6 أبريل، 2024 11:41 م
Search
Close this search box.

انعام كجه جي.. الهرب للحفاظ على الماضي ‏

Facebook
Twitter
LinkedIn

المألوف خاصة في عالمنا العربي ان يهجر الانسان بلده الى بلد آخر كي يبني مستقبلا او لينعم بما بقي ‏له من مستقبل في بلد راق.‏

لكن رواية “طشّاري” للكاتبة العراقية انعام كجه جي تمثل في شخصيتها الرئيسية حالة استثنائية ‏مختلفة اذ ان بطلة القصة الطبيبة العراقية المتقاعدة التي تبلغ الثمانين من العمر تهجر بلدها وتلجأ الى ‏فرنسا لا سعيا الى مستقبل.. بل كما يبدو حفاظا على صورة ماض كان بالنسبة اليها هنيئا رائعا حوّله ‏القتل والرصاص والتفجيرات في العراق الى حلم زال وحل محله كابوس واسع النطاق لا تبدو له نهاية ‏قريبة.‏
البطلة هنا لم تعد تعرف العراق الذي احبته فحملت صورته الماضية الى بلد غريب فتح لها بابا للجوء ‏والحفاظ على الكرامة.‏
عنوان “طشّاري” يشير إلى التشظي والتشتت في كل الجهات او ما يقابل معنى القول العربي القديم ‏‏”تفرقوا ايدي سبأ”. والرواية هي عمل من اعمال قصصية عراقية اخيرة تتحدث عن التهجير خاصة ‏تهجير الاقليات. وهي تتناول تهجير المسيحيين العراقيين.‏
افراد العائلة والاقرباء والمعارف خاصة ابناء الجيل الجديد وبناته الذين يهربون من الموت ويبحثون ‏عن مستقبل وحياة كريمة توزعوا في انحاء الارض قاطبة.‏
البطلة الدكتورة وردية اسكندر تصور الامر بشكل رمزي فتقول ” الساعة الان هي السابعة في باريس. ‏التاسعة في بغداد. العاشرة في دبي. ما زالوا في منتصف الليلة الماضية في مانيتوبا (في كندا) وهي ‏الواحدة بعد منتصف الليل في هايتي.‏
‏”كأن جزارا تناول ساطوره وحكم على اشلائها ان تتفرق في كل تلك الاماكن. رمى الكبد الى الشمال ‏الامريكي وطوح بالرئتين صوب الكاريبي وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج. اما القلب فقد اخذ ‏الجزار سكينه الرفيعة الحادة تلك المخصصة للعمليات الدقيقة وحزّ بها القلب رافعا اياه باحتراس من ‏متكئه بين دجلة والفرات ودحرجه تحت برج ايفل وهو يقهقه فرحا بما اقترفت يداه.”‏
العائلة بأبنائها وبناتها موزعة في انحاء العالم.. ابن مهندس في هايتي وابنة طبيبة وزوجها في مناطق ‏الصقيع الكندية النائية واخرون واخريات في الخليج ومناطق اخرى وابنة اخيها وزوجها وابنهما في ‏باريس.‏
وصلت الى باريس لتعيش معهم. الرئيس الفرنسي وقتها نيكولا ساركوزي وبمناسة زيارة البابا ‏بنديكت الى باريس دعا عددا من المسيحيين العراقيين اللاجئين الى لقاء واحتفال.‏
اوصلها سائق التاكسي الى القصر الرئاسي الفرنسي في الاليزيه. تقول بمقارنة واستغراب “هذا هو ‏الاليزيه اذن. رأت قصرا رماديا يقع في شارع متوسط يزدحم بالسيارات والمشاة. لا عساكر ببنادق ‏رشاشة وشوارب كثة ونظرات تقدح شررا. لا احد يروع المارة ويهشّهم الى الرصيف المقابل – الى ‏عدة شوارع بعيدة عن المكان. لا مناطق حمراء وخضراء وبرتقالية. ان امامها الكثير لكي تندهش ‏وتتعجب قبل ان تتعود.”‏
في قاعة الاحتفال جلست الدكتورة وردية بجوار عدد من العراقيين المسيحيين اللاجئين الذين خصصت ‏لهم الصفوف الامامية. لقد قيل لهم انهم ضيوف ساركوزي فصدقوا الحكاية ودخلوا بعد شهر من ‏لجوئهم الى هذا البلد القصر التاريخي الذي لم يطأ ملايين الفرنسيين عتبته.”‏
تسكن مع ابنة اخيها وعائلتها. الابن المراهق ماهر في ألعاب الكمبيوتر ولا يلبث بناء على تشجيع ‏العمة ان يرسم شجرة العائلة على الكمبيوتر ويصنع قبورا افتراضية لجميع الاقرباء. لكن هؤلاء في ‏النهاية يرفضون هذه القبور فهم مازالوا يحلمون بان يدفنوا في العراق لا في بلدان غريبة مع ان ‏وطنهم لا يريدهم ويقدم لهم الموت او الرحيل لمن كان محظوظا منهم.‏
كتابة انعام كجه جي مؤثرة حافلة بالاحساس وهي تنقل التفاصيل اليومية ووجوه الحياة المختلفة بدقة ‏وتبني منها صورا اوسع واعمق من كل منها على حدة. انها تروي لا حياة شخص او اشخاص فحسب ‏بل قصة مدينة بل مدن وبلاد كاملة. قراءة نتاج الكاتبة يقدم متعة دون شك. لكن لابد من ملاحظة هي ‏ان “النمو” في الرواية قليل.. فالذي تورده وتكرره عادة سمات لوضع رهيب وتتعدد السمات والصور ‏لهذا الوضع الثابت.‏
ليس المقصود هو ان تغير الكاتبة هذا الوضع فهذا غير معقول وغير مطلوب لكن المقصود هو ان ‏وصف هذا الوضع واحداثه تكاد لا تتغير او تتجدد الا في تفاصيل ليست اساسية. النمو والتغيير الذي ‏تشهده مراحل حياة وردية اسكندر اكيد وواضح لكنه يتكرر في صور مختلفة ولعل سبب ذلك هو ان ‏هذا التغيير يمتد عبر فترة طويلة بلغت ثمانين عاما.‏
الا ان هناك مرحلة في الرواية “تكثف” فيها النمو وجاء ملحوظا واضحا وذلك عند رسم حياة ابنتها ‏هندة في اقاصي كندا. اننا نشهد هنا نموا تميز عن حالات اخرى في الرواية. وعندما تروي هندة حياتها ‏كطبيبة في مانيتوبا فهي ترسم لوحات ممتعة مفصلة لا عن حياتها فحسب بل عن حياة السكان ‏الاصليين الذين يعرفون بالهنود الحمر وآلامهم ومشكلاتهم وأحلامهم.‏
يستغرق القارىء في قراءة هذا القسم الذي يبدو في احداثه واجوائه كأنه مستقل عن الرواية. وتصف ‏العلاقة الانسانية الدافئة التي قامت بينها وبين السكان بعد تعب وعذاب طويلين لاثبات نفسها حكوميا ‏وشعبيا.‏
تصف لنا المستشفى الذي تعمل فيه فتقول “يقع المستشفى في مدينة صغيرة خارج المحمية… وبدل ‏الفضاء الترابي هناك شارع رئيسي معبد… اما دار الاطباء فكانت مجموعة غرف في مبنى من طابق ‏واحد لكل منها بابها المستقل الذي يفضي الى الشارع. وفي الغرفة زاوية للطبخ وحمام وفسحة تحتوي ‏على اريكة يمكن تحويلها الى فراش.”‏
وبتفاصيل مماثلة كأنها من رواية اخرى تتناول حياة السكان ومشكلاتهم. تقول الكاتبة “تعتاد هندة ‏مكانها الجديد وتصبح مشكلات التأقلم قصصا تحكيها لزوجها وتكتبها لوالدتها في الرسائل. والطبيبة ‏الاتية من بلاد الف ليلة وليلة صارت حكاية يتسلى بها الاهالي… خافت ان تتحول الى ولية في تلك ‏البقعة النائية حيث تقسو الطبيعة على القوم الذين يعبدونها.”‏
وتصف المؤلم والمضحك فتقول مثلا “استقر اسم جاك في بالها. كان مريضها الاول الذي افتتحت به ‏سجل الزيارات… كان يعاني من ارتخاء في المعدة” عالجته فتحسنت حالته “وبعد فترة ارسل لها جاك ‏ابنته وزوجها. انها المرة الاولى التي ترى فيها شابين في اواسط العشرين مصابين بتشمع في كبديهما. ‏لا ينفع الكلام مع مدمنين على الشراب… لا احد يعترف بانه مريض… ان قوانين البلد تكفل حرية ‏المواطن في التصرف بحياته طالما كان بالغا سن الرشد وليس من حقها انتقاد اسلوب عيش اي ‏مريض. كل ما في وسعها تقديم النصيحة دون ضغط او ارغام.‏
‏”لقد عالجت حالات كثيرة للسكري والضغط وتكلس المفاصل لكنها لم تقابل عشرات يعانون من ‏الامراض الزهرية الا في مانيتوبا. لا تصدق ما تراه. تتمهل وتنتقي العبارات المخففة وهي تخبر ‏المريض بانه مصاب بدرجة متقدمة من داء السكري… لكنه يقابل الخبر بالضحك والسرور… هذا ‏المرض تقليد قومي ولا حرج في الانضمام الى جموع المصابين بالسكري في المنطقة.”‏
‏”رويترز”‏

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب