كتب عمر الجفال : طوال أربعة أعوام لم يعد وسام إلى منزله، وأهله يبحثون عنه من دون جدوى. وفجأة رأوه على شاشة إحدى القنوات التلفزيونيّة. وكان وسام يذهب إلى محافظة البصرة للعمل والتسوّل في بعض الأحيان. فأمسكته الشرطة هناك وأرسلته إلى دار المشرّدين في العاصمة العراقيّة بغداد. فراح يقول للمعنيّين في الشرطة والدار إن له في محافظة بابل أهل ينتظرون عودته، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل. ولم يتكلّف أحد عناء إيصاله إلى أهله، أو حتّى تبليغهم بوجوده في دار للمشرّدين في بغداد.
أما الإعلامية الشابّة صابرين كاظم من قناة “الحرّة عراق” في بغداد والتي تلاحق الظواهر الاجتماعيّة بشكل مستمرّ، فلم تتوقّع أن يدلّ تقريرها الذي بُثّ في نشرة الأخبار أهل وسام على مكان وجود ولدهم.
فتقول كاظم في حديث إلى “المونيتور” إن “الدار يغصّ بحكايات لمشرّدين يهملهم أهلهم.. بعضهم تجاوز السنّ القانونيّة. وقد أردت تسليط الضوء على هذه الفئة التي لا ينتبه إليها أحد”.
وتشير كاظم إلى أنها تفاجأت حين وردها اتصال هاتفي إلى مكتب القناة من محافظة بابل من أهل أحد هؤلاء المشرّدين الذين طلبوا منها أن توصلهم إلى وسام الذي بدا مرتعباً وخاملاً في الدار.
ساعد تقرير الصحافيّة على إعادة الصلات ما بين هذا الفتى وأهله، وذلك بعد بقائه لأربعة أعوام في دار المشرّدين. إلا أنّهم لم يتسلّموه حتى هذه اللحظة بسبب الإجراءات القانونيّة الروتينيّة، والتي تكلّف عائلته الكثير من المال الذي لا يملكونه.
وتشير كاظم إلى أن “جميع الشبّان في الدار صفر الوجوه، وغير مرتاحين. وهم لا يحصلون على تأهيل مناسب يمكّنهم من العودة إلى حياة المدينة الطبيعيّة”.
في العاصمة العراقيّة بغداد، ثمّة العديد من تجمّعات المشرّدين الذين تتراوح أعمارهم ما بين عشرة وعشرين عاماً.
وفي ساحة التحرير في وسط بغداد، ثمّة تجمّع للمشرّدين. بعض هؤلاء يمارس التسوّل، وبعضهم الآخر ينشل المارّة أو يسرق من المحال المتوزّعة في المناطق القريبة. وليس لهؤلاء بغالبيّتهم عائلات أو منازل تحميهم، فجزء منهم ينام في الشارع، وبعضهم الآخر انضمّ إلى شبكات تسوّل تؤمّن له السكن.
ويوضح مصدر أمني لـ”المونيتور” أن “بعض الجماعات المسلحة تستغلّ المشرّدين في بعض المحافظات العراقيّة”. ويشير إلى أنه “تم إلقاء القبض على العديد من هؤلاء وهم الآن في سجن الأحداث”.
لكن أحد الشبّان المشرّدين الذي التقاه “المونيتور” في منطقة الكرادة في وسط بغداد، يلفت إلى “وجود تنسيق ما بين بعض شبكات المتسوّلين والشرطة، الأمر الذي يحول دون إلقاء القبض علينا”.
ولا يوجد في العراق سوى دارَين للمشرّدين، واحد للذكور والآخر للإناث. ولا تتوفّر إحصائيّة رسميّة تفيد بأعداد المشرّدين، إلا أن إحصائيات متفرّقة تشير إلى أن هؤلاء تتجاوز أعدادهم 500 ألف شخص.
وتقول كاظم إن “تعامل دور المشرّدين مع الإعلام محفوف بالمخاوف”، موضحة أن “تلك الدور تخشى دخول الإعلاميّين إليها خشية تعريضها للانتقادات”.
وكان تقرير كاظم قد أثار ردود أفعال كبيرة في الشارع وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، إذ طرح مجدداً السؤال عن الخطوات التي تتّخذها الحكومة لإعادة هؤلاء إلى أهلهم أو دمجهم في المجتمع بعد أن عانوا من الإهمال.
ويقول الباحث الاجتماعي واثق صادق لـ”المونيتور” إن “دور المشرّدين إذا لم تعتمد على برامج حقيقيّة ضمن ظروف اجتماعيّة واقتصاديّة صحيحة، فإن نتائجها لن تكون بالفاعليّة المطلوبة”. ويشير إلى أن “هذه الدور وعلى الرغم من التغيّرات الكبيرة التي حصلت في العراق بعد العام 2003، ما زالت عاجزة عن تأدية مهامها بشكل حقيقي. وهو ما يمكن أن نصفه بالخضوع إلى الواقع العام الذي تغلب عليه صفة الارتباك”.
ويوضح صادق أن “لا وجود حالياً لبرنامج حكومي واضح يضمن القضاء أو أقلّه الحدّ من الظواهر الاجتماعيّة السلبيّة، ومنها ظاهرة التشرّد”. ويشدّد على أن”ظاهرة التشرّد تُعدّ إحدى أهم قنوات الانحراف السلوكي والاجتماعي، مع الإشارة إلى أن الحكومة ممثلة بمؤسسات الدولة هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن فرض الضوابط الرسميّة المتّفق عليها اجتماعياً لضمان معايير سلوكيّة مقبولة”.