وكالات – كتابات :
عندما تنشر الشرطة الباكستانية حواجزها، في العاصمة؛ “إسلام آباد”، يعلم الناس أن مدينتهم محاصرةٌ من إحدى “المسيرات الطويلة”؛ التي باتت تجوب البلاد، وقد أصبح احتمال هذه المسيرات يتزايد بعد سحب الثقة من حكومة؛ “عمران خان”، وتوجه الحكومة الجديدة لفرض إجراءات تقشفية استجابة لبعض شروط “صندوق النقد”؛ على “باكستان”.
هذه المسيرات الأجدر توصيفها برحلات القيادة الطويلة، فهي تضم قوافل من المتظاهرين الذين يُسافرون بضع ساعات في سيارات وحافلات صغيرة من مدن مختلفة، مثل: “لاهور وبيشاور”، حتى الوصول إلى العاصمة، حسبما ورد في تقرير لمجلة الـ (إيكونوميست) البريطانية.
وأصبحت هذه العروض أقرب إلى شعائر الاستعراض المكررة لقوة الشارع، تحشد فيها الأحزاب السياسية أنصارها وتقودهم نحو العاصمة، وقد صارت تلك الوسيلة المحببة لأي شخص يُحاول زعزعة الحكومة القائمة.
ويتذمر السكان، فهم يعلمون أن حركة المرور ستتعطل، وأن المدارس ستُغلق أبوابها، وأن الوصول إلى العمل سيستغرق ضعف الوقت المعتاد.
“خان” يتهم “أميركا” بالتآمر على المعارضة ضده..
وليس أحدٌ أحرص على تنظيم هذه المسيرات الآن من؛ “عمران خان”، رئيس الوزراء الباكستاني السابق، الذي أُزيح عن منصبه؛ في نيسان/إبريل 2022، بعد اقتراع بسحب الثقة عنه، لكنه رفض مغادرة الساحة السياسية، وخرج محتجًا في الشوارع مطالبًا بإسقاط الحكومة الجديدة.

واتهم “عمران خان”؛ المعارضةَ، بالتدبير لإزاحته بمكيدة تآمرت فيها مع “الولايات المتحدة”، وأن الأخيرة سعت لإسقاطه لأنه رفض الإنصياع لمطالب السياسة الخارجية الأميركية، خاصة فيما يتعلق بموقفه من “أوكرانيا”، بعد أن منع بلاده عن التصويت في “الجمعية العامة للأمم المتحدة”؛ لإدانة الهجوم الروسي وتعليق عضوية “روسيا”؛ في “مجلس حقوق الإنسان”.
ويقول “خان” إن مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون جنوب ووسط آسيا؛ “دونالد لو”، نقل تحذيرًا عبر قنوات رسمية؛ مفاده أن إدارة “بايدن” كانت ستفرض عواقب وخيمة إذا لم يُمرر تصويت حجب الثقة.
وأفادت أنباء بأن برقية أرسلها سفير “باكستان” لدى “الولايات المتحدة”؛ آنذاك، “أسد مجيد”، على أساس اجتماعه مع مساعد وزير الخارجية لشؤون جنوب ووسط آسيا؛ “دونالد لو”، هي سبب اتهام “خان”؛ لـ”الولايات المتحدة”، للتآمر على إقالته.
وفقًا لتقرير لموقع (DAWN)، الباكستاني أنه تم إبلاغ مبعوث باكستاني في “واشنطن” أن المسار المستقبلي للعلاقات بين البلدين مرهون بمصير اقتراح سحب الثقة الذي كانت أحزاب المعارضة تُخطط لتقديمه ضد “خان”.
وقال دبلوماسي سابق، لوسائل الإعلام المحلية، إن ما يُسمى برسالة التهديد كانت بمثابة تقييم دبلوماسي من السفير الباكستاني السابق لدى “الولايات المتحدة”؛ “أسعد مجيد خان”، وليس تهديدًا من الحكومة الأميركية.
وأنكرت “أميركا” ذلك؛ ووصفت الاتهامات بالسخيفة، لكن أنصار “خان” أصروا على اتهاماتهم واستنفروا الناس بها، ومن ثم احتشدت خلال الأسابيع القليلة الماضية؛ حشود ضخمة تُطالب بإجراء انتخابات مبكرة لطرد الحكومة: “المستوردة”، وتُهاجم القوات المسلحة، التي لا يستقيم الأمر لأي حكومة من دون دعمها، هجومًا صريحًا يُندر مثيله.
“خان” يلغي المسيرة..
ودعا “خان” لمسيرة كبرى؛ في 25 آيار/مايو، وحثَّ أنصاره على السير إلى العاصمة، والاعتصام حتى إجراء انتخابات جديدة، لكن الإقبال على المسيرة لم يكن بالقوة المُرادة، حسب تقرير مجلة الـ (إيكونوميست) البريطانية.
ثم ألغى “خان” الخطة مع وصول المحتجين إلى وسط؛ “إسلام آباد”، واشتباكهم مع قوات الأمن التي أطلقت الغاز المٌسّيل للدموع. وهكذا أعلن “خان” عن مهلة جديدة تنتهي؛ في 31 آيار/مايو للدعوة للانتخابات، وأنذر السلطات بمزيد من المسيرات إذا لم تمتثل الحكومة وتدعُ إلى انتخابات مبكرة.
كثُرت التخمينات حول الأسباب التي دعت “خان” إلى تفريق المسيرة: يقول “خان” إنه أراد أن يمنع إراقة الدماء، في حين يزعم خصومه أنه تراجع بعد ضعف الإقبال على المسيرة، إلا أن مصادر من (حركة إنصاف الباكستانية)؛ التي يتزعمها “عمران خان”، أدعت أن المسيرة لم تتوقف إلا بعد أن تعهد جنرالات الجيش بتقديم موعد الانتخابات التي كانت مقررة في أواخر عام 2023، وإقامتها هذا العام.
“شريف” يُسافر إلى “لندن” لاستشارة شقيقه..
واتخذت الحكومة الجديدة، بقيادة “شهباز شريف”، خطوات مترددة نحو إصلاح علاقات البلاد مع الغرب. لكنها لم تضع بعد خطة واضحة لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي ورثتها، ويُرجع بعضهم ذلك إلى تشتُّت الحكومة باحتجاجات؛ “عمران خان”.

وعجز “شريف” عن المبادرة بالحلول وإغتنام الفرصة التي أُتيحت له بتسيُّد الساحة السياسية، بل فوجيء الناس بسفره الشهر الماضي إلى “لندن” لطلب المشورة من؛ “نواز شريف”، شقيقه الأكبر ورئيس الوزراء السابق، الذي يعيش في المنفى، ويُنظر إليه أنه المحرك الرئيس لحزب (الرابطة الإسلامية).
وتشهد البلاد محنة اقتصادية شديدة الوطأة، فقد تتابعت على اقتصاد البلاد كارثة وباء (كورونا) ثم تداعيات الحرب على “أوكرانيا”، وقبل كل ذلك عقود من سوء الإدارة والإفراط في الإنفاق العسكري، والتركيز على مشروعات البنية التحتية المعتمدة على الديون وفقيرة العوائد.
الاحتياطات النقدية بلغت 10 مليارات دولار..
بلغ معدل التضخم: 13.8%؛ في آيار/مايو الماضي، مدفوعًا بارتفاع كبير في أسعار الغذاء والنقل. وتراجعت قيمة “الروبية” الباكستانية بنحو: 8% من قيمتها مقابل “الدولار”، منذ أوائل نيسان/إبريل. وتقلَّصت الاحتياطيات الأجنبية، حتى بلغت: 10 مليارات دولار؛ في 20 آيار/مايو، وهو مبلغ لا يكاد يكفي لشراء احتياجات البلاد من الواردات لأكثر من ستة أسابيع.
إنحدرت الاحتياطات الأجنبية إلى أدنى مستوى لها؛ منذ عام 2019، وطلبت “باكستان” حينها المساعدة من “صندوق النقد الدولي”، وكان الاتفاق أن تحصل البلاد على قرض إنقاذ بقيمة: 06 مليارات دولار، لكنها لم تتلقّ سوى نصف هذا المبلغ.
علاوة على ذلك، تُعاني البلاد عجزًا في ميزانيتها وفي حسابها الجاري، وتُشير تقديرات “وزارة المالية” إلى أنها بحاجة إلى تمويل بقيمة: 37 مليار دولار للسنة المالية؛ التي تبدأ في حزيران/يونيو.
الحكومة رفعت أسعار الوقود.. والصين والسعودية تنتظران “صندوق النقد”..
بدت حكومة “شهباز شريف” أشد عزمًا؛ من سابقتها، على تنفيذ شروط “صندوق النقد الدولي”، فقد أعلنت في 26 آيار/مايو، خفض الدعم الحكومي على الوقود، ورفعت أسعاره بنسبة: 20%، وقد نال ذلك استحسان الصندوق، ومن ثم أعلن الأخير استئناف برنامج القروض بشرط استمرار السياسات التي يزعم أنها ضرورية للاستقرار الاقتصادي.
على إثر ذلك؛ ارتفعت قيمة العُملة ارتفاعًا طفيفًا، ومن المتوقع أن يكون الاتفاق على قرض الإنقاذ ضمانةً تفتح الباب أمام مزيد من القروض من حلفاء “باكستان”، مثل “الصين” و”السعودية”، اللتين أحجمتا عن تقديم المزيد من المساعدة ما لم تكن هناك ضمانات بأن “صندوق النقد الدولي” سيقرُّ حزمة إنقاذ.

شروط “صندوق النقد” على “باكستان” تدفع الحكومة لمزيد من القرارات المؤلمة..
يتعين على الحكومة أن تفرض مزيدًا من الإجراءات المكروهة شعبيًا للحصول على هذه القروض، ويُتوقع أن تُعلن هذا الشهر عن تخفيض في دعم الكهرباء وإقرار ميزانية تقشفية. ومع ذلك، فإن حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة قد يُصرفان انتباه الحكومة عن هدفها، أي تحسين الاقتصاد الكلي للبلاد؛ على حد مزاعم التقرير البريطاني.
ومع أن الانتخابات قد تؤول نتيجتها إلى فوز “شهباز شريف”؛ وحصوله على التفويض الشعبي لقرارته، فإنه من المستبعد أن يأخذ “صندوق النقد الدولي” حكومته على محمل الجد؛ ما دامت معرضة للإزاحة في غضون بضعة أسابيع، لا سيما أن “خان” قد يعود إلى السلطة.
لكن الانتخابات المبكرة تحتاج إلى موافقة جنرالات الجيش، وبصرف النظر عن ثقة مسؤولي حركة (إنصاف) بأن الانتخابات المبكرة ستُقام، فإن الأمر قد يكون أصعب بكثير مما كان عليه قبل بضعة أشهر، خاصة بعد تزايد العداء تجاه الجيش بين أنصار “خان”.
مع ذلك؛ لا يبدو أن “خان” قد أنقطع أمله في العودة إلى الحكم، فقد تقدم بالتماس إلى “المحكمة العُليا” للسماح باستمرار مسيراته، كما أن الموجة القادمة من الإجراءات الاقتصادية المؤلمة ستُزيد من حُجية اتهاماته للحكومة بأنها عميلةٌ لـ”الولايات المتحدة” وعدوةٌ للشعب.
ويتقلد قائد جديد للجيش منصبه؛ في تشرين ثان/نوفمبر، وهو أمر يُزيد من حالة الترقب السياسي المهيمنة على البلاد.

والخلاصة؛ أن “باكستان” في أمسِّ الحاجة إلى الاستقرار السياسي لإصلاح اقتصادها، لكن مسار الأمور يُشير إلى أنها ستكون أبعد شيء عن ذلك خلال الأشهر المقبلة.