27 أبريل، 2024 3:48 ص
Search
Close this search box.

الميليشيات من وراءه والحرب الأهلية من أمامه .. العراق رهين “الدائرة الجهنمية” !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : كتب – محمد البسفي :

في فترة زمنية قصيرة لا تتعدى ساعات معدودات؛ تحدث جملة من الحوادث الدامية تنذر الشارع العراقي بخطورة ما بعدها.. مجموعة من أنصار هيئة (الحشد الشعبي)، تحت مسمى “ربع الله”، تقوم بإضرام النيران في مقر (الحزب الديمقراطي الكُردستاني)، ببغداد، ورفع علم الحشد بعد تمزيق وإحراق علم “إقليم كُردستان العراق”، ردًا على تصريحات صحافية لأحد قادة الحزب الكُردي ضد الحشد. ثم تتعرض منطقة “سيد غريب”، القريبة من قضاء “الدجيل”، شمالي بغداد؛ لهجوم شنه عناصر تنظيم (داعش) أسفر عن مقتل عنصر من (لواء 41)، التابع لميليشيا (عصائب أهل الحق). بعدها بساعات تقتحم مجموعات مسلحة تابعة للأخيرة – كما يؤكد شهود عيان والأهالي في شبه إجماع – منازل أهالي بقضاء “بلد”، ناحية “الفرحاتية” بمحافظة “صلاح الدين”، لتقوم بخطف 12 شخصًا بين أطفال وشيوخ؛ وتنفيذ الإعدام الميداني بثمانية منهم وترك الجثامين بعرض الطريق..

لبننة “العراق” .. وتعريق “المنطقة” !

ما إن تخفت حتى تطفو على السطح من جديد مع كل ما يطرأ على المشهد العراقي.. تلك التحليلات السياسية، سواء المحذرة أو الواصفة، لواقع ومستقبل العراق ومدى اقترابه من وضعية “لبنان” المضطربة منذ عقود.. وبالتالي إدخال العراق في “دائرة جهنمية” مغلقة من الحروب والتناحرات الأهلية.

فمن البداية؛ يرصد الكاتب اللبناني، “نصري صايغ”، في دراسة تحليلية سابقة له، خيوط تلك الدائرة بداية من غزو العراق الذي أطاح بصدام حسين، “دمر الدولة العراقية. بدد القوة العسكرية وسرح الجيش، فأستيقظت شياطين الأقوام والطوائف والمذاهب”. قبل الغزو، ثار الأكراد مرارًا وأنتزعوا “حكمًا ذاتيًا” ضمن دولة “العراق الموحد” بقيادة بونابرتية، تحكم سيطرتهاعلى العراق، وتحاول أن تهيمن على إمارات وسلطنات الخليج. “غزو الكويت”، ثم تحريرها، أتاح للشيعة إعلان ثورة سحقت على مرأى من “محرري” الكويت من احتلال صدام لها وضمها إلى “أرض العراق الأم”.

فأي نظام ينشأ بعد كل هذا ؟ أي دولة يمكن إعادة تركيبها، وأي سلطة يمكن إيلاؤها أمور الحكم فيها بعد تمليع نيسجها الاجتماعي وتمزيق وحدة الانتماء ؟ وما حصة قوى الخارج وما مقدار تناسبها مع القوى الجديدة، القادمة من أحضان دولة إقليمية كبرى ودول خليجية وسطى، ودولة عظمى بقوة الولايات المتحدة الأميركية ؟

لم يخلف الاستبداد بعد سقوطه من يرثه، تأهلت فصائل عصبوية مذهبية ودينية و”أحزاب” عاشت في كنف دول راعية وحامية لها لتكون بديلاً بشكل قبائل وعشائر ومذاهب وأقوام. من طبيعة الاستبداد، تجريف الأحزاب، ومن طبيعة الاستبداد أن يحيل الشعب إلى “قاع صفصف” مجدب لا تنبت فيه نبتة في الضوء. غير أن الدين، وهو القوة الأقوى في مجتمع معطوب سياسيًا ومعدوم مدنيًا، سيكون الحاضن الآمن نسبيًا للناس. فلا حماية إلا لمن تدين وأستتر.

من هذا السديم السياسي وفوق “أرض محروقة” بالاستبداد والغزو قبض “بريمر” على العراق، حاكمًا مطلقًا. وأعطى حق تشكيل “العراق الجديد”.. المادة الأولى بين يديه، هي الجماعات التي عادت من هجرتها القسرية إلى إيران والسعودية ودول الخليج والولايات المتحدة الأميركية مرورًا ببريطانيًا. عادت هذه الجماعات، إما على ظهر الدبابة أو بشكل طوابير قتالية قادمة من إيران.

هذه المادة الجديدة، سترث صدام و”بعثه” وجيشه. استخرج منها “بريمر” مداميكه لإعادة ترتيب العراق، كقوة مخلعة، لا قدرة لها على حماية نفسها من نفسها.

الشيعة أولاً، السُنة ثانيًا، الأكراد دائمًا، إلى جانب هيئات وأحزاب (قديمة وجديدة) أعطيت فرصة الإقامة داخل الفسيفساء المشتت، غير القادر على تشكيل “لوحة سياسية متماسكة” داخل “إطار” الدولة الواحدة.

أقتسم هؤلاء السلطة، اقتسموا المناطق، تقاسموا النفوذ، تصارعوا على كل شيء، وكل ذلك يجري، باحترام الآلية الديموقراطية، حاضنة التفتيت والساهرة على تظهيره، كشكل من أشكال التعبير عن “التعدد”، بحرية لا ترتكز غلى أصول مدنية وإلى قواعد تبقي للدولة وحدتها وهويتها.

كان من نصيب العراق، بعد الحرب، الاعتراف بالتقسيم الفيدرالي في الشمال، والنزاع على قسمة ما تبقى من الأرض، في الأقاليم والمحافظات. كل ذلك سار جنبًا إلى جنب، مع موجات العنف المذهبي وعمليات التفجير الانتحارية، التي حصدت آلاف القتلى وعدلت من طبيعة الديموغرافيا، وحكمت على العراق أن يعيش دائمًا، وسط الرعب.

فشلت الديموقراطية المنقولة على ظهور الدبابات ونجحت أميركا في بناء هيكل من الركام السياسي/الإثني/المذهبي/ على الركام الاجتماعي. وحدة العراق، بقيادة مركزية بونابرتية، تفتتت عندما أعلن المجتمع عن نفسه بهويات متنابذة ومصالح متناقضة لا تشبع أصحابها. كان الاستبداد يوحد بالقوة والديموقراطية تبدد بالحرية. والديموقراطية في مجتمع متعدد طائفيًا وإثنيًا ومذهبيًا، لا تكون إلا شكلاً غير قادر على ضبط النزاعات وتأطيرها وايجاد الحلول لها. الديموقراطية في مجتمع منقسم عموديًا أداة لإدارة الفوضى ومواكبة العجز. لا شفاء للعراق، بترياق الديمقراطية المعبدة بالمحاصصة والمشرعنة بالانتماءات المذهبية والإثنية. ولا خلاص، ببقاء الخارج حاضنًا لهذه الانتماءات وداعمًا لها ومؤيدًا لمطالبها.

حروب لبنان الصغيرة والمديدة، لم ينتصر فيها أحد على أحد. الحل جاء على قاعدة خسارة الجميع، والتعويض عليها بنصيب في السلطة. حروب العراق الكبيرة والمدمرة، هزمت فيها الدكتاتورية وانتصرت فيها مكونات اجتماعية ضد الدولة بوحدة ترابها وشعبها، فعبرت عن نفسها بكيانات مذهبية وإثنية، داخل ديمقراطية مخلعة.

لبنان، بعد أكثر من ربع قرن من “الحل العجائبي” لم يشف من الإقتسام والعنف المصاحب له والضياع المستمر في التوجه خارجيًا. العراق، بعد أكثر من عقد من “حل بريمر” لم يصل إلى استعادة وحدته، والتصرف بحريته بأسلوب يتيح للديموقراطية أن تبرهن عن جدواها. لبنان مريض مزمن والعراق عليل.. ولكن الحالتين كتجربة شبه متقاربة تنتج حقيقة: “اقتسام السلطة أسهل من تقسيم الأرض” !

أرض واحدة .. وحواضن كثر..

ولأنه، “العراق”، الغني بموارده وجغرافيته؛ هو الممتحن بتجربة “اللبننة”، يجب أن تنبت ظاهرة الميليشيات المسلحة صاحبة السيادة والنفوذ – الممتد علنًا من دول حاضنة – ممزوجة ومطبوخة بالفساد المالي والإداري بإيدي المسؤولين الذين أشاعوا سرقة أموال الدولة وخصوا أنفسهم بتخريب مشاريعها لصالح سياسي الطبقة الحاكمة علنًا أو من وراء ستار.. “وليست مصادفة أن تكون غالبية استثمار السياسيين العراقيين الفاسدين، وشراء العقارات الغالية الثمن في لبنان”. كما يلحظ، “معد فياض”، الكاتب السياسي.

تناغم تجربتي الحكم في العراق ولبنان لحد التماهي؛ جعل ما يحدث في “بغداد” نجده مستنسخًا منه في “بيروت”.. حتى التظاهرات الشعبية التي قامت في البلدين ضد طبقتي حكمهما، هنا وهناك، رفعت ذات الشعارات، مع الأخذ باختلاف اللهجتين.. في لبنان رفعوا شعار: “كلن يعني كلن”، وفي العراق: “شلع قلع”.

لذا يرى “فياض”، تشابهًا أيضًا في قصة “مرفأ بيروت”، الذي انفجر قبل شهرين؛ نتيجة مادة قابلة للتفجير مخزونة في “ميناء بيروت” منذ 6 سنوات، وبإهمال متعمد ودون التفكير بحياة الناس وأوضاعهم المعيشية، المشهد تكرر وبصورة أقل تاثيرًا في “بغداد”؛ عندما تفجرت أكداس العتاد ومخازن الأسلحة التابعة للميليشيات المسلحة، والتي وضعت عن قصدية بين المحلات السكنية، وما زالت هناك عشرات المخازن لهذه الأسلحة في المدن، وسط وجنوب العراق خاصة، وبمعرفة الأجهزة الأمنية الساكتة، حتى الآن، عن هذه المخازن، بل إن بلدات، مثل “جرف الصخر” وغيرها، تحولت إلى مصانع للأسلحة الثقيلة والخطيرة تابعة للميلشيات الموالية لايران.

ويقول الكاتب اللبناني: “إن إزالة مخازن الأسلحة، التابعة للميليشيات المسلحة، والسيطرة عليها من أهم مسؤوليات الحكومة وأجهزتها الأمنية، وإلا فإن فاجعة مرفأ بيروت قد تتكرر في أي حي سكني في بغداد، وغيرها من المحافظات العراقية، وهذه من أولى خطوات استعادة هيبة الدولة التي أعلن عنها رئيس الوزراء والقائد االعام للقوات المسلحة، مصطفى الكاظمي”.

غياب “الفريسة” .. في صراع “الضواري”..

حذر المحلل في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، “ماكس بوت”، من الانسحاب الأميركي، (الكامل)، من العراق، في وقت عرضت فيه الميليشيات الموالية لـ”إيران” تعليق الهجمات الصاروخية؛ إذا قدمت بغداد جدولاً زمنيًا لانسحاب القوات الأميركية من البلاد. جاء التحذير بعد إعلان الولايات المتحدة، مؤخرًا، خططًا لخفض عدد القوات الأميركية في العراق، من 5200 إلى 3000. وفي أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، هدد وزير الخارجية، “مايك بومبيو”، بغلق السفارة الأميركية بالكامل في بغداد؛ إذا استمرت الهجمات التي تشنها القوات الإيرانية بالوكالة.

وقال “بوت”، في تحليل على موقع “مجلس العلاقات الخارجية”، وهو معهد أبحاث مستقل مقره “نيويورك”، إنه: “قد يكون من المنطقي بالنسبة للولايات المتحدة تقليص بعثتها الدبلوماسية في بغداد، وهي البعثة الأكبر في العالم”، بالنظر إلى استمرار الهجمات التي تشنها الميليشيات العراقية، المدعومة من إيران.

لكنه عاد ليقول إن هذا الانسحاب “من شأنه، في الواقع، أن يمنح إيران ما تريده بالضبط. بقاء القوات الأميركية في العراق يضمن مواجهة النفوذ الإيراني، الذي لا يزال موجودًا رغم كل العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على طهران”.

وقد اتهم “ماكس بوت”، إيران، بأنها تحاول (لبننة) العراق، “حيث تسمح بحكم حكومة موالية للغرب نظريًا؛ بينما تمارس الميليشيات، الموالية لها، القوة الحقيقية. في لبنان، هذه القوة هي (حزب الله). أما في العراق فهذه القوة هي ميليشيات مثل (كتائب حزب الله) و(عصائب أهل الحق)”.

واستعان “بوت” بتحليل سابق عن “خرائط نفوذ الميليشيات الإيرانية”، للباحث العراقي الراحل، “هشام الهاشمي”، فقد وجد “الهاشمي” أن: “الاستيلاء التدريجي للميليشيات على الدولة، بحجة إعادة الإعمار والمصالحة بعد الحرب الأهلية، هو جزء من الحرب الطائفية، وجريمة منظمة”.

وأكد على أن الميليشيات “انتزعت سيطرة واسعة النطاق على جزء كبير من الاقتصاد العراقي: من جمارك المطارات، ومشاريع البناء، وحقول النفط، والصرف الصحي، والمياه، والطرق السريعة، والكليات، والممتلكات العامة والخاصة، والمواقع السياحية، والقصور الرئاسية. وإبتزاز المطاعم والمقاهي وشاحنات البضائع والصيادين والمزارعين والعائلات النازحة”.

وفي النهاية، دفع “الهاشمي” حياته ثمنًا لبحوثه، ففي 6 تموز/يوليو الماضي، فقد اغتيل على يد مسلحين خارج منزله في بغداد، “فيما يعتقد على نطاق واسع أنها عملية نفذتها قوات الحشد الشعبي”، حسبما يقول محلل “مجلس العلاقات الخارجية”. موضحًا أن تلك النتائج التي توصل إليها الباحث العراقي، نقلها صديقه، المحلل الأمني ​​السوري الأميركي، “حسن حسن”، الذي تحدث إلى “الهاشمي”، قبل ساعتين من اغتياله.

كما حذر “ماكس بوت” من حظر عودة ما يعرف بتنظيم (داعش) إلى العراق، والذي كان سببًا رئيسًا في تشكيل ميليشيات (الحشد الشعبي).

وقال: “منذ أن تم تدمير خلافة (داعش) المزعومة في العراق، إلى حد كبير عام 2017، كان رؤساء الوزراء العراقيون يحاولون، دون نجاح يذكر، تقليص قوة (الحشد الشعبي)، ومعظمها ميليشيات شيعية، التي كان سبب وجوده هو محاربة المتطرفين السُنة”.  وأضاف: “كان آخر من حاول مصطفى الكاظمي”، وهو رئيس سابق للمخابرات العراقية.

وأشار “بوت” إلى محاولة “الكاظمي”، في أواخر حزيران/يونيو 2020، حينما أمر باعتقال 14 عضوًا بميليشيا (كتائب حزب الله). لكن بعد أن دخل مسلحون في شاحنات صغيرة إلى “المنطقة الخضراء” في بغداد، حيث مقر الحكومة، وطالبوا بالإفراج عن المعتقلين، تم إطلاق سراح معظمهم، ثم تصويرهم وهم يحرقون الأعلام الأميركية ويدوسون على صور “الكاظمي”.

وخلص “بوت” إلى أنه: “يجب على الولايات المتحدة أن تستمر في دعم الكاظمي، أكثر رئيس وزراء موالٍ للغرب في العراق، منذ سقوط صدام حسين”، … إنه (الكاظمي) أفضل رهان ليس فقط لكبح جماح وكلاء إيران، لكن أيضًا لمنع عودة ظهور (داعش)، وهي منظمة إرهابية يُقال إن لديها عشرة آلاف مقاتل في العراق وسوريا واحتياطيات مالية لا تقل عن 100 مليون دولار”.

ويرى المحلل بـ”مجلس العلاقات الخارجية”؛ أن الهدفين مرتبطان إرتباطًا وثيقًا، موضحًا: “كلما زادت سيطرة الميليشيات المدعومة من إيران على الدولة العراقية، زاد لجوء السُنة العراقيين إلى الجماعات السُنية المتطرفة، مثل (داعش)، من أجل الحماية. بالمقابل، كلما بدت الدولة العراقية غير طائفية، زاد احتمال أن يرفض السُنة إهانات (داعش)”. ناصحًا بأن تواصل الولايات المتحدة الضغط من أجل دولة غير طائفية من خلال المساعدة في تدريب قوات الأمن العراقية، وتقديم المشورة للقادة العراقيين، والمساعدة الحاسمة في مجالات مثل الاستخبارات، والاستهداف، والخدمات اللوجيستية. “لا يمكن القيام بذلك إلا إذا حافظت الولايات المتحدة على وجود كبير على الأرض، ثلاثة آلاف جندي كحد أدنى، على الرغم من مخاطر الهجمات المدعومة من إيران”.

بين الميليشيات والسفارة .. و”داعش”..

كما يرى، “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، أن التهديد الذي وجهه وزير الخارجية الأميركي، “مايك بومبيو”، بإغلاق السفارة الأميركية، في بغداد، أدى إلى تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق إلى مستوى منخفض بشكل صادم؛ بعد أن كانت بأفضل حالاتها عقب زيارة رئيس الوزراء، “مصطفى الكاظمي” إلى واشنطن، في آب/أغسطس 2020. وأشارت تلك الزيارة إلى تعديل هام في مسار العلاقة بين البلدين، إذ بعثت إدارة “ترامب” برسالة واضحة أشارت إلى تحولها من التركيز المنفرد على إيران وتنظيم “الدولة الإسلامية”، إلى شراكة طبيعية وشاملة مع الحكومة العراقية والشعب العراقي.

ومع ذلك، فعلى مدار أسبوع واحد، اتخذت الإدارة الأميركية خطوتين لهما دلالة كبيرة: منح العراق إعفاءً لمدة 60 يومًا من العقوبات الأميركية المفروضة على شراء الكهرباء والغاز من إيران، (مما يتناقض بشكل حاد مع الإعفاء لمدة 120 يومًا الصادر في أيار/مايو)، أعقبه التهديد بإغلاق السفارة. وأشارت كلا الخطوتين إلى استياء الولايات المتحدة من الهجمات المتواصلة على المنشآت والأفراد الأميركيين التي تشنها ميليشيات عراقية مدعومة من إيران. ويعكس اللجوء المباغت إلى أدوات قسرية بالمقارنة مع الاستقبال الحار لزعيم عراقي قبل شهر واحد فقط، عودة الإدارة الأميركية إلى التعامل الضيق مع العراق في إطار حملة “الضغط الأقصى” التي تمارسها ضد إيران.

وترصد دراسة تحليلية، أعدها مؤخرًا الباحثين “دانا سترول”, “بلال وهاب”, و”باربارا أ. ليف”، أن المفارقة في هذا التحول، في السياسة؛ هو أنها تخاطر بإضعاف واستبعاد أول زعيم عراقي تتماشى رؤيته للعراق مع أهداف واشنطن: دولة تشهد إصلاحات على الصعيدين السياسي والاقتصادي، مع دور محدود لإيران. لكن الطرفين يختلفان على الجدول الزمني للقيام بذلك: فـ”الكاظمي” يؤمن بإحراز تقدم تدريجي، في حين تريد إدارة “ترامب” نتائج فورية. ومنذ أيار/مايو، عمل “الكاظمي” على:

(1) كبح نفوذ الميليشيات من خلال ممارسة صلاحياته في التوظيف والفصل بطريقة منهجية.

(2) تعزيز صفوف قوات الأمن الموثوقة وقدراتها.

(3) تحدي الشبكات المالية الفاسدة.

وفي النهاية، يهدف “الكاظمي” إلى إجراء انتخابات حرة وذات مصداقية في العام المقبل، والتي ستؤدي إلى بروز طبقة جديدة من القادة المستعدين للوقوف في وجه الدولة الموازية التي تديرها الميليشيات. ويفضّل “الكاظمي” تحقيق نتيجة مستدامة – أي أن تخسر إيران وشبكة السياسيين والميليشيات الفاسدين التابعين لها في صناديق الإقتراع على المدى المتوسط – بدلاً من خطر اندلاع أعمال عنف على المدى القريب والعودة إلى الحرب الأهلية الطائفية.

لقد أصبحت أنشطة إيران في العراق تحت المجهر أكثر من أي وقت مضى. وستكشف الخطوات التالية التي ستتخذها إدارة “ترامب” إمكانية مواجهة سلطة الميليشيات. وأدى إنذار الإدارة الأميركية إلى تنشيط النقاش عبر الطيف السياسي العراقي ودفع بعثات دبلوماسية أجنبية أخرى إلى الإعراب عن قلقها بشأن هجمات الميليشيات. لكن على واشنطن أيضًا أن تكون منتبهة إلى عدم تصوير نفسها وكأنها “انسحبت” بشكل إنهزامي من العراق.

السعي من أجل “وضع طبيعي” في العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق..

خلال زيارته للولايات المتحدة، حث “الكاظمي”، الأميركيين، على عدم النظر إلى العراق كساحة معركة في الصراع (الأميركي-الإيراني)، بل كمركز إقليمي لعلاقات ذات منفعة متبادلة في جميع أنحاء الدول المجاورة لها. وقد أعد الفريقان الأميركي والعراقي إطار عمل لعلاقة بالحجم الصحيح، يُرسِّخ فيه التعاون المدني – وليس العسكري – شراكة استراتيجية مع إقامة روابط في مجالات التجارة والأعمال والثقافة. وتُعتبر تصريحات واتفاقيات، آب/أغسطس، خطوات إيجابية تجاه بناء مثل هذه العلاقة، وتتواءم بشكل مقصود مع مطالب التغيير التي نادت بها الاحتجاجات الضخمة ضد الفساد التي سادت العراق في عام 2019، وعدم كفاءة الحكومة، ونفوذ إيران الضار في البلاد.

وستتطلب هذه الرؤية الاستراتيجية المشتركة للشراكة المدنية إلتزام اختصاصيين من كلا البلدين (بالقيام بما تتطلبه هذه الرؤية). فالسفارة هي المنصة التي لا يمكن الاستغناء عنها لضمان إنخراط الولايات المتحدة. كما أن ضمان أمن هذه المنصة هو شرط أساس. لكن اللجوء إلى إغلاقها يجب أن يكون الملاذ الأخير – بعد استنزاف جميع الإجراءات والمساعي الأخرى فقط.

على الولايات المتحدة مطالبة العراق الوفاء بإلتزاماته الدولية والدبلوماسية لضمان أمن السفارة وموظفيها. ولكن القيام بذلك يتطلب التنسيق مع حكومة “الكاظمي”، وممارسة الضغوط على القادة السياسيين الذين يلتزمون الحياد في بغداد وأربيل، والحصول على دعم الحلفاء ضمن تحالف مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” ودول المنطقة. ولا يمكن لـ”الكاظمي” أن يجازف بالدخول في مواجهة سياسية أو عسكرية دون أن يكون واثقًا بأنه يحظى بدعم محلي ودولي. وبالمثل، ستكون قوات الأمن العراقية أكثر حزمًا إذا تم تطمينها بالدعم من الخارج.

رؤية أميركية..

تشكّل السفارة المنصة الأساسية لمتابعة المصالح الأميركية في بلد أجنبي، وتعمل على فهم التطورات المفاجئة والتحولات الدقيقة في البيئة السياسية والأمنية في ذلك البلد. فموظفو السفارة والسفير المفوّض يسهّلون الإنخراط مع مسؤولي البلد وشعبه. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر السفارة البوابة التي تنفَّذ من خلالها السياسات والبرامج الأميركية، ومن بينها تلك المتعلقة بالمساعدة الأمنية والمجتمع المدني والإرتباطات الاقتصادية والخدمات القنصلية. (وبالطبع) لن تستمر وظائف السفارة الأساسية هذه بشكل هادف دون وجود سفارة في بغداد. علاوة على ذلك، بمجرد إغلاق السفارة، ستتطلب إعادة فتحها مفاوضات وجداول زمنية وتكاليف جديدة. بحسب رؤية تحليل “معهد واشنطن”.

وفي السياق العراقي، يقدّم إغلاق القنصلية الأميركية في البصرة، عام 2018، مثالاً بديهيًا: فهناك، خسرت الولايات المتحدة إمكانية مهمة لرؤية الانشقاقات التي عصفت بجنوب العراق، معقل الشيعة، ومركز الثروة النفطية في البلاد. وبدون النافذة إلى الجنوب، عجزت الولايات المتحدة عن جمع المعلومات الدقيقة بشأن حركة الاحتجاجات في العام الماضي، وقادتها الجسورين، الذين تم استهداف العديد منهم بعد تهيّجهم ضد النخبة الفاسدة في العراق، وكذلك الميليشيات وداعميها الإيرانيين.

ينطوي إغلاق السفارة على التداعيات التالية :

سوف تضعف أجندة الإصلاحات العراقية التي تحظى بموافقة الولايات المتحدة – ومعها احتمالات تعافي العراق واستقراره. خلال زيارة “الكاظمي” لواشنطن، اتفقت الولايات المتحدة والعراق على قائمة غنية من التعاون الثنائي الذي يغطّي مجالات الاقتصاد، والطاقة، والصحة، والتعليم، والعلاقات الثقافية، والأمن، ومكافحة الإرهاب. وتدعم هذه الأجندة الطموحة التعافي والاستقرار في العراق وتوفر صلة وصل لعلاقة طويلة الأمد، لكنها ستصبح دون جدوى في غياب سفارة أميركية.

ستزداد جرأة إيران وحلفائها وسيسعون وراء أهداف أميركية جديدة. على الرغم من حرص العراق الشديد على عدم تحوّله إلى مسرح للصراع بين الولايات المتحدة وإيران، إلّا أن القادة الإيرانيين سيعتبرون إغلاق السفارة الأميركية انتصارًا لطالما سعوا إلى تحقيقه ومبررًا لوجود الميليشيات والوكلاء الذين نشرتهم إيران في البلاد. ونظرًا إلى عجز قوات الأمن المحلية عن التصدي لاستعراض القوة الذي قامت به (كتائب حزب الله) في مقر إقامة رئيس الوزراء، في حزيران/يونيو، فإن الانسحاب الدبلوماسي الأميركي سيترك أرضًا فارغة تابعة للسفارة يتم اجتياحها من قِبل الميليشيات وتزيينها بأعلامها. وبالتالي، ستكون واشنطن قد شجعت على المزيد من الهجمات المماثلة – وليس على التقليل منها – وربما ليس في العراق فحسب.

لن يكون الوجود العسكري الأميركي مستدامًا سياسيًا إذا لم تتم هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”. يلتزم المسؤولون الأميركيون الصمت بشكل ملحوظ بشأن مستقبل البعثة العسكرية في العراق – وهذه مسألة سياسية لطالما أثارت الانقسام – على الرغم من الإغلاق المحتمل للسفارة الأميركية. وينبع هذا الصمت من واقع إدراك المسؤولين العراقيين والأميركيين على حدّ سواء الفوائد المتبادلة لتدريب قوات الأمن العراقية وتقديم المشورة لها وتجهيزها لمواصلة محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”. فضلاً عن ذلك، يقدّر المسؤولون العراقيون والأميركيون أن الجيش الأميركي يوفر المنصة الاستخباراتية واللوجيستية الضرورية لحلف (الناتو) وغيره للحفاظ على بعثاتهم العسكرية. وقام “الكاظمي” بتحويل مسار الضغوط الرامية إلى إنهاء عمل البعثة العسكرية الأميركية من خلال تسليط الضوء على الفوائد الاستراتيجية للشراكة الأوسع نطاقًا مع الولايات المتحدة. ومن شأن إغلاق السفارة الأميركية أن يزيل الفرضية الأساسية لحجة “الكاظمي”، وبالتالي كشفه سياسيًا.

سوف يرتدع القطاع الخاص الأميركي عن المراهنة على العراق. منذ عام 2003، فشلت الحكومتان الأميركية والعراقية في الضغط على مجتمع الأعمال الأميركي للمراهنة على آفاق العراق الطويلة الأجل كمشروع استثماري. وفي آب/أغسطس، شكّلت اتفاقات غير ملزمة تجاوزت قيمتها 10 مليارات دولار مع شركات أميركية مثل (شيفرون وجنرال إلكتريك)؛ خطوة إيجابية بشكل خاص. فقد لعبت الحكومة الأميركية دورًا حاسمًا في تسهيل المحادثات بين العراق والقطاع الخاص الأميركي. ومن شأن إغلاق السفارة الأميركية أن يؤدي إلى حجب الثقة الكارثي عن العراق، وقد يحجم على الأرجح مجتمع الأعمال الأميركي كله تقريبًا، باستثناء أقوى المغامرين، عن الاستثمار في البلاد.

لذا تخلص الورقة الأميركية، إلى أنه: يعرّض تهديد الولايات المتحدة بإغلاق السفارة في بغداد العلاقة (الأميركية-العراقية) للخطر. فالإدارة الأميركية ترغم قائدًا يتمتع بعقلية إصلاحية على اتخاذ خيار ثنائي غير منيع: مواجهة الميليشيات المدعومة من إيران، عسكريًا إذا لزم الأمر، أو إغلاق السفارة الأميركية وإضعاف العلاقة الثنائية. وقد قوبلت خطة بديلة ظاهرية لنقل عمليات السفارة إلى “إقليم كُردستان” في شمال البلاد أو “قاعدة الأسد الجوية” في الغرب؛ بردّ متوقّع، حيث سبق أن تعرّض كلا المَوْقِعين لنيران إيرانية مباشرة وغير مباشرة. وتخاطر الولايات المتحدة من خلال نهجها القائم على المحصلة الصفرية (دون رابح أو خاسر)، بإضعاف الحليف وزيادة تمكين الخصوم.

ويتمثل السؤال الأساس، بالنسبة لصناع السياسة الأميركيين؛ فيما إذا كان لدى العراقيين القدرة والإرادة لوقف هجمات الميليشيات بشكل كامل وفوري. وعندما كان عدد القوات الأميركية في البلاد في ذروته، عام 2007، حيث بلغ قرابة 170 ألف عنصر، لم تتمكن تمامًا هذه القوات المدربة والمجهزة بشكل كبير من وقف الهجمات المدعومة من إيران على نحو كامل. وفي المقابل، ترزح قوات الأمن العراقية تحت وطأة أعباء تفوق طاقتها، وتفتقر إلى التجهيز الكافي، ولا تزال تعيد انتشارها في الميدان وتتدرب من جديد بعد انهيارها، عام 2014. فضلاً عن ذلك، كان العراق ضحية فساد قادة رأوا أنه من المفيد استخدام مجتمع الميليشيات، إن لم يكن تنميته، لخدمة أغراضهم الخاصة.

واليوم يسلط العراق الضوء على التداعيات الاستراتيجية للخطوات التكتيكية. فعلى الرغم من كَوْن “الكاظمي” أول زعيم عراقي على استعداد لمواجهة هذا النظام الفاسد والمتأصل الذي تستفيد منه إيران، إلا أنه يفضل انتهاج مقاربة تدريجية تتجنب إثارة المواجهة التي يعتقد أنه لا يستطيع الفوز بها حاليًا. وقد سبق أن وجّهت الإدارة الأميركية ضربة سياسية مدمّرة – ولكن ضد الهدف الخطأ. وسيكون من الأفضل التنسيق عن كثب وحشد الدعم الجماعي المطلوب للكاظمي، خشية أن يعتقد أولئك الذين يظلون على الحياد في العراق وخصوم الكاظمي أن وقف الدعم الأميركي سيقوض فرصه بالنجاح.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب