب الإزالة الإلزامي مستوحًى من “قانون إنفاذ الشبكة”. ويُمثل التشريع الذي يُلزم المنصات بإزالة المحتوى غير القانوني في فترة زمنية قصيرة مشكلة لثلاثة أسباب على الأقل.
ويوضح الكاتب هذه الأضرار قائلًا: أولًا، في حين أن عديدًا من السياسيين يضعون إطارًا لعدد كبير من القضايا، بما في ذلك الدعاية الإرهابية عبر الإنترنت وخطاب الكراهية والمعلومات المضللة، من حيث عدم شرعية المحتوى، فإن البيانات المتاحة تُشير إلى أن معظم المحتوى الإشكالي عبر الإنترنت قانوني.
وأظهر تحليل قانوني حديث؛ (شارك الكاتب في إعداده)، لـ 63 مليون تعليق دنماركي على (فيس بوك)؛ أنه بينما وجدتْ خوارزمية تستند إلى معايير مجتمع (فيس بوك) أن: 1.4% من التعليقات يُعد: “هجمات كراهية”، فإن نحو: 0.0066% فقط انتهكت بالفعل الأحكام ذات الصلة من القانون الجنائي الدنماركي بشأن خطاب الكراهية والتهديدات وتمجيد الإرهاب والتحريض على الأعمال غير القانونية وتهديد المسؤولين الحكوميين وإهانتهم.
ووجد استطلاع آخر؛ شارك الكاتب في إجرائه، لحسابات (فيس بوك) لخمس وسائل إعلام دنماركية؛ أن: 1.1% فقط من التعليقات المحذوفة تنتهك القانون الجنائي، في حين أن نصف التعليقات المحذوفة تقريبًا لم تكن بغيضة أو مسيئة أو تهديدية. وبالمثل، وجدت دراسة أُجريت؛ عام 2021، أن حملة “دونالد ترامب” الرئاسية الملتهبة؛ لعام 2016، على عكس التصورات الشائعة في وسائل الإعلام، لم تُسفر عن تصاعد في خطاب الكراهية على (تويتر). وبناءً على ذلك، فإن أكثر منصات وسائل التواصل الاجتماعي شهرةً لا تُشكِّل: “الغرب المتوحش” الذي غالبًا ما يُنظر إليه على هذا النحو السياسيون الأوروبيون البارزون مثل: الرئيس الفرنسي؛ “إيمانويل ماكرون”.
التفريق بين ما هو قانوني وما هو غير قانوني أمر مُعقد !
ثانيًا، إن السؤال القانوني المتمثل في تحديد مدى قانونية محتوى المنشورات من عدمها أمر مُعقد. ووجد تقرير عام 2021، شارك الكاتب في إعداده، أن المحاكم الوطنية في خمس ديمقراطيات أوروبية تقضي في المتوسط: 778.47 يوم للبتِّ في قضايا خطاب الكراهية. ومن خلال فرض قيود إزالة إلزامية قصيرة، تُطالب الحكومات منصات التكنولوجيا باتخاذ قراراتٍ قانونية تستغرق شهورًا أو سنواتٍ من الخبراء القضائيين المدرَّبين خلال ساعات أو أيام قليلة. وسيؤدي هذا حتمًا تقريبًا إلى أخطاءٍ تقترفها المنصات في جانب الإزالة، نظرًا إلى الغرامات الباهظة لعدم الإمتثال، مما يخلق حافزًا اقتصاديًّا قويًّا للتطهير بدلًا من حماية محتوى المستخدم.
وبوجه عام، من المحتمل أن تؤدي هذه الجوانب من “قانون الخدمات الرقمية” إلى أضرارٍ جانبية كبيرة لحرية التعبير، مما يؤثر في قدرة الناس العاديين على مناقشة قضايا مثل الهجرة والنوع والدين والهوية، وأحيانًا تؤثر في جماعات الأقليات التي يفترض أن حظر خطاب الكراهية يفيدها.
قانون فرنسي مستنسخ من قانون ألماني..
يُشير الكاتب إلى أن الاعتراضات الموضحة آنفًا كانت أيضًا سبب إعلان “المجلس الدستوري الفرنسي” عن أجزاء مما يُسمى بـ”قانون أفيا”؛ (Avia)، (وهو استنساخ فرنسي من قانون إنفاذ الشبكة الألماني)؛ على أنه انتهاكات غير دستورية لحرية التعبير، ولماذا أعربت لجنة حقوق الإنسان التابعة لـ”الأمم المتحدة” عن مخاوفها بشأن امتثال إنفاذ الشبكة لمعايير حرية التعبير في ظل القانون الدولي لحقوق الإنسان.
وغالبًا ما يُشير مؤيدو التنظيم الأكثر صرامة للإشراف على المحتوى إلى دراسات توضح أن “قانون إنفاذ الشبكة” لم يُنتج منه طلبات إزالة جماعية أو: “حظر زائد عن اللازم”. ومع ذلك، فإن مثل هذه الدراسات تغفل التأثير الأعمق للإشعار الإلزامي وأنظمة الإزالة. وبدلًا من الرد على شكاوى المستخدمين، تسعى المنصات على نحو استباقي إلى توسيع تعريفاتها الخاصة بشأن خطاب الكراهية والفئات المحظورة الأخرى في شروطها المرجعية وتكثيف الإشراف الآلي على المحتوى لاكتشاف المحتوى المسيء وحذفه قبل أن تُتاح الفرصة لأي مستخدم لتقديم شكوى.
وفي الربع الأول من عام 2018، أزال (فيس بوك): 2.5 مليون قطعة من المحتوى لانتهاك معايير المجتمع بشأن خطاب الكراهية. وبحلول الربع الثالث من عام 2021، زاد العدد عشرة أضعاف تقريبًا ليصل إلى: 22.3 ملايين. وكان هذا بالأساس نتيجة لزيادة الاعتماد على خوارزميات تصفية المحتوى القائمة على الذكاء الاصطناعي. وفي عام 2018، اكتشف الذكاء الاصطناعي: 04 من أصل 10 تجاوزات قبل أي شكوى من المستخدمين، ولكن في الربع الثالث من عام 2021، ارتفعت هذه النسبة إلى: 96.5%.
ومن المفارقات أن نتيجة هذا التطور هي أن القوانين التي تهدف إلى إنشاء مساءلة ديمقراطية على المنصات العملاقة الخاصة ينتهي بها الأمر إلى إسناد المزيد من السلطة لهذه المنصات عندما يتعلق الأمر بتنظيم خطاب مليارات الأشخاص الذين يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي لمشاركة المعلومات والآراء والوصول إليها.
لا توجد أرضية وسط مثالية..
ويُلفت الكاتب إلى أن الحقيقة غير المريحة هي أنه عندما يتعلق الأمر بتنظيم التعبير على منصات وسائل الإعلام الاجتماعية المركزية العالمية، لا توجد “أرضية وسط مثالية” – بل مجموعة من السياسات غير الكاملة التي تتضمن حتمًا معضلات ومفاضلات.
غير أن هناك نماذج بديلة لـ”قانون الخدمات الرقمية” من شأنها توفير حماية أقوى لحرية التعبير وتمكين المستخدمين على حساب قوة المنصة المتزايدة. ويتمثل أحد النماذج في تشجيع تنفيذ معايير حقوق الإنسان بوصفها إطارًا مرجعيًّا أوليًّا في ممارسات الإشراف لمنصات التواصل الاجتماعي الكبيرة.
وقد يُنتج من ذلك بيئة وسائط اجتماعية تكون أكثر شفافية وحماية لحرية التعبير للمستخدمين في فئات مثل الكلام الذي يحض على الكراهية والمعلومات المضلِّلة. إن استخدام “قانون حقوق الإنسان” معيارًا للإشراف على المحتوى من شأنه أيضًا أن يزوِّد المنصات بالمعايير والشرعية للوقوف في وجه مطالب الرقابة على المعارضة التي تُصدر من جانب الدول الاستبدادية الحريصة على استغلال المحاولات الحسنة النية، ولكنها خاطئة، التي تقدِّمها الديمقراطيات لكبح الخطاب الضار عبر الإنترنت.
غير أن القانون الدولي لحقوق الإنسان ليس حلًّا سحريًّا ولا يُعالج فئات مثل البريد العشوائي والمواد الإباحية. حتى لو كانت معايير حقوق الإنسان أكثر شفافية واتساقًا من شروط الخدمة الحالية بشأن قضايا مثل خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، فإن تطبيق هذه المعايير على نطاق واسع على منصات تستضيف مئات الملايين – أو حتى المليارات – من المستخدمين، سوف تُقلص في أحسن الأحوال، عدد القرارات المشكوك فيها والخاطئة من قبل مشرفي المحتوى البشريين والآليين، ولكنها لن تقضي عليها.
فظيع ولكن قانوني..
وعلاوةً على ذلك؛ من المُرجح أن يُقاوم عديد من المستخدمين معايير حقوق الإنسان لأن “قانون حقوق الإنسان” يحمي كثيرًا من الكلام: “الفظيع لكنه قانوني”، مما يؤدي إلى إبعاد المستخدمين – ومن ثم الإيرادات – والتي من المفترض أن تترك تأثيرًا حتى على “ماسك”؛ الذي أنفق للتو: 44 مليار دولار لشراء (تويتر).
وقد يجري تعويض هذه المخاوف جزئيًّا من خلال تزويد المستخدمين بمزيد من التحكم في المحتوى من خلال طرق مختلفة للإشراف على المحتوى الموزَّع. على سبيل المثال، تُبلِّغ نساء كثيرات عن تعرضهن لإساءة كراهية النساء، مما يحدو بعض الأشخاص إلى فرض الرقابة الذاتية أو حتى مغادرة المنصات. غير أنه إذا سُمح لأطراف ثالثة، مثل منظمات حقوق المرأة، بتطوير مرشحات طوعية يمكن للمستخدمين الأفراد تطبيقها حسب الرغبة، يمكن للمرأة تجنب كثير من الإساءات التي قد تكون قانونية؛ ولكنها مع ذلك مؤذية ومخيفة ومنفِّرة. ويمكن أيضًا استخدام: “فلتأتِ بالمرشِّحات الخاصة بك” لمحتوى مناهض لمجتمع الميم، ومعاداة السامية، وكراهية الإسلام، وما إلى ذلك.
ويختتم الكاتب تحليله بالقول: تتمثل الميزة الواضحة للجمع بين القانون الدولي لحقوق الإنسان والاعتدال في المحتوى الموزَّع في أنه يحتفظ بالإشراف المركزي على المحتوى الأسوأ والأكثر فظاعة مع توفير طريقة للمستخدمين بشأن المحتوى الذي يرغبون في مشاهدته والتفاعل معه. ويمكن أن يكون هذا مثل وقفة في سباق الرقابة المتَّجِه إلى الحضيض، حيث يُصر عديد من الحكومات ومجموعات المصالح على ضرورة حظر الكلام الذي تجده مقلقًا قلقًا من نوع خاص، وتجد المنصات صعوبة في المقاومة، حيث إنها في نهاية المطاف مهتمة بإدارة أصحاب المصلحة وقضايا العلاقات العامة التي تؤثر في أرباحها النهائية أكثر من اهتمامها بالتمسك بمعايير حرية التعبير بوصفها مبدأً.