خاص : كتب – محمد البسفي :
شهدت بداية الإسبوع نبضًا قويًا للحراك الثوري العراقي، رغم آلة العنف الممنهجة التي تقودها قوات الأمن ضد التظاهرات وحرق خيام المعتصمين وفتح الساحات والميادين بالقوة؛ فضلاً عن ما تعانيه الانتفاضة التشرينية بالأساس من ضغوط قاسية تمارسها الميليشيات الطائفية والمسلحة عليها من تهديد لنشطائها وخطفهم وقتلهم في وضح النهار.. رغم كل ذلك: تجمع عدد من المتظاهرين في “ساحة الطيران”، وسط “بغداد”، بعد إجبارهم على إخلاء “ساحة التحرير”، في حين شهدت محافظة “البصرة”، أقصى جنوب العراق، الأحد الماضي، صدامات بين المحتجين والقوات الأمنية على خلفية محاولات فض الاعتصام هناك.
وقال ناشطون، إن: “القوات الأمنية لاحقتنا بالرصاص الحي والهراوات والعصي، وأطلقت النار علينا مباشرة لأننا أردنا أن نستمر في تظاهراتنا بعد أن طلبت منا أن ننسحب من الساحات”.
وشهدت “ساحة البحرية”، في “البصرة”، ليل السبت/الأحد، صدامات واسعة مع عناصر الأمن، بعد رفض المحتجين مغادرة الساحة التي قررت القوات الأمنية إنهاء الاعتصام فيها، واستخدمت قنابل الغاز لتفريقهم، ما تسبب في تسجيل حالات اختناق في صفوفهم، كما أحرقت العديد من خيمهم.
وإنطلقت، مساء الأحد، تظاهرة مؤيدة لاعتصام “البصرة” في ساحة اعتصام “الحبوبي”، في مدينة “الناصرية”، (مركز محافظة ذي قار)، جنوب البلاد. وأكد متظاهرو “الحبوبي” تضامنهم مع احتجاجات “البصرة”، رافضين محاولات قوات الأمن إنهاء التظاهرات في “البصرة” بالقوة، وبينوا أن مظاهر الاحتجاج السلمي في “الناصرية” مستمرة، ولا يمكن أن تنتهي ما لم تتحقق جميع المطالب، وفي مقدمها محاكمة قتلة المتظاهرين، ومحاسبة الفاسدين.
كما تظاهر المئات في مدينة “السماوة”، (مركز محافظة المثنى)، جنوب العراق، للتضامن مع متظاهري “البصرة”، وفي محافظة “واسط”، (جنوبًا)، إنطلقت تظاهرة في مركز المحافظة، (مدينة الكوت)، تأييدًا لاحتجاجات “البصرة” أيضًا.
ورفض المتظاهرون أساليب القوات العراقية لفض تظاهرة “البصرة”، وقبل ذلك تظاهرة “ساحة التحرير”، ببغداد، من خلال استخدام القوة، موضحين أن ساحات التظاهر خط أحمر لا يمكن السماح لأحد بتجاوزه. وتركزت تظاهرات “الكوت” قرب مبنى الحكومة المحلية، وبين المحتجون أنهم سيواصلون مظاهر الاحتجاج السلمي حتى تحقيق جميع مطالبهم.
وفي وقت سابق من يوم الأحد الماضي، حذرت عائلات ضحايا الاحتجاجات بمحافظة “ذي قار”، (مركزها الناصرية)، جنوب العراق، الحكومة، من محاولة فض اعتصام “ساحة الحبوبي”، (بالناصرية)، الذي تحول إلى مركز الاحتجاجات في البلاد.
يذكر أن قوات الأمن العراقية أعادت، السبت، فتح “ساحة التحرير”، ببغداد، معقل التظاهرات الاحتجاجية التي شهدها العراق منذ تشرين أول/أكتوبر الماضي، بعد أكثر من عام على إغلاقها. وفككت القوى الأمنية خيام المتظاهرين في “ميدان التحرير”، في ساعة مبكرة من فجر السبت، وأعادت فتح “جسر الجمهورية” على “نهر دجلة”، الرابط بين “ساحة التحرير” و”المنطقة الخضراء”، حيث توجد معظم السفارات الحكومية والأجنبية.
وهكذا.. تستمر الانتفاضة الشعبية، في مدها وجزرها، تقاوم ضغوط أشباحًا ووحوشًا تطارد أحلامها في خلق “عراق جديد” يمنح العزة والفخار لكل مواطنيه.. ولأنها انتفاضة شعبية اختارت لنفسها هدفًا ضخمًا يكسر كل “الخطوط الحمراء” لمصالح محترفي سياسة وحكم جبلوا على الإدارة بأساليب “مافياوية”، فبالتالي تعاني تلك الانتفاضة من مشاكل موضوعية وذاتية يجب عليها تخطيها للوصول إلى هدفها الكبير…
انسحاب تكتيكي أم جزر للحراك ؟
فجأةً ومن دون مقدمات، انسحب المحتجون العراقيون من “ساحة التحرير”، قلب بغداد الرصافة، وغادروا ظلال نصب الحرية الذي درجوا الوقوف تحته، مودعين “جواد سليم” الشهير بـ (شهيد الحرية)، بعد أن أقنعهم زملاؤهم في قيادة الحراك الشعبي بضرورة وقف الفعالية الاحتجاجية ولو مؤقتًا، لإفساد المؤامرة التي تُحاك ضدهم.
وأكدت مصادر متابعة احتمال تحرك ثلاثة ألوية “ولائية” لإفساد التظاهرات، دُرّبت منذ أشهر، سبقت الـ 25 من تشرين أول/أكتوبر 2020، موعد الموجة الثانية من الاحتجاجات، التي شارك فيها آلاف الشباب العراقيين من “بغداد” إلى “البصرة” والمحافظات الوسطى.
وقال المحامي، “علي كامل”، أحد أعضاء قيادة الحراك الشعبي: “وردتنا من مصادر مطلعة، قريبة من رئاسة الوزراء، أن ثلاثة ألوية مسلحة ولائية أعدت لاستهداف المتظاهرين، وإحداث صدام عنيف بينهم والحكومة، وسقوط ضحايا وجرحى كثر جراء ذلك، فأردنا تفويت الفرصة عليهم بوقف تكتيكي للاحتجاجات، ومنح الحكومة الوقت الكافي لإستكمال إجراء الانتخابات المقبلة”. وأضاف: “بذلنا جهدًا استثنائيًا لإقناع مئات الشباب المحتجين، عبر إدارة الحراك في بغداد والمحافظات، بحقيقة ما يجري ويحيط بهم، من احتمال حدوث مجزرة، ورصدنا عبر كاميرات مراقبة مجموعات من المندسين الذين توزعوا داخل الساحات، وزودنا متخصصون بصورهم ومواقعهم، وهم يرتدون “يشاميغ” معينة تميزهم عن المتظاهرين الذين إنطلقوا بعفوية لإحياء المناسبة، والمطالبة بكشف قتلة المحتجين في تشرين أول/أكتوبر العام الماضي، وتأكيد شعارات تطالب بانتخابات حرة نزيهة”.
وبحسب ما قال أحد الناشطين، فإن الأمور كادت أن تنفلت لتُعاد مأساة العام الماضي؛ بتسلل عناصر سماها منظمو الاحتجاج، بـ”المندسة”، لولا تدارك قيادة الحراك الشعبي خطورة ما يحدث، ووقف التظاهر وكشف المندسين، وتركهم وحدهم في الساحات، في محاولة تكتيكية لكسب الوقت وتجنب الصدام غير المتكافيء بين المحتجين العزل والمندسين المسلحين.
من جانبه؛ أكد عضو اللجنة التنظيمية للاحتجاجات، “ضرغام ماجد”، أن: “الأساليب التي استخدمت من الحكومة الحالية والقيادات الأمنية خالفت بعض وعودها المسبقة لنا بمنع المتظاهرين من التجمع في منطقة العلاوي صوب الكرخ ببغداد”. وأضاف: “هذا الإجراء لم يمارسه ضدنا حتى رئيس الوزراء السابق، عادل عبدالمهدي، من خلال قطع الطرق الخارجية، ومنع وصول المتظاهرين إلى الكرخ، وهذا أمر يتعارض مع الدستور والقانون”. وتابع: “تعرضتُ للضرب والإهانة وقطع الطريق الذي يوصلني وزملائي إلى مركز التجمعات، ما اضطرنا لإتباع طرق وعرة للوصول إلى مراكز التظاهر”.
وقال الناشط من تيار (تشرينيون)، “حسين الجميلي”: “لم نوقف التظاهرات، وسنخرج من مناطق جديدة في أبي نواس ببغداد مثلاً، وما إيقاف الاحتجاجات سوى إجراء تكتيكي لكشف المندسين والعصابات التي علمنا بوجودها، التي أرادت خلق الفتنة بين المتظاهرين والقوات الأمنية. خلصنا إلى تنظيم أنفسنا كي لا يسقط ضحايا جدد، ولن نهدر دماء شبابنا حتى نصل إلى نيل حقوقنا المشروعة، ونكشف قتلة المتظاهرين، وهو مطلب أساس”. وأضاف “الجميلي”: “توجد قيادات للحراك الشعبي شقت صف التظاهرات، لكننا سنعيد تشكيل الاحتجاج، مستفيدين من تجاربنا السابقة، وتخطي حال الفوضى التي عشناها سابقًا بتنظيم وإرادة شعبية قوية، لأننا نعرف أننا نحارَب من الدولة وأحزاب السلطة”.
“داعش”.. وجعبة الحاوي..
يرى البعض أن “انتفاضة تشرين” (أكتوبر)، التي حملت شعار: “نريد وطنًا”، تتعرض حاليًا إلى تحديات جمة نتيجة محاولات الإحتواء وتفتيت إرادتها، بضرب المحتجين والتفريق في ما بينهم وإسقاط شعاراتهم وإحداث انشقاق بين قياداتهم، إذ يرجح بعض الناشطين ممَن رفضوا الانسحاب من الساحات بأنهم يواجهون حملة اختراق منظمة ضدهم.
ولكن، الاختراق أو الاحتواء ليست كل أدوات “الثورة المضادة”، بكافة مكوناتها سواء كانت ميليشياوية أو حكومية، لاجهاض نبض الانتفاضة التشرينية الشعبية.. فمازال “الحاوي” يمتلك بـ”جعبته” الكثير.. فقد أعتاد العراقيون مع كل منعطف في حياتهم السياسية، أن تثير أحزاب السلطة قضايا جانبية تشغل الرأي العام عن قضاياه المهمة. فغالبًا ما كانت أحزاب السلطة تروّج لعودة “حزب البعث” ونظام الحزب الواحد، وتحذر من خسارة مكاسب النظام الديمقراطي. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فهناك القضية الحاضرة دائمًا في الملف الأمني، وهي عودة تنظيم (داعش).
يعتقد الباحث في العلوم السياسية، “إياد العنبر”، أن القوى السياسية تعتبر أن عناوين مثل “الإرهاب”، يمكن أن تكون مبرّرًا لحالة الفشل أو للتغطية على التداعيات الخطيرة لفشل النظام السياسي.
ويرى “العنبر” أن: “السلطة وصلت إلى مرحلة الإفلاس السياسي على مستوى الإيديولوجيا”، فكما كانت في السابق تثير المخاوف من عودة حزب البعث والتآمر عليها، تردّد الحكومة الحالية بالنبرة ذاتها أن: “هناك من يشكّك في منجزاتها، وأن هناك من يتأمر عليها، فالأزمة الحقيقة تتجسد في التفكير السلطوي الذي ما زال يعتاش على أفكار من الماضي، لكونه يفتقر إلى المنجز”.
في السياق ذاته، يعتبر الكاتب، “وقاص القاضي”، أن: “الحكومات المتعاقبة، منذ عام 2003، تذرّعت بالإنشغال في التصدي للإرهاب وأعداء الديمقراطية؛ لتبرير فشلها وعدم إلتزامها بمسؤولياتها، وجعلت الحكومة من فرصة ظهور (داعش) مناسبة لقمع أي حراك شعبي، فـ (داعش) هو شماعة وقد إرتكبت باسمه أبشع الإنتهاكات ضد حقوق الإنسان وقمع أي حراك شعبي سلمي يطالب بالإصلاح والتغيير”.
كما يلاحظ الصحافي، “عمر الجنابي”؛ أن: “إرباك المشهد الأمني في المناطق المحررة تحديدًا، كما حدث أخيرًا في الفرحاتية وناحية يثرب من إلصاق تهم الهجوم على المدنيين من السكان بـ (داعش)، يهدف إلى تبرير عدم تنفيذ مشاريع تنموية ومنع عودة النازحين إليها، فالإرتباك الأمني ينتج منه استيلاء على الأراض الزراعية وآبار النفط وإيجاد مبرّر لبقاء السلاح المنفلت والميليشيات”.
ويسأل “الجنابي”: “كيف يمكن وجود (داعش) في هذه المناطق، في ظل وجود آلاف العناصر في المؤسسات الأمنية والحشد شعبي، وهناك مناطق مطوّقة بالكامل ؟”. ويضيف أن: “عدم استقرار الوضع الأمني والتخويف من عودة (داعش) يصبّان في مصلحة جهات سياسية فقدت التأييد الشعبي وفقدت فرصتها للبقاء، فأصبح خلق الرعب بين الأهالي هو وسيلتها الوحيدة”.
ويتابع أن: “المشهد الأمني الحالي سينعكس على الانتخابات المقبلة، فهناك كثير من المراكز الانتخابية مغلقة في: بيجي وعزيز بلد ويثرب وجرف الصخر؛ بسبب عدم السماح للنازحين بالعودة إلى هذه المناطق”.
ويتوقع “الجنابي” أن: “تشهد الانتخابات هجمات في مناطق محددة يتهم بها (داعش)، لكي تسرق الأصوات لمصلحة مرشحين معيّنين وتستبعد مناطق معنية من المشاركة في الانتخابات بحجة الوضع الأمني”.
خلف الإعلان الحكومي لتحقيق النصر على (داعش)، شعور جمعي لدى المواطنين بأن مرحلة التنظيم قد انتهت وطويت صفحتها إلى الأبد. وهذا ما يجعل الكاتب، “رعد هاشم”، يقول: إنه “لم يدُر في خلد أحد أن تستغل جهات سياسية، (داعش)، شماعة أو فزاعة تخويف، فهي تستحضرها ساعة تشاء”.
ويلفت الصحافي، “محمد الكبيسي”؛ إلى أن: “التلويح بـ (داعش) يظهر كلّما شعرت الأحزاب السياسية بأن شعبيتها تراجعت، وأن قبضتها على الشارع أرتخت، لذلك تلعب على عواطف الناس، كما يتم استخدامها حاليًاً مع قرب الانتخابات، وهذا يزيد من احتمالية بقائها في مناصبها”.
وفيما توجّه إلى المتظاهرين تهم بأنهم “بعثيون وأبناء سفارات وجوكرية”، يرى الناشط، “وسام ميمر”، أن: “الأحزاب السياسية تعمل بشتى الطرق لتخريب الثورة وتشويه صورتها”.
ويؤمن بأن: “(داعش) صنيعة الأحزاب، وقد وجّهت التهم إلى الثورة بأنها مدعومة من قِبل التنظيم، أو أنها تضم عناصر تسانده، بهدف إجهاضها وعدم حصولها على المساندة والتأييد من الشارع العراقي”.
ويضيف “هاشم” أنه: “غالبًا ما يُستخدم (داعش) مع تصاعد أي حراك شعبي للإيحاء بأن هناك خطرًا يُحدق بالبلد، وبحجّة الحفاظ على الأمن من خطر الإرهاب الذي يمكن أن يستغل التظاهرات”.
لكن للكاتب، “حسين رشيد”، رأيًا آخر، إذ يعتبر أن: “قوة التظاهرات لن تتراجع؛ على الرغم من محاولات إيجاد فزاعة (داعش)، فقوّتها تُستمد من مشروعية المطالب والأسباب التي دفعت الناس إلى التظاهر والمطالبة بالحقوق المسلوبة”.