كتبت – إبتهال علي :
منذ فجر التاريخ والمياه تمثل عاملًا جوهريًا في الصراع بين البشر.. ولعل منطقة الشرق الوسط تعتبر تجسيداً محورياً لهذا الصراع، حيث اصبحت بؤرة تلاقي وتشابك دبلوماسية ونزاعات المياه، ما قد يجعل من عالمنا مسرحًا لحروب مستقبلية البطل الرئيس فيها هو “الماء”.
وتناولت دراسة هامة، نشرت على موقع كلية الدراسات البيئية والغابات بجامعة “يال Yale” الأميركية بعنوان: “النهر المتلاشي: نهر عظيم يجابه تهديدات عدة”، ما يتعرض له نهر النيل من تحديات على صعيدين خطيرين هما: “سد النهضة” الضخم الذي تبنيه إثيوبيا على منابع النهر، و”ارتفاع منسوب مياه البحر”، ما يؤدي إلى تسرب المياه المالحة في منسوب النهر. ويهدد هذا التحدي المزدوج مستقبل النهر الذي يعد شريان حياة للملايين.
وتقدر منظمة “International Rivers” غير الحكومية، المعنية بالحفاظ على الأنهار في العالم، أن نهر النيل يمثل شريان للحياة لنحو 300 مليون شخص في 11 دولة إفريقية تتوزع بين دول المنبع ودول المصب.
وعلى الرغم من ميل السياسيين والصحافيين إلى التقليل من شأن هذه الفكرة، فإن التدهور البيئي غالباً ما يكون سببًا جوهريًا للأزمات الدولية، والأمثلة بادية للعيان، من إزالة الغابات والتآكل وانخفاض الإنتاج الزراعي الذي مهد السبيل للإبادة الجماعية في “رواندا” خلال تسعينيات القرن الماضي إلى الجفاف الطويل الذي دفع سكان الريف إلى النزوح للمدن في بداية الحرب السورية حاليًا. وترى الدراسة أن “مصر” مرشحة بقوة لأن تصبح المثال الراهن على ذلك، حيث من المحتمل أن يصبح 95 مليون شخص ضحايا كارثة بيئية تدريجية ناجمة عن سوء واسع النطاق لإدارة البيئة.
وهو ما يحدث الأن في دلتا نهر النيل – وهي المنطقة المنخفضة الممتدة في مساحة تقدر بمئات الأميال من القاهرة حتى البحر المتوسط – ويعيش فيها ما بين 45 إلى 50 مليون إنسان، أي ما يمثل 2.5% من مساحة مصر، ويعيش باقي سكان مصر في وادي النيل، الذي يمثل شريط أخضر يتلوى عبر مئات الأميال من رمال الصحراء، أي 1% فقط من إجمالي مساحة البلاد.
هجوم ضاري من البر والبحر..
ويجابه النيل والدلتا معًا هجومًا لا هوادة فيه من البر والبحر، رغم أنهما مصدر ثروة مصر وعظمتها عبر التاريخ.
وأحدث حلقة من سلسلة هذه الأخطار، هو سد النهضة، المقرر الأنتهاء من بنائه هذا العام على منابع النيل الازرق، أحد الروافد الرئيسة لنهر النيل والذي يوفر 59 % من ماء النيل لمصر. وقد قامت إثيوبيا بعملية تمويل ذاتية لتشييد سد النهضة الكبير الذي تكلف 5 مليارات دولار، بهدف توليد 6000 ميغاوات من الطاقة. وهو ما يعد أمل كبير للإثيوبيين، الذين يعيش نحو 75% منهم بدون كهرباء، كما يوفر بيع الطاقة الفائضة عن حاجة إثيوبيا لدول أخرى مجاورة، مثل السودان وجيبوتي وكينيا، مليار دولار سنويًا لخزانة دولة تعاني من نقص شديد في النقد الأجنبي.
ويحقق السد هذه التطلعات الإثيوبية في حال حجب مياه النهر التي تنتقل إلى السودان ومن ثم إلى مصر، وهي حصة ضخمة من المياه بالنسبة للبلدين قد تنذر بحدوث نزاع مسلح في المنطقة، ووفقًا لموقع “ويكيليكس” للتسريبات، فقد تواترت روايات عن احتمال لجوء الجانب المصري إلى قصف السد الإثيوبي.
ومن الأثار المباشرة لسد “النهضة” تكون خزان مياه، حجمه ضعف بحيرة سد “هوفر Hoover”، أكبر بحيرة اصطناعية في الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، سوف تصل السعة التخزينية لبحيرة سد “النهضة” 74 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق، وذلك وفقًا للرواية الرسمية الإثيوبية. وهي مساحة تساوي 64 مليون فدان ويستغرق الوقت اللازم لملء هذه المساحة بالماء على عمق قدم واحد ما بين خمس سنوات إلى 15 عامًا.
وتؤكد دراسة جديدة في دورية “الجمعية الأميركية للجيولوجيا” Geological Society of America “GSA”، أنه خلال فترة تعبئة البحيرة الاصطناعية بالماء، ينخفض تدفق مياه النيل إلى مصر بنسبة 25% وتفقد ثلث كمية الكهرباء التي ينتجها السد العالي بأسوان.
وتتوقع دراسة “GSA” التي أشرف عليها عالم الجيولوجيا “جان دانيال ستانلي”، أن مصر سوف تواجه نقصًا حادًا في المياه العذبة والطاقة الكهربائية بحلول عام 2025، الأمر الذي سينسحب على نقص مياه الري اللازمة للزراعة في دلتا النيل، التي تمثل 60% من سلة الغذاء في مصر.
وعلاوة على ذلك، تؤكد دراسة “جمعية الجيولوجيا الأميركية” على أن سد “النهضة” هو فقط أحد الأخطار البيئية التي تتعرض لها مصر حاليًا، ولعل ارتفاع مستويات سطح البحر، الناجم عن تغير المناخ، أبرز هذه الأخطار وتشير إلى أن جزءًا كبيرًا من دلتا النيل هو في الواقع مساحة تبلغ مترًا أو أكثر من مستوى سطح البحر.
وتنقل الدراسة عن تحليل قام به عام 2014، فريق علمي ترأسه العالم المصري “أحمد سيف النصر” – أستاذ الجيولوجيا بجامعة أسيوط – أن ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار 50 سنتيمترًا أي نصف متر سيؤدي إلى تقلص مساحة الدلتا بنسبة 19%، أي مساحة تعادل مساحة مدينة “لوس أنغلوس” الأميركية.
وتعد هذه التقديرات متحفظة إلى حد ما، فلو تحققت نبؤات علماء المناخ وارتفعت مستويات سطح بحار ومحيطات العالم خلال القرن الجاري، فسوف يختفي ثلث مساحة دلتا النيل تحت البحر المتوسط، ولا يأخذ هذا التحليل بعين الاعتبار الآثار المحتملة الأخرى لخطر ارتفاع مستوى سطح البحر، التي وردت في دراسة نشرت في دورية “نيتشر” العلمية الشهيرة عام 2016.
دلتا تنتهي في الشمال.. وآخرى تولد في الجنوب..
فلا يمكن إغفال الأثر المتراكم لهبوط الأرض في الدلتا، خاصة على طول ساحل البحر المتوسط. وعزا د.”ستانلي” هذا الهبوط إلى عاملين هما: “الضغط المتواصل في الطبقات الجيولوجية الكامنة أسفل أرض الدلتا والنشاط الزلزالي”.
ويوضح د. ستانلي أنه رغم أن المنطقة مستقرة في حركة الصفائح الزلزالية، لكنها ليست خاملة تمامًا، وتشهد زلازل قوتها 5 درجات أو أكبر على مقياس “ريختر” للزلازل كل 23 عامًا، كما تتكرر الزلازل الضعيفة بصورة دائمة.
والأخطر أن الدلتا تفقد خصوبتها تدريجيًا والدليل على ذلك أنها لم تعد تربتها تتجدد سنويًا بمقدار 100 مليون طن من طمي النيل الذي يترسب بعد فيضان النهر، فبعد بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، تضيع هذه الرواسب في خزان أسوان حيث تتشكل دلتا جديدة جنوب مصر حاليًا، لكنها تحت الماء. في عملية أشبه بالبيوت الزجاجية الأمر الذى يزيد من الاحتباس الحراري في المنطقة. وعزت دراسات أخرى زيادة النشاط الزلزالي في المنطقة بسبب تأثير وزن السد العالي والمياه المخزنة وراءه.
الفقر المائي.. والحلقات المفرغة..
بالإضافة إلى الاضمحلال شبه المؤكد لمساحة من آراضي الدلتا، فإن امتزاج خطر ارتفاع مستوى سطح البحر مع هبوط الأرض سيؤدي إلى مزيد من تسرب المياه المالحة للمياه الجوفية والتربة الزراعية في الدلتا، وتشير الدراسة إلى أن مصر من دول العالم الفقيرة في نصيب الفرد من المياه العذبة، الذي يبلغ 660 مترًا مكعبًا سنويًا، بينما يحصل الإنسان الأميركي على 9800 متر مكعب من الماء العذب في العام.
وينجم عن ارتفاع مستوى البحر المتوسط بمقدار مترًا واحدًا وزيادة نسبة الملوحة في الأرض بإهدار ثلث كمية المياه العذبة الصالحة للشرب والزراعة في الدلتا، الأمر الذي يهدد الإنتاج الزراعي في بلد يتوقع أن يتضاعف عدد سكانه خلال الخمسين عاماً القادمة.
ولكن كيف تستطيع مصر كسر هذه الحلقات المفرغة والفرار منها، خاصة مع اقتصادها المتعثر حاليًا والاضطرابات السياسية التي مرت بها السنوات الأخيرة ؟
في معرض الإجابة عن هذا السؤال، تجزم دراسة جامعة “يال”، إن احتمال نشوب حرب أو القيام بعمل عسكري لتدمير سد “النهضة” الإثيوبي خيار بعيد جدًا، إن لم يكن مستحيلًاً، رغم الكلام الفضفاض عن تدمير السد. وفي عام 2015 وقعت كل من مصر والسودان وإثيوبيا إتفاقًا مشتركًا لإعلان النوايا بشان سد “النهضة” وفي شهر كانون ثان/يناير الماضي عقد الرئيس المصري اجتماعًا وديًا مع “هايلا ماريام ديسالين” رئيس وزراء إثيوبيا. ورغم ذلك، لم يتم التوصل لإتفاقية رسمية بشأن كيفية تقاسم موارد نهر النيل بصورة محددة.
لعبة ملء خزان السد وجني الثمار..
على الجانب الإثيوبي، تستطيع آديس أبابا التقليل من حجم الأضرار المباشرة على منسوب مياه النيل في دولة المصب، إذ أطالت الوقت اللازم لملء خزان السد بدلًا من خمس سنوات إلى 15 عامًا.
وتؤكد الدراسة الأميركية على أن هذا الخيار معناه تأجيل جني ثمار سد “النهضة” بالنسبة لإثيوبيا، وهو ما لن يتحقق على أرض الواقع بسبب العقود التي أبرمتها لبيع الكهرباء المتولدة عن السد لدول عدة.
ويقول استاذ الهندسة الميكانيكية بجامعة ولاية “سان دييغو” الأميركية ” أسفاو بييني” أن السد سيحقق إنتاج الكهرباء المنشود وهو ستة آلاف ميغاوات في أوقات الفيضان فقط، وأشار إلى أن الشركة الإيطالية المسؤولة عن بناء السد هي التي أجرت دراسات الجدوى الأولية للمشروع، وهو ما اعتبره تضاربًا واضحًا في المصالح، يؤدي إلى تضخيم التكاليف والأرباح مع الإيهام بتحقيق فائض في الطاقة الكهربائية.
وتخلص الدراسة إلى أن الضغوط على إثيوبيا لاسترداد عائد استثماراتها الضخمة في بناء السد وبصورة عاجلة، سوف تجعلها تلجأ إلى ملء خزان السد في فترة قصيرة.
وتنقل الدراسة عن بروفسيور “هاري فيرهوفن” – استاذ السياسيات الإفريقية بجامعة “جورج تاون” الأميركية قوله: “لا تمتلك مصر في كل الأحوال سوى مساحة صغيرة للتفاوض على صفقة مواتية”، وأضاف د. “فيرهوفن” أن مصر طالما أكدت على حقها في نصيب الأسد من مياه نهر النيل، وصاغت هذا الحق في إتفاقيات مياه النيل عام 1959، واعتبر أن دولة المصب لم تعر احتياجات دول المنبع أدنى اهتمام.
ويرى أستاذ السياسات الإفريقية أن مصر في فترة حكم الرئيس المصري الأسبق “حسني مبارك” استهانت بدول حوض النيل، كما تراجع دورها من بقية الدول الإفريقية وهي مقدمات أفضت للتحديات التي تواجهها مصر حاليًا.
هجوم “هيدروليكي” لإعادة ترتيب ميزان القوى..
في حالة من الصحوة الإثيوبية، تزامنت مع ما مرت به مصر من أحداث عقب ثورات الربيع العربي عام 2011، أعادت إثيوبيا بناء اقتصادها بكفاءة وتناغمت ببراعة مع المصالح الأميركية والصينية على حد سواء. وشنت ما وصفه د. “فيرهوفن”: “هجومًا هيدروليكيًا لإعادة تشكيل المنطقة”، ليس فقط على الصعيد السياسي أو النظري ولكن على الأرض، وذلك عبر فرض سيطرتها على مياه النيل، شريان حياة المنطقة.
ويمكن أن تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط النزيه في عملية التفاوض للوصول إلى حل وسط بين مصر وإثيوبيا، إذ لعبت مؤخرًا دورًا هامًا وراء الكواليس مع كل من القاهرة وأديس أبابا. لكن يتوقع “فيرهوفن” أن يتضاءل الاهتمام بقضايا القارة السوداء في عهد الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، سواء من مجلس الأمن القومي أو وزارة الخارجية الأميركية.
ويرى عالم الجيولوجيا “جان دانيال ستانلي” أن مصر يجب أن تفكر في مسارات آخرى، فهي بحاجة إلى الاستثمار في مشاريع تحلية المياه مثل دول الخليج العربي أو اللجوء لنظام ري الأراضي الزراعية بنظام التنقيط لتوفير المياه مثل دول عدة بمنطقة الشرق الأوسط منها دولة الاحتلال الإسرائيلي.