14 يوليو، 2025 11:00 ص

“الفيدرالي” يستمر برفع سعر الفائدة .. هل يقتل “التضخم” الاقتصاد الأميركي ؟

“الفيدرالي” يستمر برفع سعر الفائدة .. هل يقتل “التضخم” الاقتصاد الأميركي ؟

وكالات – كتابات :

على مدار ثلاثة عقود لم تعرف دول غربية؛ مثل: “الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا” مشكلة تضخم كبرى؛ فمعدلات التضخم بقيت تحت: 5% في كل الأعوام تقريبًا بين: 1990 -2020، في جميع هذه الدول.

بينما في جانب آخر من العالم؛ وفي دولٍ مثل: “مصر وتركيا” ترتفع معدلات التضخم عن المعهود في الدول المتقدمة كثيرًا، فبينما لم تشهد “مصر” أي معدل تضخم أقل من: 5% في الفترة نفسها؛ باستثناء ما بين: 1997 – 2003، لم تشهد “تركيا” أي معدل تضخم أقل من: 6% في العقود الثلاثة الماضية.

ولكن دول العالم كلها، المتقدمة منها والنامية، حاليًا في مرمى معدلات التضخم المرتفعة؛ والتي وصلت في الدول المتقدمة إلى معدلات غير مسبوقة منذ الثمانينيات، فقد وصلت إلى أعلى من: 8% في “الولايات المتحدة الأميركية”؛ في حزيران/يونيو 2022، وكذلك إلى: 8.1% في دول “الاتحاد الأوروبي”؛ في آيار/مايو 2022، وأخيرًا: 9% في “المملكة المتحدة”؛ في حزيران/يونيو 2022.

ويعد “الفيدرالي الأميركي”؛ في النشرة التي أصدرها في تموز/يوليو 2011، أن معدل التضخم الصحي يجب أن يبقى حول: 2%، فحتى معدلات: 3 – 5% التي شهدتها “الولايات المتحدة” كثيرًا خلال العقود الماضية، تُعد تضخمًا غير صحي، ولكنها لا تُمثل المشكلة نفسها التي تُمثلها المعدلات الأعلى، التي تُحققها الدول المتقدمة اليوم بالطبع.

ويعني هذا أن مشكلة التضخم الحالية مختلفة عن أي مشكلة تضخم حصلت في العالم؛ خلال العقود الأربعة الماضية، ومنذ نهاية ما يُعرف باسم: “التضخم العظيم”، والذي حصل بين عامي: 1965 – 1982، وأدى إلى إعادة التفكير في علم الاقتصاد، وتحديدًا في آلية عمل البنوك المركزية.

جبال من الفضة.. كيف يحدث التضخم ؟

يُعرَّف التضخم عادةً بالنتيجة لا بالتأثير أو الآلية؛ فهو الانخفاض في القوة الشرائية لعُملةٍ ما، مقاسة بارتفاع معدلات الأسعار، سواءً احتسبنا جميع الأسعار في اقتصادٍ ما، أو أسعار سلةٍ من السلع والخدمات على وجه التحديد.

كما في المثال المشهور عن التضخم الذي حصل في “إسبانيا”، خلال القرن السادس عشر؛ فإن السبب الأساس للتضخم يُعزى بالدرجة الأولى للنمو في النقود في أيدي الناس في اقتصادٍ ما، وزيادة النقود بدرجة أكبر من زيادة الإنتاج أو القدرة على الإنتاج تعني في النهاية – نظريًّا – أن النقود ستفقد قيمتها تدريجيًّا حتى تُصبح الكمية الأكبر من النقود اليوم تساوي قيمة النقود نفسها قبل بدء النمو الكبير والمفاجيء في النقود.

في القصة المتعلقة بـ”إسبانيا”؛ يُعزى التضخم إلى اكتشاف جبال من “الفضة” في “البيرو” و”المكسيك”، ثم نقلها إلى “إسبانيا”؛ ما عنى زيادة كبيرة في النقود الفضية، دون أن يرتفع الإنتاج في “إسبانيا” بشكلٍ متناسبٍ، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم في البلاد.

وحتى الآن تبقى المسألة كما هي بالنسبة لكثيرٍ من الاقتصاديين؛ فنمو عرض النقود في اقتصادٍ ما يبقى هو السبب الأساس في حصول التضخم واستمراره؛ طبقًا لواحدة من أكثر النظريات تأثيرًا في الاقتصاد اليوم؛ ألا وهي: “النظرية النقدية”، والتي ترى التضخم ظاهرةً متعلقةً بالنقود بشكلٍ أساس.

ويُدافع الاقتصادي الأميركي؛ “فريدريك ميشكين”، في كتاب: (اقتصاديات النقود، المصارف والأسواق المالية- Economics of Money, Banking, and Financial Markets)، عن هذه النظرة في الاقتصاد، ويُهاجم أي حجج قد تُناقضها بناءً على تحليل منحنيات العرض والطلب.

خلاصة كلام “ميشكين”؛ تدور حول أن عوامل أخرى غير نمو عرض النقود قد تدفع فعلًا لارتفاع الأسعار، لكن هذه العوامل لا تدفع لارتفاع الأسعار إلا بشكلٍ مؤقتٍ، ثم يعود الاقتصاد إلى وضعه الطبيعي عن طريق قوى السوق، أما التضخم فهو ارتفاع مستمر في الأسعار، وليس صدمة مفاجِئة ومؤقتة يُسببها ارتفاع الأجور وأسعار المواد الأولية؛ (ارتفاع تكلفة الإنتاج = جانب العرض)، أو ارتفاعًا مؤقتًا في الإنفاق الحكومي مثلًا؛ (ارتفاع على جانب الطلب).

وطبقًا لـ”ميشكين”، والنظرية النقدية بشكلٍ عامٍّ؛ وتحديدًا أهم رموزها الاقتصادي الأميركي؛ “ميلتون فريدمان”، فإن التضخم المستمر لا يحصل في اقتصادٍ ما إلا نتيجة لارتفاع عرض النقود بشكلٍ أكبر من ارتفاع القابلية للإنتاج، ويحصل ذلك عندما تستخدم البنوك المركزية سياسة توسعية تضخ المزيد من النقود في الاقتصاد عن طريق أدواتها النقدية.

لكن هذه النظرية ليست الوحيدة في علم الاقتصاد، فهناك نظريات أخرى تدور حول الدور الأساس للعرض والطلب على السلع والخدمات في الاقتصاد بوصفها سببًا أساسيًّا للتضخم، ولنُحاول شرح الحالة الأكثر شيوعًا للتضخم بناءً على وجهتي النظر المذكورتين.

أولاً: التضخم المسحوب بالطلب “Demand-Pulled Inflation”..

صك الكينزيون؛ (أتباع الاقتصادي البريطاني؛ جون مينارد كينز)، مفهوم: “التضخم المسحوب بالطلب-Demand-Pulled Inflation” لتفسير ظاهرة التضخم بشكلٍ عامًّ، وكانوا يعتقدون أن هذا هو المفهوم الوحيد الذي يُمكنه تفسير الظاهرة.

إذ يرى الكينزيون أن التضخم يحصل بسبب تحسن وضع الاقتصاد، والذي يُسبب زيادة في التوظيف أثناء مرحلة صعود الاقتصاد، وزيادة التوظيف تُنتج زيادة القادرين على شراء السلع في الاقتصاد، ما يعني طلبًا أكبر على هذه السلع، فتزيد الشركات توظيفها أكثر لمحاولة إنتاج ما يكفي لسد حاجة الطلب في الاقتصاد.

لكن وسائل الإنتاج محدودة على المدى القصير، ولا يمكن لهذه الشركات رفع إنتاجها عن طريق التوظيف إلا بشكلٍ محدودٍ، بينما يستمر ارتفاع التوظيف وتحسن الأجور والقدرة الشرائية بشكلٍ عامٍّ، ما يعني نهاية أن الطلب سيُصبح أعلى من العرض، وهو يجعل الشركات تبدأ برفع أسعار منتجاتها بوصفه رد فعلٍ على تجاوز الطلب لمقدرتهم على الإنتاج فيحدث التضخم نتيجةً لذلك.

ويُعد هذا نقيضًا لأطروحة المدرسة النقدية التي تمتلك تفسيرًا مختلفًا مفاده أن الاقتصاد يبدأ بالنمو بعد مرحلة من الركود عادةً، ويعيش الاقتصاد دورة مستمرة من تتابع التضخم الحاصل بسبب النمو، ثم الركود الذي يُنتج حالة من ارتفاع معدلات البطالة، وبينهما حالة التعافي من الركود باتجاه قمة النمو الاقتصادي، وحالة من تقلص النشاط باتجاه الركود، تُعرف هذه الدورة باسم: “دورة الأعمال/الدورة الاقتصادية”.

وتُحاول الحكومة والبنوك المركزية معاكسة الدورة الاقتصادية ووضعها الحالي، فتقوم البنوك المركزية بمحاولة رفع عرض النقود في الاقتصاد أثناء الركود لتنشيط الاقتصاد؛ لأن مزيدًا من النقود في أيدي الناس تعني مزيدًا من الطلب ودفعًا في اتجاه الخروج من الركود عن طريق هذا الطلب، والذي يؤدي لتحسن مبيعات الشركات، التي ستزيد من التوظيف حينها وهكذا دواليك.

فبالنسبة للنظرية النقدية؛ فإن تفسير “التضخم المسحوب بالطلب”؛ هو أن البنوك المركزية ترفع عرض النقود بشكل أكبر من الحاجة في الاقتصاد، حتى تُصبح النقود المعروضة دافعة لرفع الطلب لمرحلة أكبر من قدرة الاقتصاد على الإنتاج، مؤدية بذلك إلى حصول التضخم.

وبالتالي تُفسر كلا المدرستين الظاهرة نفسها بأنها تتضمن ارتفاعًا في الطلب على العرض للوصول إلى النتيجة نفسها؛ مع شرح مختلف لآلية حصول التضخم، لكن هل التضخم العالمي الحالي مشابه أصلًا لهذه الحالة على اختلاف تفسيراتها ؟

ثانيًا: شبح الركود التضخمي..

يُعرف التضخم على أنه ظاهرة مناقضة للركود، فالظاهرتان لا تحصلان معًا في العادة، فإما أن يشهد الاقتصاد حالةً من ارتفاع الطلب بالنسبة للعرض ويحصل التضخم نتيجة لذلك، أو ينخفض الطلب عن العرض ويقل النشاط الاقتصادي فتخسر الشركات ويقل الإنتاج فيحصل الركود المترافق مع البطالة، وبسبب أنهما ظاهرتان متضادتان فالحكومات والبنوك المركزية اعتادوا على استخدام أدوات متناقضة لمعالجة كل حالةٍ على حدة.

فمثلًا ترفع البنوك المركزية أسعار الفائدة في أوقات التضخم، مع استخدام عدة أدوات أخرى لتخفيض عرض النقود، فارتفاع سعر الفائدة يعني ارتفاع تكلفة الحصول على رأس المال؛ تحديدًا عن طريق الديون، وهو ما يعني ارتفاع تكاليف الاستثمار والاستهلاك بشكلٍ عامٍ، وتخفيض الطلب، ما يُشكل معالجةً للتضخم، والعكس صحيح في حالة الركود.

لكن العالم شهد حالة فريدة من التضخم في فترة السبعينيات والثمانينيات أيضًا، وهي نفسها فترة: “التضخم العظيم”، والتي شهدت ركودًا وتضخمًا في الوقت نفسه؛ وهو ما عني فشل النظرية الكينزية في صورتها الأولى في تفسير التضخم، فذلك التضخم لم يحصل بسبب كون الطلب أعلى من العرض، وبالتالي لم يحصل مترافقًا مع النمو، ولم يكن معه أي نشاط اقتصادي زائد عن الحد، وظهرت “النظرية النقدية” لمحاولة تفسير الظاهرة، ولاحقًا ظهرت مدارس أخرى استلهمت “النظرية الكينزية” وطورت عليها أيضًا لتفسيرها.

ودون الخوض في تفاصيل تقنية كثيرة؛ يدور الركود التضخمي حول جانب العرض؛ وتحديدًا حول تكاليف الإنتاج، لذلك فهو تضخم مدفوع بالتكاليف، فحتى إذا انخفض الطلب ستزداد الأسعار لأنه لا علاقة بين الأمرين، فإذا كنت تحتاج لدفع المزيد لإنتاج السلع نفسها، التي كنت تنتجها البارحة، فهذا يعني أنك لن تستطيع أن تبيعها بأسعار البارحة نفسها، وبالتالي ترتفع الأسعار.

ويتسبب ارتفاع أسعار “النفط” تحديدًا بالوصول إلى هذه الحالة، فهو يدخل في إنتاج كل شيء تقريبًا، وقد كانت الدول المتقدمة تشتكي من السعر؛ نهاية عام 2021، عندما لم يكن يبلغ أكثر من: 80 دولارًا للبرميل الواحد، ولكنه اليوم يساوي أكثر من: 120 دولارًا، ومعه ارتفاع كبير في أسعار الغذاء حول العالم؛ نتيجةً للأزمة الأوكرانية وتداعياتها، خصوصًا أثر “العقوبات الغربية” على “روسيا”، التي تُعد أحد أكبر مُنتجي “النفط والغاز” في العالم.

وقد أظهرت البيانات الأميركية نموًّا سالبًا للربع الأول من عام 2022، رغم الإعتقاد الواسع بأن هذا الواقع سينقلب لاحقًا خلال هذا العام، وتيقن كثير من المؤسسات الاقتصادية الأميركية من ألا شيء يدعو للقلق، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يمكن القول إننا في خضم ركود ما لم تستمر هذه النتائج لربعين متتاليين من السنة الحالية، ولكن إذا حدث الأسوأ وحقق الاقتصاد الأميركي نموًا سالبًا مرةً أخرى؛ مع بقاء معدلات التضخم على ما هي عليه اليوم؛ فذلك قد يعني أننا بالفعل أصبحنا في حالة من “الركود التضخمي”.

والمشكلة الأساسية في ذلك هو الصعوبة الاستثنائية للتعامل مع مثل هذه الأزمة؛ فإذا كان الركود مناقضًا للتضخم فهذا يعني أن كلًّا منهما يحتاج سياسة مناقضة للأخرى لعلاج المشكلة، فإذا استخدمنا سياسة تُعالج الركود فهذا سيعني تغذية التضخم، والعكس صحيح.

والخلاصة أن المشكلة الحالية هي أزمة في جانب العرض لا الطلب؛ بدءًا من جائحة (كورونا) وآثارها في الإنتاج والسلاسل التجارية، نهاية بالأزمة الأوكرانية وأثرها في أسعار الطاقة والغذاء حول العالم، لكنها أيضًا مترافقة مع مشكلة من جانب الطلب؛ متمثلة بأن العالم بعد بدء تخفيف إجراءات العزل عاد للطلب بمعدلات كبيرة، ولم يكن بإمكان جانب العرض والإنتاج العودة لحالته الطبيعية بالسرعة نفسها.

هل يقتل رفع سعر الفائدة الاقتصاد ؟

يعمل رفع أسعار الفائدة بشكل جيد على جانب الطلب؛ فرفع سعر الفائدة يعني تقليلًا للنقود في الاقتصاد، ورفعًا لأسعار الاستهلاك والاستثمار، ولذلك تعمل الحكومات، وفقًا للمدرستين “الكينزية” و”النقدية”، على تقليل التضخم إذا كان حاصلًا بسبب جانب الطلب في الاقتصاد، لكن الواضح أن المشكلة الحالية مشكلة في جانب العرض لا جانب الطلب؛ فكيف يمكن لرفع أسعار الفائدة النجاح في معالجة جانب العرض ؟

جرَّب “الفيدرالي الأميركي” إتباع سياسة “النظرية النقدية”؛ بخصوص “الركود التضخمي” سابقًا؛ ومع أنها نجحت في معالجة مشكلة التضخم بعد رفع أسعار الفائدة في عام 1980، فإنها تسببت بركود الاقتصاد بين عامي: 1980 – 1982.

والمشكلة اليوم مشابهة لذلك؛ فالمعضلة في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء ونقصان عرض العمالة، ولا يمكن للحكومة الأميركية معالجة هذه المشكلات دون الحاجة لرفع أسعار الفائدة؛ وقد يكون رفع أسعار الفائدة هو ما سيقتل الاقتصاد الأميركي؛ وبالطبع معه الاقتصاد العالمي؛ لكون “أميركا” مركز الاقتصاد العالمي والسوق المالية اليوم.

لذا يقول الاقتصادي الأميركي؛ “جوزيف ستيغلتز”، إن “الفيدرالي الأميركي” يقتل الاقتصاد برفع أسعار الفائدة؛ لأن رفع السعر يعني قدرة أقل على الاستثمار في العديد من مجالات احتياج الاقتصاد اليوم، إذ يحتاج العالم اليوم للمزيد من الغذاء مثلًا، لأن ارتفاع الأسعار ناتج من انخفاض المعروض من الغذاء، ولكن رفع سعر الفائدة يعني قدرة أقل على الاستثمار في إنتاج المزيد من الغذاء، وهو ما يعني تعميق مشكلة العرض لا حلها، ورغم أن رفع أسعار الفائدة قد لا يؤثر في عرض الطاقة في العالم؛ فإنه أيضًا لا يُساعد في حل المشكلة.

ويقترح “ستيغلتز” على الحكومة الأميركية القيام بإجراءات تتدخل بجانب العرض حصرًا، ويذكر مثلًا برنامجًا ترغب إدارة الرئيس الأميركي؛ “جو بايدن”، بتطبيقه، وهو سيُساعد في توفير مساعدةٍ للعديد من الأمهات في تربية أطفالهن؛ ما يسمح بعودتهن لسوق العمل، ومن ثم معالجة جزء من مشكلة جانب العرض، عن طريق توفير عرض أكبر من العمال في الاقتصاد.

ويمكن توسيع نظرة “ستيغلتز” إلى مجال الطاقة أيضًا؛ فقد يكون أمام الغرب اليوم خياران، الأول: ما تُحاول الدول الغربية فعله بالفعل من ضغط على دول منظمة (أوبك) لرفع إنتاجها من “النفط”؛ لتعويض أي نقص من “النفط الروسي”، وربما أيضًا إيجاد بدائل عن “النفط” بشكل عام، والثاني: إزالة العقوبات على “روسيا” ليعود “النفط الروسي” بشكل طبيعي للسوق وتُعالج المشكلة، ولكن هذا الخيار لا يبدو منطقيًّا اليوم لاعتبارات سياسية.

ويمكن لـ”الولايات المتحدة” أيضًا أن ترفع إنتاجها من “النفط”؛ لكن المشكلة أن ذلك يحتاج لضخ استثمارات ضخمة جدًّا، وتخشى هذه الشركات ألا تظل أسعار “النفط” مرتفعة لفترة طويلة تسمح لها بجني فوائد إنفاق استثمارات على رفع إنتاجها من “النفط”؛ علمًا بأن “النفط الأميركي” يحتاج إلى كلفة أعلى لإنتاجه مقارنة بـ”النفط السعودي” – مثلًا، ما يعني أن انخفاض أسعار “النفط” لاحقًا، ولو إلى مستويات مرتفعة نسبيًّا، سيعني خسارة هذه الشركات استثماراتها.

ماذا عن رفع سعر الفائدة في الدول النامية ؟

كل ما سبق ينطبق بالدرجة الأولى على الدول المتقدمة لا الدول النامية؛ مثل دول منطقتنا، فبينما تُثبت دول مثل: “السعودية، والإمارات، وقطر، والبحرين والأردن”؛ عُملتها لـ”الدولار”؛ ومن ثم فهي مرغمة على رفع سعر فائدتها بنسبة ارتفاعها في “الولايات المتحدة” نفسها، فإن “مصر” و”تركيا” مثلًا عندهما مرونة أكبر بسبب عدم تثبيت عملتيهما رسميًّا لـ”الدولار”.

ومع ذلك رفع “البنك المركزي المصري” سعر فائدته: 1%، في آذار/مارس 2022، بعد أن رفع “الفيدرالي الأميركي” سعر فائدته بنسبة: 0.25%، ثم عاد ورفع سعر الفائدة بنسبة: 2%؛ في شهر آيار/مايو 2022، بعد أن رفع “الفيدرالي” سعر فائدته بنسبة: 0.5%، لمحاولة التغلب على التضخم ودعم قيمة العُملة.

ويرتبط سعر العُملة بشكل وثيق بسعر الفائدة؛ وبينما لا تحتاج الدول ذات العُملات الصعبة لرفع سعر فائدتها لتقوية العُملة، تحتاج الدول ذات العُملات الأضعف لفعل ذلك، فسعر الفائدة يجذب الأموال من الخارج للاستثمار، وهو ما يعني طلبًا أكبر على العُملة المحلية؛ ومن ثم ارتفاع قيمتها، خصوصًا إذا ما كان سعر الفائدة الحقيقي؛ (سعر الفائدة – التضخم)، موجبًا ومرتفعًا، وهو ما كانت الحال عليه في “مصر”؛ في عام 2021؛ إذ كان سعر الفائدة الحقيقي في “مصر” هو الأعلى في العالم، قبل بدء ارتفاع التضخم الذي جعل سعر الفائدة الحقيقي سالبًا في “مصر”.

ويعني انخفاض قيمة العُملة في بلد تستورد أكثر مما تُصدر مثل “مصر” أن سعر المستوردات سيُصبح أعلى، ومن ثم سترتفع أسعار الكثير من المنتجات؛ لأن كثيرًا من المستوردات يدخل في تصنيع المنتجات المحلية، ولأن “النفط” الذي ارتفع سعره يدخل في إنتاج كل شيء في الاقتصاد، وكذلك بحكم الاعتماد الكبير على “القمح” الذي ارتفع سعره مؤخرًا أيضًا.

وطبعًا تُجتذب الأموال الخارجية عن طريق سعر الفائدة المرتفع على شكل ديون؛ وهو نموذج يعتمد عليه الاقتصاد المصري اليوم للاستمرار وتحقيق معدلات النمو، وبدون هذه الأموال الخارجية سيُعاني الاقتصاد المصري في توفير التمويل اللازم لموازنة الحكومة ودفع فاتورة المستوردات الخارجية، وستضطر “مصر” لاستنزاف احتياطاتها من العُملة الصعبة، وقد يؤدي ذلك نهاية إلى أزمة اقتصادية شديدة في البلاد.

ويمكن القول إن اعتماد سياسة أسعار فائدة مرتفعة في “مصر” يقتل الاقتصاد أيضًا، ولكن بشكل مختلف عن “الولايات المتحدة” مثلًا، وخصوصًا لأنه يهدف لتحقيق آليات مختلفة؛ وإن كانت تصب في النهاية في النتيجة نفسها، فهذا الاعتماد مرتبط بالاعتماد على الديون في إدارة الاقتصاد، ودوامة الديون هذه قد تُهدد الاقتصاد المصري مستقبلًا بمشكلات خطيرة؛ مثل ارتفاع تكلفة الفوائد التي سيدفع ثمنها المواطن المصري من ضرائبه، أو من تخفيض الدعم الاجتماعي على سلع كثيرة.

وكذلك لا تستطيع “مصر” التدخل في جانب العرض من الخارج، كما أن خياراتها محدودة في مسألة الغذاء وتحقيق الإكتفاء الذاتي منه أيضًا، لكن تغيير النموذج الاقتصادي في “مصر” قد يكون ضرورة ملحة اليوم وفي المستقبل، خصوصًا مع انكشاف الاقتصاد المصري بشكل كبير أمام المخاطر الخارجية، وهو ما كشفته أزمة “أوكرانيا” الأخيرة بالذات.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة