كتبت – ابتهال مخلوف :
مثل رقعة الشطرنج المستباحة أمام نزوات ورغبات الجميع إلا أصحابها.. تعكف مراكز الأبحاث الدولية وخبراء العلاقات الخارجية في العالم على وضع تصورات وخرائط تخدم مصالح حكوماتهم في إطار خطة لتقسيم الوطن العربي.
وفي هذا الصدد، كشفت صحيفة “الجارديان” البريطانية عن خطة لتقسيم ليبيا إلى ثلاث دويلات قدمها مسؤول أميركي بارز في العلاقات الدولية، يسعى للحصول على منصب المبعوث الأميركي لليبيا. واقترح “سبياستيان غوركا” – نائب مساعد الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” للأمن القومي – فكرة تقسيم ليبيا في اجتماع له مع أحد الدبلوماسيين الأوروبيين خلال الأسابيع القليلة التي سبقت حفل تنصيب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وما يثير التكهنات علاقات غوركا السابقة مع جماعة يمينية متطرفة في المجر.

والمثير للدهشة أن المسؤول الأميركي رسم خطة الدويلات الليبية أمام الدبلوماسي الغربي على “منشفة” طاولة الطعام التي اجتمعا عليها.
خريطة “ليبيا العثمانية” على طاولة البحث..
ترتكز خطة غوركا على خريطة الأمبراطورية العثمانية، التي تنص على وجود ثلاثة ولايات في ليبيا الحالية هي ولاية “برقة” في شرق ليبيا الممتدة من مدينة الاسكندرية في الشرق إلى مصراتة في الغرب ومن أهم مدنها “درنة وبنيغازي”.
وولاية “طرابلس” في الغرب، ثم ولاية “فزان” في الجنوب الغربي، وهي تمثل 30% من مساحة ليبيا وتزخر بثرواتها من النفط وأهم مدنها مدينة سبها. وكعادة مخططات تقسيم البلاد العربية حاليًا، تسلح الدبلوماسي الأميركي براية الحرب على الإرهاب ومنع تسلل المتشددين الإسلاميين إلى أوروبا والولايات المتحدة عبر الآراضى الليبية.
ويسعى غوركا لتولي منصب المبعوث الرئاسى الخاص لليبيا فى البيت الابيض، ويواجه في مسعاه منافسة شديدة من ضابط المخابرات السابق “فيليب إسكرافاغ” وهو قد عمل في ليبيا أكثر من عشر سنوات. واعتبرت الصحيفة البريطانية “إسكرافاغ” بأنه الأوفر حظًا للفوز لأن يختاره الرئيس الأميركي للمنصب، كما ينافسه أيضًا عضو الكونغرس الأميركي السابق “بيت هوكسترا”.
وتلفت الصحيفة البريطانية إلى أن رؤية “غوركا” لمستقبل ليبيا أثارت حالة من القلق بين دبلوماسيين أوروبيين، إذ يرى خبراء العلاقات الدولية أن مجرد طرح فكرة تقسيم ليبيا سيقود إلى مزيد من الصراعات المسلحة بين الأطراف المتناحرة في البلاد حول ترسيم الحدود وكذلك السيطرة على موانئ الهلال النفطي في شمال شرق ليبيا ومنها “راس لانوف والسدرة والبريقة”.
ونقلت “الجارديان” عن الدبلوماسي الأوروبي، الذى طرح “غوركا” فكرة التقسيم أمامه، وصفه لهذه للخطة بأنها “أسوأ الحلول” للأزمة الليبية وأنها ستفجر الوضع في ليبيا.
وكان الرئيس الأميركي اختار سبياستيان غوركا نائباً لمستشار الأمن القومي “مايكل فلين”، الذي استقال مؤخرًا على خلفية فضحية تكتمه على إتصالاته مع السفير الروسي فى الولايات المتحدة .
وأثار غوركا عاصفة من الانتقادات عندما ارتدى في حفل تنصيب ترامب زيًا ووسامًا مماثلين لمنظمة “Vitézi Rend” المجرية اليمينية المتطرفة، التي ارتبطت بالحركة النازية في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، والتى من مبادئها العداء للأجانب والدعوة إلى تفوق الجنس الأبيض.
وذكرت شبكة “إن. بي. سى” الأميركية، أن اعضاء الجماعة المتطرفة في المجر أكدوا على أن غوركا أحد أعضائها البارزين، الذين أقسموا على الولاء لمبادئها وعمل فيها بين عامي 2002 و2007 وأعربوا عن فخرهم لإرتدائه رموز الحركة في حفل تنصيب ترامب.
ويقدم غوركا نفسه أثناء ظهوره المتكرر في وسائل الإعلام الأميركية والعالمية معلقًا على سياسات واشنطن تجاه الشرق الأوسط، بأنه مطلع على عملية صناعة القرار في إدارة ترامب.
عمل غوركا قبل هجرته للولايات المتحدة في 2012، في وزراة الدفاع المجرية وخدم في الجيش البريطاني، ما يثير علامات استفهام عدة حول ولائه للولايات المتحدة، وهو محرر سابق في شبكة “بريتبارت” الإخبارية المتطرفة، وهو متخصص في شئون الأمن القومي والإستراتيجية، له عدة مؤلفات من ابرزها كتاب “هزيمة الجهاد” محوره الحرب ضد الإسلام المتطرف.

تستعرض صحيفة “الجارديان” الحالة السياسية داخل ليبيا منذ سقوط العقيد “معمر القذافي” بعد اندلاع الثورة الليبية في 17 شباط/فبراير 2011، وما أعقبها من تبني مجلس الأمن قرارًا بفرض حظر الطيران فوق الأجواء الليبية وإنطلاق عملية “فجر الأوديسيا” العسكرية بقيادة حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
وما نجم عن ذلك من دخول ليبيا في دوامة صراع مرير وعنيف بين حكومتين متنافستين منذ سقوط نظام العقيد “معمر القذافي”، هما “حكومة طبرق” في شرق ليبيا و”حكومة طرابلس” في الغرب.
وتسود مخاوف لدى دول أوروبية ان البيت الأبيض سيحول إتجاه بوصلته بزاوية 360 درجة ويتخلى عن سياسية إدارة الرئيس السابق “باراك أوباما” المؤيدة لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس المدعومة من الأمم المتحدة ويقودها رئيس حكومة الوفاق “فايز السراج”. في حين تنظر قوى إقليمية ودولية اخرى، على رأسها مصر وروسيا، إلى حكومة طبرق في شرق البلاد باعتبارها الخيار الأفضل وتحظى هذه الحكومة بدعم عسكري من قوات الجيش الشعبي العام بقيادة اللواء المتقاعد “خليفة حفتر”.
تخبط.. وداعش.. ونفط..
يفرض خطر تنظيم داعش وتمدده في ليبيا وشمال إفريقيا بوجه عام، حالة من التخبط لدى إدارة ترامب في تعاملها مع الملف الليبي.. هل تقف في صف حكومة الوفاق الوطني في بنغازي أم تدعم حكومة طرابلس واللواء خليفة حفتر في الغرب؟.. وبرز هذا التغيير في مرحلة مبكرة أثناء الحملة الإنتخابية لترامب حينما هاجم ترامب سياسة الرئيس السابق باراك أوباما ومنافسته في السباق نحو البيت الأبيض “هيلاري كلينتون”، التي كانت على رأس الدبلوماسية الأميركية خلال الثورة الليبية.
كما أن ثروات النفط الليبي والسيطرة على موانئ تصديرها ستكون عاملًا حاسمًا في تشكيل سياسة دونالد ترامب واحتمال اللجوء للخيار العسكري لخلق توازن بين القوى الخارجية الساعية للاستحواذ على جزء من كعكة النفط الليبي، إذ كانت ليبيا تصدر نحو 1.6 مليون برميل يوميًا قبل ثورة 2011، ومن هذه القوى “روسيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا”.
ويطالب حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا بضرورة أن تعين مبعوثًاً لها في ليبيا، خاصة مع تزايد المخاوف من تصاعد النفوذ الروسي والصيني هناك.
لوبي حكومة طبرق فى أميركا..
يسعى مبعوثي حكومة طبرق، وعلى رأسهم اللواء “خليفة حفتر”، للتأثير على إدارة ترامب لإحداث تغيير جذري في موقفها المؤيد لحكومة الوفاق الوطني بقيادة “فايز السراج”.
وهنا، يدخل على الخط، رئيس شركة لوبي تعمل لصالح اللواء خليفة حفتر ورئيس مجلس النواب الليبي “عقيلة صالح” للضغط على إدارة ترامب، وفي إتصال هاتفي مع “الجارديان” قال “آري بن ميناشه”، وهو مستشار امني اسرائيلي إن شركته قدمت موجزًا للبيت الأبيض عن ليبيا، وأنه “مستعد للعب وفقًا لشروطنا” في إشارة إلى مصالح حكومة طبرق.
وتنقل الصحيفة عن بن ميناشه: “لن يحدث تقسيم.. لا يملك أي من موظفي إدارة ترامب فكرة عما يحدث في ليبيا. لقد أطلعناهم على الموقف بصورة واسعة.. ويدركون الأن أن السراج لن ينجح أبداً”.
مشيراً إلى أن الولايات المتحدة صارت أكثر اقتناعًا بأهمية الدور الروسي في ليبيا، ملمحًا إلى أن تشكيل حكومة مركزية في البلاد يتحقق في غضون بضعة أيام إذا مُنحت موسكو دورًا أوسع في حل الأزمة الليبية.
وحصل بن ميناشه على عقد قيمته ستة ملايين دولار لتعمل شركته كجماعة ضغط في الولايات المتحدة لصالح اللواء حفتر وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي.

وتبعث شخصية “آري بن ميناشه” على القلق، إذ تردد اسمه في عدد من قضايا الفساد وتجارة السلاح تتوزع على خريطة العالم من “إيران واستراليا وزيمبابوي وكندا وأميركا”، منها دوره الجوهري في فضيحة السلاح الشهيرة “إيران كونترا” عام 1985، حين عقد الرئيس الأميركي الأسبق “رونالد ريغان” صفقة سرية مع إيران لتزويدها بالسلاح خلال حربها مع العراق، وكان دور “بن ميناشه” كموظف في المخابرات الإسرائيلية “الموساد” نقل الأسلحة من اسرائيل لإيران.
هو رجل أعمال كندي اسرائيلي ولد في إيران لأبوين عراقيين يهود، يعمل في الاستشارات الأمنية وتجارة السلاح والصفقات البترولية والمحاصيل الزراعية الاستراتيجية، وعمل في السابق كموظف في المخابرات الحربية الإسرائيلية ما بين عامي 1977 و1987. ويمتلك منذ عام 2005 شركة خدمات لوجيستية في كندا تتخذ من نشاط الأستيراد والتصدير غطاءًا لها، وعن علاقته بالملف الليبي، كشفت وزارة العدل الأميركية في عام 2016، أن شركته تقدمت بطلب للوزارة لإدراج حكومة طبرق بليبيا عميلأ لها، ووفقًا لقانون التعاقدات مع الشركات الأجنبية “FARA”، أبرمت شركته في أواخر عام 2015 عقدًا قيمته 6 ملايين دولارمع كل من “عقيلة صالح عيسى” و”عبد الرازق النضوري” و”خليفة حفتر” و”مراد الشريف”، تقدم بمقتضاه خدمات لهم “خدمات إعلامية وعلاقات عامة وممارسة ضغط على الحكومة الأميركية”.
تفرض الأحداث المتلاحقة على مسرح الشرق الأوسط إلى الاعتقاد أن ليبيا مرشحة وبقوة لتكون الرقعة التالية للصراع بين حيتان العلاقات الدولية خاصة أميركا وروسيا وحينها ستكون كلمة السر لديهم الحرب ضد تنظيم “داعش”.. لكن ستظل قلوبهم وأنظارهم مسلطة على النفط.