كتب مصصطفى الكاظمي: من المفهوم أن يحيط بعمليّة الانتخابات الكثير من السلوكيات غير المألوفة سياسياً، والأفعال العدوانيّة، ومحاولات التسقيط المتبادل، والسعي إلى نشر الفضائح وتداولها، واستمالة الناخبين عبر وعود والتزامات لا يتمّ تنفيذها في الغالب.
لكن من غير المفهوم أن تتحوّل الانتخابات بورصة للوظائف الحكوميّة، وأن يتحكّم المرشّحون من هذا الطرف أو ذاك بالآلاف من الدرجات الوظيفيّة في الدولة، التي يتمّ استحداثها قبيل الانتخابات فتتحوّل بطاقات انتخابيّة.
بالطبع، ثمّة هامش من الكذب والادّعاء حول قدرة المرشّح على توفير وظائف في الدولة لمن يدلون بأصواتهم لصالحه أو يشاركون في دعم حملته الانتخابيّة. لكن إلى جانب هذا الهامش، ثمّة ما يحدث بالفعل على الأرض. فبعض السياسيّين النافذين أو شيوخ عشائر أو رجال دين في هذه المنطقة أو تلك، يوزّعون عشرات من الوظائف على أبناء عشائرهم أو أتباعهم في مقابل انتخاب الجهة المانحة.
ويعتبر العديد من الشباب العاطلين عن العمل أن موسم الانتخابات هو فرصة ملائمة للحصول على وظيفة رسميّة. وهم ينتظرون هذه الفرصة في كل موسم انتخابي، فيجولون على المرشّحين الذين يفتحون أبوابهم ومكاتبهم أمام الأهالي في مثل هذه الأيام ليعودوا فيغلقونها بعد انتهاء الانتخابات.
واللافت أن معظم الوظائف التي تُستخدم كورقة انتخابيّة، تأتي في مجال القوى الأمنيّة والجيش، ما يشير إلى أن هاتَين المؤسّستَين ما زالتا بطريقة أو بأخرى تُستخدمان في نطاق عمليّة الاستقطاب الحزبيّة والانتخابيّة.
والمشكلة الأساسيّة في هذه الظاهرة هي أنها تكشف حجم الإرباك في صميم أداء الدولة الإداري، وتؤشّر إلى استمرار النفوذ الحزبي في هيكليّة الدولة ومؤسساتها. كذلك فإنها تؤكد على أن عقليّة “المحاصصة الحزبيّة” ما زالت تسيطر على الطيف السياسي العراقي الذي تحفل شعاراته الانتخابيّة بالحرب على المحاصصة والمحسوبيّة والفساد.
تحويل الوظيفة الحكوميّة إلى بطاقة انتخابيّة نوع من أنواع الفساد البيّن والواضح، لكنه في الوقت نفسه فساد منظّم يستثمر خللاً أساسياً ومستمراً في الدولة العراقيّة.
ومن خلال شيوع هذه الظاهرة، من الممكن ربما تلمّس الأسباب التي تمنع القوى السياسيّة العراقيّة من تفعيل عمل “مجلس الخدمة الاتحادي” المعطّل منذ سنوات، على الرغم من إقراره بشكل قانوني في العام 2009 وإجراء تعديلات عليه في العام 2011.
ولعلّ قيمة هذا المجلس هي في أنه يحصر وينظّم آليات التوظيف في مؤسسات الدولة ضمن نطاق معايير قانونيّة، أي إنه من المفترض أن لا تكون خاضعة لإرادة الأشخاص أو الأحزاب.
وبصرف النظر عن أن القوى العراقيّة ما زالت تتبادل الاتهامات حول أسباب عدم تفعيل القانون، فإن المحصلة الموضوعيّة هي أن المجلس لم يمارس اختصاصاته ولم يتم تأسيسه فعلياً وما زالت الوظائف تتحوّل في موسم الانتخابات أصواتاً انتخابيّة.
عندما يتحدّث المواطن العراقي البسيط عن فقدان ثقته في الوسط السياسي، وعندما يتلمّس أي مراقب للأوضاع في العراق حالة الإحباط العامة لجهة إمكانيّة مساهمة الانتخابات في إحداث إصلاحات حقيقيّة في البلد أم عدمها، فإن السياسيّين يدافعون بضراوة عن مواقفهم ويحمّلون الناخب مسؤوليّة سياسيّة ودينيّة لمقاطعته الانتخابات ويتّهمون في السرّ المجتمع العراقي بأنه لايمتلك الثقافة الديمقراطيّة المطلوبة. لكن في الواقع، للإحباط الاجتماعي مبرّراته في ضوء العجز عن المضي إلى الأمام في بناء أسس الدولة والانشغال بدلاً عن ذلك بشعارات ومعارك وأزمات سياسيّة، عندما يتمّ تحليلها لا نجد أنها تتعلق بعصب الدولة وإنما بمتغيّرات.
ويبقى أن “مجلس الخدمة الاتحادي” مثال على إهمال الوسط السياسي العراقي لعصب الدولة، وهو مثال أيضاً على استمرار محاولات “استغفال” الناخب العراقي، عبر وظائف يتمّ توزيعها في زمن الانتخابات.