المكان والزمان والإنسان … الثلاثية الذهبية للمعماري العراقي محمد مكية

المكان والزمان والإنسان … الثلاثية الذهبية للمعماري العراقي محمد مكية

غادر الشاب محمد مكيَّة بغداد عام 1935، عبر البحر مع نحو خمسين عراقيا، توزعوا على الدّول الأوروبية للدراسة والعودة إلى العراق، يتحملون أعباء النهضة التي كان العراق يتدرج بها، فاختار دراسة العمارة في جامعة ليفربول الأنكليزية. وأصبح محمد مكية مستشارا في البلديات ومخطط مدن، ثم نُقل إلى جامعة بغداد ليتولى تأسيس القسم المعماري في كلية الهندسة، وذلك في عام 1959.

كتاب “مئة عام من العمارة والحياة”، الصادر عن دار “الأديب العراقي”، عمّان 2014، من تأليف المعماري والباحث خالد السلطاني، وظف فيه مؤلفه أدوات النّقد الحديث في رؤية المنجز المعماري للدكتور محمد مكيّة، عبر صور لأغلب مشاريعه داخل العراق وخارجه.
منجزات معمارية
استعار المؤلف في كتابه صورا ومخططات عديدة من مؤلفات عنيت بمنجزات مكيَّة المعماريَّة. من تلك المنجزات: مسجد الخلفاء (1963)، وهو إعادة تصميم على المنشإ الأول، وكان مسجدا عباسيا، لكن لم تبق منه سوى المئذنة، وقد ظلت قريبة منه، وتُعرف بمئذنة سوق الغزال، ويُقال إن هذا المسجد شيّده الخليفة المستكفي بالله العباسي.
(مئة عام من العمارة والحياة)، وظف فيه السلطاني أدوات النقد الحديث في رؤية المنجز المعماري لمحمد مكية
وهذا المنجز لم يكن الأول في حياة مكية المعماريَّة، فله تصاميم لمنازل ودوائر، لكن هذا العمل يُعد الأبرز آنذاك. وبعده أنجز تصاميم مهمة في بغداد، كمسجد الصديق ومسجد الدولة الكبير وجامعة الرشيد في ضواحي بغداد.
ومن إنجازاته المعمارية أيضا، نذكر كلية التربية في باب المعظم شمال بغداد ومكتبة ديوان الأوقاف في بغداد ومبنى مصرف الرافدين في الكوفة وكربلاء. ومن تصاميمه خارج العراق نجد مسجد الشيخ حمد في البحرين ومسجد الكويت الكبير ومشروع الجامعة العربية في تونس ومجمع المحاكم في الرياض، وغيرها من المشاريع العديدة في دول الخليج.
تصاميم فنية
يرصد كتاب “مئة عام من العمارة والحياة”، الذي تغلب عليه صور المشاريع والسيرة الشخصية، مرحلتين أساسيتين في حياة مكيّة المهنية، وتمتد الأولى من نهاية عقد الأربعينات حتى تصميم مسجد الخلفاء في بغداد، فمع هذا المسجد تبدأ المرحلة الثانية من حياة المعماريّ، أي قبل جامع الخلفاء وبعده.
تعرف مكية على مصممين عالميين تركوا أعمالا في بغداد مثل فالتر غروبيوس
في إنجازاته يعطي المعماري محمد مكية أهمية خاصة إلى المفردات التكوينية لتصميمه، سواء كان في فندق “ريجنت بالاص” وسط بغداد أو في تصاميمه للمنازل والدوائر.
كما صمم مكية مبنى بلدية الحلة (1951). ويعد مؤلف الكتاب المعماري خالد السلطاني هذا المبنى من أهم مباني المرحلة الأولى، لما فيه من أسلوب معالجة الفضاءات التي بدت كلاسيكية، وبوجود الرواق المكشوف للطارمة الأمامية، وهذا الرواق يحمي ويطل على فضاءات الغرف. أما في المرحلة الثانية المتمثلة بدايتها بجامع الخلفاء فكان تصميمه يُعد من التصاميم المهمة، مع ولع بالتفاصيل، وعدم الطموح بحل فني، حسب عبارة السلطاني وهو يتحدث عن فن تصميم هذا المسجد.

احتفاء بمبدع
تعرّف مكية على مصممين عالميين تركوا أعمالا في بغداد، كالمعماري فالتر غروبيوس، الذي التقى به عام 1960. وكان عضوا في جائزة الآغا خان، وأخيرا أهدى أعماله لهذه المؤسسة الدولية. هذا وقد مرَّ على مكتب محمد مكية معماريون ومصممون عديدون، ساهموا كلّ في مجال أعماله، ولا ننسى أنه كان مؤسساً وأستاذاً في قسم العمارة بجامعة بغداد، فالعديد ظلّ على صلة مع مكتبه المعماري، كان آخر لقاء له بتلك البذرة عام 2006، وقد تبدلت الأجيال بأجيال وكثر الأحفاد، لكن لا أحد ينسى تلك الغرسة الأولى، التي بدأت تتفتح وتثمر منذ عام 1959.
يقول خالد السّلطاني في كتابه عن محمد مكيَّة: “إنه احتفاء بهذا الحدث، ويقصد بلوغ المئة عام، قضى منها نحو سبعين عاما طالبا ومعماريا وفي الشأن نفسه. إنه احتفاء بثقافة وفن وحضارة العراق، من خلال أحد أهم معماريي العراق، إن لم يكن في مقدمتهم، وهم جميعاً تركوا بصمتهم في الفن المعماري، وما ازدانت به الأرض في المنطقة من عمران.
 وتميزت تصاميم محمد مكية بالألفة مع الإنسان، وهو يردد دائما: المكان والزمان والإنسان، هذه الثلاثية لا بد أن تتآلف في العمارة، مع عشقه للسقف المرفوع والفضاء المكشوف”.
يُحتفل بمحمد مكيَّة في ظرف عراقي قاهر، فالعشوائيات أخذت تقضم المدن، والريف بكل فوضى عمرانية وسكانية أخذ يزحف على المدن، حتى صارت القاعدة هي ترييف المدن لا تمدين الريف. بلغ مئة عام ومحمد مكية لم يكف عن التفكير في التصميم، أعني إعادة تصميم المدن العراقية، فعندما تسمعه وترى خطوطه تتخيلها جنات من بنايات تظللها أشجار النّخيل.
وقد بدأ هذا المشوار مبكرا، عندما أراد لمسجد الخلفاء طريقا يمتد على ضفة النهر ويمرّ بين أشجار النخيل، كان ومازال يريد بساتين داخل العمائر. هكذا يريد لضفاف دجلة والفرات.
كان إقدامه مع أكاديميين وعلماء عراقيين، على إقامة مشروع جامعة الكوفة (1967) حيث أنجز تصاميمها وخطط أرضها مدفوعا بذلك الحس وتلك العاطفة اللذين عرف بهما. لم يكن مكيَّة يؤلف الكتب، لكنه ألف كتبا من عمائر، وهو يقول:” خطأ المعماري مؤذٍ للأرض والبشر، لأن مؤلف الكتاب يمكن أن يسحبه ويعيد طباعته، لكن كيف للمعماريّ تصحيح خطئه، لذا لا بدّ من الحذر إذا كنت معماريّا”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة