18 أبريل، 2024 10:26 ص
Search
Close this search box.

“العنف الأسري – العنف الاجتماعي” .. دراسة تكشف نقاط ضعف المجتمع الإيراني !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : ترجمة – د. محمد بناية – د. محمد سامي :

العنف الأسري هو تلكم الظاهرة التي قد أُجريت بشأنها العديد من الأبحاث؛ خلال السنوات الأخيرة.. وتفيد عدد من تلك الأبحاث أن العوامل الفردية أو المشاكل الخاصة؛ الناجمة عن الظروف الاجتماعية والأسرية لا تلعب دورًا مؤثرًا بشكل كبير في إيجاد هذه الظاهرة، بل يؤثر الهيكل الاجتماعي على ظهور العنف، بشكل أكبر من تأثير العوامل الفردية على خلق ممارسات العنف. ويرتبط العنف الأسري بعلاقة واضحة مع الهيكل المجتمعي.

وتزداد إمكانية بروز العنف الأسري، حال وجود عنف هيكلي داخل المنظمات والمؤسسات الاجتماعية، وفي الوقت نفسه يبعث العنف الأسري على دعم وتقوية معايير العنف الاجتماعية.

وتعرض هذه المقالة، (والتي كتبها شهلا إعزازي)، التي اُعدت استنادًا إلى دراسة نوعية بخصوص العنف الأسري في “إيران”، لتلكم المجموعة من الخصوصيات الاجتماعية التي تزيد من وتيرة العنف الأسري.

تُشير هذه المقالة، المستندة على بحث نوعي قد أُعد حول العنف الأسري في “إيران”، إلى مجموعة من الخصائص الاجتماعية التي تزيد من وتيرة العنف الأسري.

ونوعًا ما يتبلور الهيكل الاجتماعي على نحو يحدث فيه العنف بشكل واضح وكظاهرة طبيعية؛ ويُطلب إلى النساء تقبل هكذا وضع. ويبعث تقبل هذه الأجواء المعيشية على ألا يعرف الأبناء الذين يدخلون هذا المجتمع بديلاً عن التوسل بالعنف في للتناقضات الاجتماعية والأسرية، ويدعمون بممارساتهم معايير العنف الاجتماعية.

المقدمة

لفتت ظاهرة العنف الأسري الاهتمام في الدول الغربية، قبل نحو ثلاثة عقود. وانطلقت بداية دراسات العنف بمقالة “هنري كامب”، عام 1962م، والتي كتبها استنادًا إلى مشاهداته السريرية للأطفال الذين تعرضوا للضرب داخل الأسرة ونقلوا إلى المستشفى.

شرع “كامب”، في هذه المقالة؛ بوصف الأعراض المميزة القابلة للتشخيص عند الأطفال، من مثل نوع الكسور، والحروق، وسائر الإصابات. وأكدت هذه المقالة للمرة الأولى على وجود عنف من الوالدين.

واستغرق الأمر طويلاً منذ نشر هذه المقالة وحتى البدء في الأبحاث المنظمة عن العنف الأسري، لكن تدريجيًا سعت بعض الشخصيات المختلفة في السبعينيات إلى وصف هذه الظاهرة. وكان هؤلاء في البداية ممن كانوا يتعاملون مع العنف الأسري بطبيعة عملهم، مثل عناصر تقديم الدعم والاستشارة في المدارس، والأطباء وكوادر التمريض، وكذلك أفراد الشرطة وعلماء الجريمة الذين سعوا إلى معرفة وتحديد العوامل المؤثرة في بروز تلكم الظاهرة. وتدريجيًا التفت حركات حقوق المرأة والطفل أيضًا إلى تلكم الظاهرة، وعملوا على لفت انتباه الرأي العام عبر الاجتماعات، والخطب، والمسيرات، والتجمعات الأخرى. وطلبوا إلى الحكومة إجراء تعديل على القوانين لصالح ضحايا العنف الأسري ودعم هؤلاء الضحايا. وقد تسببت أنشطة المهتمين بالموضوع، في الاهتمام المتزايد بتلكم الظاهرة في معظم دول العالم الحالي. فضلاً عن التفات المنظمات الدولية أيضًا بالعنف الأسري، ودعوة الدول الأعضاء للتصدي للعنف.

وقبل بضع سنوات، لم يُكن ينظر في “إيران” للعنف الأسري أساسًا باعتباره ظاهرة اجتماعية. اللهم إلا من بعض حالات العنف الأسري الشديدة التي نشرتها الصحف، لكن في العادة كان العنف يُعتبر سلوك فردي شاذ، وإذا أجريت المناقشات بشأنه، فكانت لأجل استيضاح علل ممارسات العنف الفردية.

وبقي الحال هكذا حتى قبل بضعة أعوام، وبالنهاية حظيت هذه الظاهرة باهتمام المنظمات والأوساط العلمية، ويمكن تسمية ما عُقد من ندوات، وخطابات، بل الاجتماعات بهدف البحث والتصدي للعنف الأسري. ويتطلب الإلتفات إلى العنف، والسعي للتصدي له ضرورة إعداد الأبحاث حول العنف. ويواجه إعداد الأبحاث في مجال العنف مشاكل عديدة، وتزداد هذه المشكلات صعوبة في “إيران” بسبب انعدام المعلومات الإحصائية، وغموض التعداد السكاني، وإشكالية الوصول إلى الأشخاص، وكذلك عدم وجود أبحاث أخرى، وهذا الأمر فرض ضرورة إعداد الأبحاث.

وقد شهد العام 1998م؛ إجراء بحث نوعي عن النساء اللائي تعرضن داخل الأسرة للضرب من أزواجهن. وسعت هذه الدراسة، التي اعتمدت المحادثات الشخصية المطولة في التعرف على سمات الرجال والنساء المرتبطون بمثل هكذا علاقة، وكذلك من أهداف الدراسة مسار تبلور العنف، وتصنيف أنواع العنف، وتحليل المعلومات الموجودة. وفي الوقت نفسه، كان من الأهداف الأخرى للدراسة الإلتفات إلى منظمات الرقابة والداعم التي تتمتع بإمكانية مراقبة سلوك العنف داخل الأسرة، أو يمكنها دعم النساء وحمايتهن. وسيتم الإشارة في هذه المقالة إلى العلاقة بين العنف والمنظمات الاجتماعية.

العنف الأسري.. التعاريف والنظريات

كان الهدف في المراحل الأولية لأبحاث العنف، التي كان يقوم بها في العادة أفراد كانوا على اتصال بضحايا العنف بطبيعة عملهم، هو الحصول على المعلومات الضرورية عن ملف العنف. وتوصلوا تدريجيًا إلى تعاريف، وتصنيفات ونظريات عن العنف مع زيادة الأبحاث.

بدأت أبحاث العنف بأبسط الأشكال وأكثرها وضوحًا، أي العنف الجسدي (البدني) تجاه الأطفال. وتبين في تلك الأبحاث ضرورة التمييز بين نوعين من العنف الجسدي.

عنف جسدي شديد (صعب)؛ يتسبب بإحداث إصابات وصدمات خطيرة بالضحية، وعادةً يرفض الرأي العام مثل هذا النوع. وعنف بسيط (ملائم) كالصفعة، والضرب بظهر اليد وأمثالها، وعادة ما يصنفها الرأي العام تحت عنوان التربية، ولا يُنظر إليها بنظرةٍ سلبية.

وتدريجيًا اتضحت كذلك أنواع العنف الأخرى، وهي أنواع وإن لم تتسبب في إصابات جسدية، لكن تأثيرها على الضحية قد يزيد حتى عن العنف الجسدي. وطرحوا للبحث العنف النفسي (الإهانة، السب، محو الثقة في النفس)، والعنف الاقتصادي (وضع الضحية في ضائقة مالية دائمة)، والعنف الاجتماعي (العزلة الاجتماعية، والحيلولة دون إقامة علاقات اجتماعية).

ثم التفت الباحثون إلى الاعتداءات والاستغلال الجنسية. وكانت مقولة الاعتداء الجنسي مقصورة في البداية على من هم دون الثامنة عشر عامًا، لكن تدريجيًا شملت أي علاقة جنسية مع طرف آخر على غير رغبته. وأطلق الباحثون، (مع الأخذ في الاعتبار لتعلق الأطفال بالأسرة)، على المعاملة السيئة وإهمال الأطفال، أي عدم توفير الوسائل اللازمة لحياة الأطفال، اسم العنف أيضًا.

ولأن أنواع العنف البدني من أبسط أنواع العنف؛ يعمل أغلب الباحثون حتى اليوم في هذا المجال، وترتبط التعاريف الأولية التي قدموها للعنف بشكل كبير بالعنف البدني. وقد قدم “استراوس” و”غولز”، وهما باحثين عملا مدة سنوات في مجال العنف الأسري، تعريفًا لتلكم الظاهرة. وعرفا العنف بسلوك معروف الغرض (أو غير معلن الغرض لكنه مفهوم)، لإلحاق الضرر البدني بشخصٍ آخر. (غولز واستراوس، 1979: 534).

وقد قصد في هذا التعريف العنف البدني. ويعتقد “ماغارجي”، باحث آخر يعمل في مجال العنف، أن تعريفه سوف يشمل أنواع أخرى للعنف، (خاصة أنواع العنف النفسي). وقد أطلق على العنف باعتباره شكلاً متطرفًا اسم السلوك العدواني، الذي قد يبعث على إلحاق الأذى الواضح بالضحية. (ماغارجي، 1981: 85).

ولا يكفي تقديم التعاريف المختلفة فقط لإجراء البحث، بل لابد أيضًا من بحث هذه الظاهرة عن طريق تقديم النظريات التي تسعى لتحديد العوامل المؤثرة في ظهور العنف. وفي الأبحاث الأولى، أنصب اهتمام الباحثين على العوامل الفردية المؤثرة على العنف، عوامل مثل: “العدوانية العامة” أو “حالات الشذوذ النفسي”. ويصعب بشدة تحديد العلاقة بين الخصائص الشخصية وسلوك العنف، نظرًا لأن الأبحاث المتعلقة بالعنف عادة ما تكون بعد الحدث. ولا يمكن تحديد ما إذا كانت العوامل الشخصية هي سبب ظهور العنف، أو العكس، حيث أثر سلوك العنف على شخصية الفرد وبلور خصائصه الشخصية.

والأبحاث الأخرى التي أولت اهتمامًا لأسباب أخرى محددة: كالطبقة الاجتماعية، والعرقية، والقومية، وكذلك الثقافات المختلفة، لم تحدد كذلك سببًا معينًا. على العكس، تؤشر نتائج الأبحاث إلى انتشار العنف الأسري في المجتمعات، ويظهر بين جميع الطبقات الاجتماعية والثقافات الفرعية المختلفة، ولا تدخل عوامل أخرى كالضغوط والتوتر الاجتماعي أو الأزمات الأسرية في ظهوره؛ لأن العنف لا يظهر فقط بين الأُسر ذوي الإشكاليات، بل يوجد أيضًا بين الأسر التي تنتمي للطبقات المتوسطة والعليا ذات الأوضاع الاقتصادية والعلاقات الأسرية التي تبدو جيدة ولا تعاني أي مشكلة اجتماعية أو أسرية.

تسببت نتيجة هذه الأبحاث في تعقب الباحثين لأسباب أخرى غير العوامل الفردية والاجتماعية، واتجهت الأنظار تدريجيًا صوب العلاقة بين الهيكل المجتمعي والعنف الأسري، وطرحوا النظريات المختلفة للنقاش مع فرضية: إذا كان بالمجتمع مؤسسات اجتماعية ذات تسلسل هرمي خاص وتنظيمها غير ديمقراطي، فسوف تتبلور سلوكيات اجتماعية على نحو يجعل المجتمع يحول دون تكامل الأفراد، أي إمكانية تحقيق قدراتهم الفردية بشكل واقعي. وسوف تبعث السلوكيات الاجتماعية في هذه المجتمعات بطريقة ما على حرمان أفراد المجتمع من المساواة في الحقوق وما شابه بأشكال مختلفة. وسوف يؤدي التسلسل الهرمي في الهيكل المجتمعي والمنظمات والمؤسسات الاجتماعية إلى احتدام وتيرة سلوكيات العنف في المجتمع (والأسرة).

يوضح “غالتونغ”، في تعريف شامل للعنف؛ مع مراعاة البناء المجتمعي والعنف: “عندما نذكر العنف، فإن من يقعون تحت تأثيره يعتقدون أن قدراتهم البدنية والنفسية أقل من قدراتهم الحقيقية”. (غالتونغ، 1975: 4 – 15)، وهو بهذا التعريف يطرح تصنيفات جديدة للعنف. ومن وجهة نظر “غالتونغ”، يمكن تصنيف العنف إلى الشكل التالي:

– العنف الهادف في مقابل العنف غير الهادف.

– العنف الواضح في مقابل العنف الخفي.

– العنف الفردي في مقابل العنف الهيكلي.

– العنف الجسدي في مقابل العنف النفسي.

– العنف الموجه للضحية في مقابل عنف بلا ضحية.

في العنف الفردي، عادة ما يُعرف مرتكب العنف ويكون معلومًا، لأنه سلوك عنيف موجه للضحية، ويُنفذ بشكلٍ واضح، ويتسبب في إصابات جسدية وغيرها من أنواع الإصابات الأخرى للضحية. في حين أن سلوكيات العنف الهيكلي تحدث عادةً بشكلٍ غير معلن، ولا يُمكن تحديد شخص بعينه باعتباره مرتكب العنف، ويكون ارتكاب العنف بشكل غير مباشر على عكس العنف الفردي. ويمكن مشاهدة المظاهر الخارجية للعنف الهيكلي فقط في صورة تقسيم غير متكافيء للسُلطة، وتقسيم غير متكافيء للفرص الحياتية، وليس في صورة إصابات جسدية. وكلاً من النوعين، (الهيكلي والجسدي)، يؤثر على الآخر، ويقوي كلاً منهما الآخر. فالهدف من كلاهما التأثير على الأشخاص بغرض الحد من قدرات الشخص، بحيث تترتب عليه آثاره المطلوبة منه.

وطرأت تغييرات على مفهوم وتعريف العنف بعد الأبحاث التي أُجريت، إذ تؤكد أغلب النظريات التي تًطرح في علم الاجتماع على العلاقة بين العنف الأسري والهيكل الاجتماعي. على سبيل المثال، ففي نظرية التعلم الاجتماعي التي تسعى لبيان استشراء سلوك العنف داخل الأسرة عن طريق المشاهدة أو تجربة العنف، تؤكد من جهة على تجارب أبناء الأسرة ومراقبة سلوك العنف، وتطرح من جهة أخرى ما في الأسر من اختلافات في التنشئة الاجتماعية بين الجنسين، والتي تبعث بدورها على تنشئة الفتيات والأولاد بمعايير اجتماعية مختلفة، ويعرف كلاً منهما الدور الخاص بنوعه، وهو دور يقترن بالنسبة للفتيات بالخضوع، والتعلق بالآخر وتقبل العنف. والذكور كذلك يعرفون الدور الخاص بنوعهم، وهو يقترن بالتفوق، والاستقلال، والسماح لهم بالقيام بسلوك العنف. يزيد تعليم الأطفال داخل الأسرة المصحوب بالتنشئة الاجتماعية المختلفة للجنسين عبر الهيكل الاجتماعي للمجتمع، (حيث لا توجد موانع أخلاقية واجتماعية لممارسات العنف)، من تقوية واحتمالات ممارسات العنف. دعم أسلوب العنف واحتمالية وقوعه؛ وذلك من خلال البناء الاجتماعي للمجتمع. (استراوس، 1980م).

كذا تؤكد نظرية الرقابة الاجتماعية على علاقة “المجتمع-الأسرة”، وتبين سبب سلوك العنف على النحو التالي: “ليس المجتمع فقط الذي يسمح بالعنف، بل طالما تُطرح الأسرة في المجتمع كنطاق خاص، فلن تستطيع الدولة مراقبة سلوك الأفراد داخل هذا النطاق الخاص”. (غولز واستراوس، 1988م). والرؤى الاجتماعية للأسرة على هذا النحو، القبول بالتقسيم الخاص بموجب الجنس، وكذلك فقد تحدد دور المرأة والرجل. فلا ينبغي أن تتبع النساء (وكذا الأطفال) سلوكًا يتماشى ورغبة الشخص القوي بالأسرة؛ لأنهم سوف يجبرونه في هذه الحالة على القيام بسلوك عنف. بعبارة أخرى، يتعين على النساء والأطفال أن يسلكا ما يطابق هوى الرجل؛ حتى لا يظهر العنف داخل الأسرة. هذه النظرة المقرونة بانعدام رقابة الدولة على نطاق الأسرة الخاص، الأسرة تُتيح للرجال سلوك العنف. (غرين ورفقائه، 1987: 80).

وهناك رؤى أخرى تبحث التنسيق بين القيم الأساسية للمجتمع والعنف، فالرجال الذين يتبعون مسلك العنف داخل الأسرة، هم أشخاص يعيشون في بيئات “ثقافية-اجتماعية” خاصة، تعتبر سلطة الرجال على النساء أمرًا طبيعيًا، وفيها تُطرح العدوانية والعنف كخاصية للرجال، والخضوع خاصية للنساء. ولو تعرض النظام الاجتماعي في مثل هذا المجتمع للخطر، فسوف يتبنى استخدام العدوانية والعنف من أجل ترسيخ النظام مجددًا سواء على المستوى الكلي (المجتمع)؛ أو على المستوى الصغير (الأسرة)، باعتباره حلاً مشروعًا ومسموحًا.

وعليه، حين يستخدم من يحتكر السُلطة سواء في المجتمع أو الأسرة، العنف، فإنه يُجبر الآخرين على التصرف وفق رغبته، ولن يشعر بالإزعاج والندم، بل على العكس، سوف يشعر بسبب الشرعية الناجمة عن المعايير الثقافية، (التي اكتسبت سلوك العنف)، أنه محق. (ستاين متز، 1977م، جيل، 1970م).

ومن منظور الحركات النسوية، التي تعتبر سلوك العنف بالأساس، بمعنى عنف الرجال إزاء النساء والأطفال، فالسبب الرئيس للعنف هو الهيكل الاجتماعي للنظام الأبوي في المجتمع، والذي يمكن مشاهدته في التسلسل الهرمي الموجود بالمنظمات والمؤسسات الاجتماعية وكذلك في العلاقات الاجتماعية للأفراد. ويعتبر هذا التسلسل الهرمي الرجال أعضاء متفوقون بالمجتمع، والنساء عضوات أقل شأنًا بالمجتمع. وقد حظيت الأيديولوجيات التي تروج في المجتمع، والتأكيد على مشروعية تفوق مكانة الرجال، وعدم المساواة الاجتماعية بين المرأة والرجل، بقبول كلال الجنسين. (دوباش، 1979م).

ويرى منظرو النسوية، لا يمكن اعتبار العنف الأسري فقط كظاهرة، موجودة في العلاقة بين امرأة ورجل، بل طالما كان العنف الأسري انعكاسًا للنظام الاجتماعي الأبوي؛ فلابد من تصنيفه ضمن قالب سيادة عموم الرجال على عموم النساء. وهو النظام الذي وُجد سواء في شكل تاريخي أو تطبيقي، ولايزال موجودًا حتى الآن.

ويعتقد “مارتين”، (1985م)، وهو باحث آخر في مجال العنف الأسري، أن المجتمعات التي تشكلت هياكلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية على أساس إهمال النساء وإهانتهن واستغلالهن، يكون فيها عنف الرجال ضد النساء أسلوب حياة.

وأحد النتائج المهمة المستخلصة من أبحاث العنف الأسري هي أن العلاقات العنيفة داخل الأسرة لا تؤثر على الشخص فقط بل تؤثر على المجتمع أيضًا. ويستعرض “فينكل هور”، (1988م)، في أبحاثه المتعددة، نماذج محددة للمشاكل الفردية والاجتماعية الناجمة عن العنف الأسري. بعض هذه المشاكل على النحو التالي :

الإيذاء الذي يؤدي في شكله الحاد للنقل إلى المستشفى، أحد أهم مشكلات تعرض أفراد الأسرة للإيذاء. لكن ضحية العنف يعاني المشاكل أيضًا في علاقاته الاجتماعية. وعادةً ما يتراجع أداء وكفاءة هؤلاء الأفراد داخل بيئة العمل، ويُلاحظ عليهم سلوكيات عدوانية أو حالات اكتئاب. وتزداد رغبتهم للممارسات المنحرفة، وتعاطي المخدرات، بل والرغبة في الانتحار أكثر من الآخرين، ويفتقرون في الحياة الأسرية للسلوك الاجتماعي المناسب.

وقد أثبتت الأبحاث المتعددة أن الشخصيات العنيفة كانت ضحية أو تعرضت للعنف في فترات الطفولة. وبالتالي فالعنف الأسري لن ينتهي بشخص، ولكن الضحية تتبنى نفس السلوك بعد التقدم في العمر وتكوين أسرة، وتستخدم نفس الأسلوب داخل الأسرة في حل النزاعات والتوترات الأسرية، وهي الظاهرة التي يسمونها في علم الاجتماع، بـ”دورة العنف”. والهيكل المجتمعي الذي يتقبل المعايير المتعلقة بالعنف، ويتحمل سلوك العنف، يتسبب في تقوية العنف الأسري ودورته من جيل إلى جيل آخر.

العنف الأسري في إيران

التفت المسؤولون، في السنوات الأخيرة، إلى ظاهرة العنف الأسري، وسعوا للحد منها ومساعدة الضحايا ودعمهم. مع هذا، فإن عدد الأبحاث في هذا الشأن معدودة. وتُعرض الموضوعات التالية مع الأخذ في الاعتبار لنتائج أحد الأبحاث المتعلقة بالنساء اللاتي يتعرضن للضرب من أزواجهن، والتأكيد بشكل أكبر على رد فعل منظمات الداعم والرقابة حيال مطالب النساء.

في هذه الدراسة، التي اعتمدت الأحاديث المتعمقة مع النساء المترددات على مراكز استشارات الرعاية الاجتماعية في “طهران”، لوحظ تفاوت كبير بين النساء من حيث الخصوصيات الفردية.

من حيث العمر، كانت النساء في فئات عمرية مختلفة، وتأرجحت الأعمار بين 20 – 50 عامًا فما فوق، وإن كان أغلبهن في الفئة العمرية 30 – 40 عامًا. واختلفت أعمارهن عند الزواج وشملت الزواج المبكر، (تحت14 عامًا)، وحتى الزواج في المرحلة العمرية 30 – 40 عامًا. والغالبية تزوجن في المرحلة العمرية 18 – 25 عامًا (47%). كما اختلفت مدد الزواج وفقًا للعمر عند الزواج والعمر أثناء المحادثة. فكانت المدة بالنسبة لبعض النساء أقل من عام، وبالنسبة للبعض الآخر 20 عامًا. وتراوحت فترة الزواج بالنسبة للأغلبية بين 10 – 20 عامًا.

كذا كان هناك تفاوت كبير بين النساء من حيث مستوى التعليم، من الجاهلات وحتى المتعلمات تعليمًا جامعيًا وحاصلات على شهادة الليسانس، فقد بلغ نصف النساء (51%) تقريبًا المستوى الثانوي، وحصل النصف الآخر (49%) على الدبلوم ومستوى تعليم عالي والليسانس. والمثير للتعجب بالنسبة لأولئك النساء، ارتفاع النسبة المئوية للعاملات. فقد كانت نسبة 44% منهن موظفات أثناء المحادثة، وكن يعملن بشكل عام معلمات وموظفات. وكانت للمرأة العاملة عائد مالي من العمل، أما الآخريات فقد امتلكن أيضًا عوائد مالية بدون عمل. بشكل عام امتلك نصف النساء مصدر عوائد مالية خاص بهن، لكن صُنفت عوائدهم ضمن فئة المتوسط والقليل.

كما كانت الخصائص الفردية للأزواج مناسبة للنساء. فقد تزوج معظم الرجال في المرحلة العمرية 20 – 25 عامًا (47%)، وإن كان الفارق العمري بين المرأة والرجل كبير جدًا في حالات معدودة، لكن في العادة تراوح الفارق العمري بين 5 – 10 أعوام. ولم تكن هناك زوجة أكبر سنًا من زوجها. كذا كان هناك تفاوت في مستوى الرجال التعليمي كما النساء شمل الجاهل وحتى المستويات التعليمية الأعلى. لكن أعلى شهادة دراسية للرجال كانت تفوق النساء، ففي العينة محل الدراسة، وجد رجال حاصلون على شهادة الدراسات العليا في مجال (الهندسة، والعلوم السياسية، وكذلك الدكتوراه والطب). لكن كان تفاوت الرجال في مستوى الدبلوم فما فوق يشبه النساء. فكان وصل حوالي نصف الرجال (53%) إلى مستوى التعليم الثانوي، وحصل البقية على الدبلوم فما فوق. بالنسبة للعمل، فكانت وظائف الرجال تتأرجح بالنظر إلى المستوى الدراسي ما بين العالي جدًا والمتدني. فكان (1⁄3) الرجال موظفون في مستويات وظيفية عالية، وتوزع البقية على مستويات العمالة والقيادة وكذلك الأعمال الحرة في المستويات المختلفة (من معرض سيارات حتى السمكري). واشتمل النموذج أيضًا على عدد معدود من الرجال العاطلين عن العمل أيضًا (شخصان). وقد خمنت نصف النساء تقريبًا متوسط عوائد أزواجهن المالية، بينما تساوت البقية في تقدير عائد الأزواج بشكل كثير أو قليل وقليل جدًا.

وبالنظر إلى تعلم سلوك العنف في مرحلة الطفولة، فقد سُئلت الزوجات عن تجربة العنف في أسرة الأب. فقال (1⁄3) الزوجات تقريبًا إنهن لا يتذكرن مرحلة الطفولة، أو بانعدام الضرب في أسرهن، بينما لم تعاني البقية تجربة العنف فقط، بل وصفن مرارًا ظروف حياتهن الأسرية بالسيئة والسيئة جدًا لدرجة أن العديد من الزوجات قلن إنهن كن على استعدوا للزواج هربًا من ظروف حياتهن الأسرية. كن يتعرضن للضرب من الجميع في أسرة الأب، وكانت الشجارات الأسرية جزء من حياتهن اليومية، لكن الغالبية تعرضن للضرب من الأم، وبحسب أقوال النساء فلم يتعرضن للضرب من الأم فقط بل إن أمهاتهن كن يحببن ذكور الأسرة أكثر منهن، وكن يتعاملن مع الذكور بشكلٍ مختلف، وكن يولين اهتمامًا أكبر بالذكور في الطعام والملبس والترفيه.

ويُشكل مجمل ما تحدثت به النساء اللائي كن على علم بالظروف الحياتية لأزواجهن، إلى الظروف الحياتية السيئة جدًا التي نشأ فيها الرجال. حيث تعرض الرجال في أسرهم للضرب مرارًا من الآباء والأمهات، وتعرضوا للطرد من المنزل، وأجبروا على العمل سريعًا، وعاشوا ظروف حياتية قاسية جدًا. ويختلف الرجال عن النساء في تبني بعض هؤلاء الرجال بعد البلوغ، العنف اللفظي والجسدي في مواجهة سائر أفراد الأسرة (الشقيقات والأشقاء الأصغر)، وكذلك أمام الوالدين.

وقد ظهرت ممارسات العنف بشكل مبكر جدًا في الحياة النساء الأسرية. وبخلاف النساء اللائي تعرضن للعنف في فترة الخطوبة، فقد كانت بداية العنف لما يقرب من (¼) الزوجات في نفس ليلة الزواج، و(¼) الآخر في الأسبوع الأول للزواج. أي أن نصف الزوجات تعرضن للعنف البدني القاسي من أزواجهن في الأسبوع الأول، والسبب الرئيس كان المشاكل الجنسية أو الاقتصادية المتعلقة بحفل الزفاف وتكاليفه.

ويتنوع عنف الرجال حيال زوجاتهم والذي كان قد بدأ مع بواكير الزواج بين العنف الجسدي وأنواع العنف الأخرى. ورغم معاناة الكثير من النساء هذه الظروف طوال سنوات، إلا أنهن لا يمتلكن رؤية خاصة لسلوك أزواجهن العنيف. وعادة ما تعتبر النساء ظروف حياتهن الأسرية أمرًا طبيعيًا، ويعتقدن أن الجدال والخلاف جزء من الحياة الزوجية، وموجود في كل الأُسر، رغم أنهن في حالات العنف الشديد، والتعرض للإصابات الجسدية، كن يشعرن بالإستياء أو البغض حين لا يستطعن تحمل سلوك الزوج وينتقلن إلى بيوت آبائهن، ومع هذا يبررن سلوك الأزواج. تبرير الزوجات عادة يكون انعكاسًا لخصوصيات الرجال الخاصة التي لا يمكن تغييرها. على سبيل المثال، أعتقدت الزوجات أن أزاجهن يظهرون هكذا رد فعل عندما يشعرون بالغضب، بل حتى أشرن في بعض الحالات إلى حالته النفسية. هذه الخاصية “الشخصية-النفسية” لم تقبل التغيير من وجهة نظر الزوجات، بل كن يبررن تصرف الزوج بأن عدم تصرف النساء بما يطابق رغبة أزواجهن؛ يبعث على تحفيزهم ويدفعهم إلى ضربهن.

وبناءً على إعتقادهن بالتقصير؛ كن يبررون نوعًا ما سلوك الزوج. وهذه النظرة التي هى نتاج تجارب الحياة الماضية ومتابعة الحياة الأسرية لأقاربهن، والمدعومة بالرؤى الاجتماعية إنما تبعث على أن تعتقد الزوجات بتقصيرهن في سلوك الزوج غير الطبيعي، وأن يعملن على تغيير سلوكهن.

تضطر الزوجات المتعرضات للضرب، بغض النظر عن كيفية تفسيرهن وتبريرهن لأسباب عنف الزوج، إلى تحمل هذه الظروف القاسية. فقد تعرفن على ظروف الحياة القاسية من خلال التنشئة الاجتماعية في أسرتهن المنحاذة (الأبوية)، ويتابعن أيضًا هذا النمط من الحياة فيمن حولهن، وتزيد الرؤى الاجتماعية من قوة اعتقادهن في تفوق الرجال عليهن وأن الفظاظة أيضًا واحدة من صفات الرجال. وينبغي على النساء الاستمرار في حياتهن الأسرية مع تحمل سلوك الرجال أو تغيير سلوكياتهن، وأن يحافظن على ظل الزوج والأب على رؤوسهن وأبنائهن.

المجتمع أيضًا يتقبل سلوك الأزواج العنيف تجاه زوجاتهم، ولا يحدث أي اعتراض على هذا. وقد تعرضت النساء المشاركات في الحوار للضرب طيلة حياتهن الزوجية تقريبًا في الأماكن العامة والخاصة كافة. فلم يتعرضن للضرب فقط في المنزل وبعيدًا عن أعين الآخرين، وإنما في بيت أسرة الزوج، وأسرة الزوجة، وسائر المعارف، وكذلك في الشارع، والمتجر، والحديقة، والطريق، وأماكن النزهة، وحتى أمام باب المحكمة وقسم الشرطة، ولم يتدخل الآخرون عادة في هذا الشأن. لكن لو زادت شدة الضرب عن حد معين تسمح أسرة الزوجة لنفسها بالتدخل. وهنا تجدر الإشارة إلى مفهوم خصوصية الأسرة.

للأسرة في “إيران” خصائص خاصة، والتي على أثرها تعتبر العلاقة بين الزوج والزوجة والأطفال علاقة لا تسمح للآخرين بالتدخل. فالنطاق الخاص للأسرة والعلاقات بين الأفراد لا تقتصر على محيط المنزل، بل إن خاصية خصوصية السلوك الأسري أهم من مكان حدوثه، بحيث حتى ولو يحدث السلوك الأسري في الأماكن العامة كذلك، سيمتنع الآخرون عن التدخل المباشر فيه، ويكتفون أحيانًا بالنصيحة أو النقد.

وجود المؤسسات الرقابية كقسم الشرطة والمحاكم التي تشرف على كيفية تصرف الأفراد داخل الأسرة قد تكون مساعد مؤثر للحيلولة دون وقوع العنف الأسري. في نصف حالات النساء اللائي قد راجعن قسم الشرطة والمحكمة. كان مطلب هؤلاء النساء إلى هذه المؤسسات الإشراف على سلوك الزوج، ذلكم الإشراف الذي يتم من قبل مؤسسة أو مصدر موثوق، لكن للأسف تصورت المترددات على هذه المؤسسات عدم حدوث أي شيء لصالحهن بسبب الهيكل الرجولي لتلكم المؤسسات.

الاتجاه العام لمراجعة قسم الشرطة والمحكمة يكون على نحو تراجع فيه النساء قسم الشرطة بالعادة حال تصاعد وتيرة المشاجرات والغضب. ويحبسون الزوج في قسم الشرطة بناءً على شكوى الزوجة، ثم يرسلونه صباح اليوم التالي إلى المدعي العام للتحقيق. وبما أن المناخ العام لقسم الشرطة رجولي؛ لا يلتفتون عادة إلى سلوكيات العنف الخفيف أساسًا، ويكتفون بتقديم النُصح للرجل ومصالحة الطرفين. وبالنسبة لسلوكيات العنف الشديد، يقترن حبس الزوج بالتهديد بالضرب المبرح أو يسعون لإسترضاء الزوجة، أو ترضى الزوجة شخصيًا خوفًا من قوة الضرب. واللاتي جاهدن بشكلٍ دؤوب لإيصال شكواهن، كن ينصرفن عن متابعة الشكوى وينسونها إما بسبب عدم معرفتهن بالهيكل الرسمي للمؤسسة، أو المشكلات الأسرية التي تعيقهم عن متابعة القضية، أو غيرها من الأسباب. على سبيل المثال، قالت إحداهن إن ملف زوجها اختفى في المسافة بين قسم الشرطة ومكتب المدعي العام !.. حتى اللواتي قد وصلن في محضر القاضي اعتقدن أيضًا أن القاضي لم يفهم كلامهن. وهذه المسألة قد تكون صحيحة لأنه وباحتمال كبير قلما يعبأ القانون بالمشاكل الخاصة بالنساء، بل أنه قد كُتب في الغالب من أجل ما يتعلق بمشاكل الرجال. فليس لحديث النساء وثائق قانونية وبالنهاية يصعُب على القاضي الحكم لصالح المرأة. فقد دونت أغلب القوانين على نحو يتناسب مع التسلسل الهرمي للسلطة الرجولية، وتمنح الرجال حقوق أعلى من النساء.

لم تكن للنساء محل الدراسة على استعداد للطلاق أو الانفصال وإنهاء أوضاعهم المعيشة المتعسرة، لكن كانت مراجعتهن نابعة عن رغبة في تدخل شخص ذو سلطة يجبر أزواجهن على التعامل بشكل مناسب في الحياة. وفي هذا السياق كانت مراجعتهن المراكز الاستشارية. مع هذا لا تستطيع هذه المراكز أيضًا تقديم الدعم للنساء بشكل كبير بسبب القيود التي يتعرضون لها. وتفتقر هذه المراكز الإمكانات اقتصادية لتقديم الدعم، ولا يسمح لها القانون بالتدخل في حياة الزوجة وزوجها وفقط يمكنها حل المشكلة الأسرية بالنقاش والحوار. لكن وانطلاقًا من أن الرجال نادرًا ما يرغبون في المشاركة بالجلسات الاستشارية؛ يجد الاستشاري والأخصائي نفسه فقط في مواجهة المرأة التي تعاني مشكلات الحياة. ونظرًا للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تطرأ على الزوجات في حال الانفصال؛ تسعى هذه المراكز بالعادة لإثناء الزوجة عن الانفصال، وتهدئتها، واقتراح الحوار مع الزوج ويطلبون إليها في كثير من الحالات التحمل وتغيير سلوكها بما يتناسب مع متطلبات الزوج.

هناك أيضًا مشاكل في المساعدات التي من الممكن أن تقدمها الأسرة إلى تلك النساء. فالكثير من الأسر التي تتبنى نظرة سلبية إزاء الطلاق، تمنع أساسًا عن أي محاولة لإنهاء العلاقات الأسرية ويعيدون بأنفسهم الفتيات إلى بيت الزوج، لكن في هذه الحالات لا تكون المعايير بمفردها. وفي أغلب الحالات تعجز أسرة والد الزوجة عن تلبية تكاليف حياة ابنتهم المعيشية.

ولا تحظى النساء اللواتي يتعرضن للضرب من أزاجهن بدعم أي مؤسسة، بل إن أسرهن تتدخل فقط في حالات العنف الشديد، وتسعى للحصول على تعهد من الزوج. وفي العادة يتوقع من المرأة تحمل سلوك زوجها أو تغيير سلوكها حتى لا تتهييء الظروف المتضاربة التي تؤدي إلى العنف. ونظرة قصيرة على حياة هؤلاء الزوجات تؤشر إلى أنهن لسن الوحيدات اللائي يعيشن ظروف حياتية غير مواتية، بل يعاني أبناءهن أيضًا من هذه الظروف الحياتية.

فكان لأبناء هذه الأسر مشاكل سلوكية من مستوى التشوهات السلوكية كالعدوانية، والاكتئاب، وعدم الاهتمام بالآخرين، وحتى السلوكيات المشوهة كالسرقة، والإرسال إلى مركز التأهيل والتربية، والإدمان وتداول المخدرات. ومن حيث الشعور فقد واجهت النساء كذلك حالات من كراهية الأبناء للأب، ووصول الأمر إلى درجة العزم على قتل الأب، وحتى كراهية الأم عند الانحياز إلى سلوك الأب، ومحاولة طردها من المنزل. ومن الممكن لهذه الظروف المعيشية الأسرية المصحوبة بالعنف أن تصيب الجيل القادم بدورة للعنف.

و في سبيل تحسين ظروف حيواتهن كانت النساء تستخدم كل الوسائل، سواء عن طريق الغضب والصلح المتكرر، مراجعة قسم الشرطة والمدعي العام، وكذلك المراكز الاستشارية، ونتيجة هذه الممارسات كانت تنتهي في العادة بتوجيه الزوجة لتحمل الظروف أو تغيير السلوك. لكن لم تكن الزوجات على استعداد للطلاق فقط، بل كن فزعات من تجسيد مستقبلهن كمطلقات. ويتضح من أسباب عدم رغبتهن في الطلاق، يكمن الإشارة إلى وجود الأولاد، وخوف الزوجة من هجر الأب للأولاد بعد الانفصال. كذاك يمكن الإشارة إلى مشاكلهم الاقتصادية التي ستترتب على الطلاق. لكن ثمة ملاحظة أخرة أيضًا وهى نظرة المجتمع إلى الطلاق. منظور بعض الأسر يُعتبر الطلاق عملاً مذموماً بشدة، واستمرار الحياة بأي ثمن أفضل من الانفصال. في الوقت نفسه، تعتقد الزوجات أن الصدمات بعد الطلاق سواء من طرف أفراد الأسرة أو من الجيران والمعارف سيكون من النوع الذي يجبرهن على الزواج مجددًا؛ لأن حياة امرأة بمفردها (خاصة المطلقة) أمر مرفوض في المجتمع. لكن لا يتصور هؤلاء النساء في الزواج مجدداً أسلوبًا آخر عن الحياة. فإذا وجب أن يتزوجن مجدداً، وأن يقعن تحت وطأة رجل آخر، ويعيشن نفس الظروف الحياتية مرة أخرى، فالأفضل الاستمرار في حياتهن وتحمل الظروف مع زوجهن الحالي ووالد أبناءهن.

النتائج

تؤكد نظريات علم الاجتماع على العلاقة “المجتمع-الأسرة” المتبادلة. ففي حال وجود قيم ومعايير العنف في المجتمع، والسماح باستخدام العنف في حل النزاعات، فسوف يبرز صدى هذه البنية في الأسرة أيضًا. وانطلاقًا من امتلاك الرجال من المنظور الاجتماعي والقانوني مرتبة أعلى من النساء والأطفال في التسلسل الهرمي الأسري؛ فسوف يستخدمون العنف بمجرد أن يظهر تعارض داخل الأسرة، وللحفاظ على مكانتهم في التسلسل الهرمي، وكذلك لمراقبة كيفية تصرف الآخرين وإجبارهم على التصرف بما يناسب رغبتهم. ولن يتعرف الأبناء أيضًا على أساليب العنف فقط، وإنما سيبلغون مع هذا المعيار الذي يجيز استخدام العنف إزاء من تربطهم بهم صلات قرابة ومودة. وسوف يستخدمون نفس الأسلوب في المجتمع وفي علاقاتهم الاجتماعية والأسرية، وبذلك سيدعمون كلاً من المعايير الأسرية والاجتماعية؛ ويتسببون في ترسيخ ودوام العنف في المجتمع.

وفي المجتمع الإيراني، فقد تم تنظيم وتنسيق الظروف الاجتماعية بشكل يحول دون تقديم أي نوع من أنواع الدعم والمساعدة للنساء التي تعاني العنف الاجتماعي؛ لأن بعض الدرجات الاجتماعية والأسرية تتيح استخدام العنف لأصحاب المكانة الاجتماعية. وتزداد هذه الإمكانية قوة سواء عن طريق القانون أو عن طريق الرؤى الاجتماعية. ويجد مرتكب العنف نفسه محقًا في القيام بمثل هذا السلوك، ويُعد ضحية العنف أيضًا هذا السلوك طبيعيًا ناتج توفق المكانة الاجتماعية. بالنهاية وبدلًا من التفكير في خطأ سلوك العنف، يُعدُ الضحية مخطأً؛ لأنه قد تصرف بما يخالف رغبة الشخص القوي. كذا لا مانع من استخدام العنف خاصة لو لم يكن شديدًا، بل يُعدُ في الغالب وسيلة لتربية الأفراد.

ومن سمات العنف الأسري في “إيران”، أن يعتبر العنف السلوكي مجازًا؛ لأنه لا يوجد نهي اجتماعي خاص بشأن سلوك أفراد الأسرة العنيف تجاه بعضهم البعض، ويحتل مكانه غالبًا في مقولة التربية. العنف أمر طبيعي لما للرجال من سمات خاصة، ويستخدمون العنف بشكلٍ طبيعي إزاء مخالفة أو اعتراض الآخرين. العنف الأسري في إيران واضح؛ لأنه لم يقتصر على المحيط الأسري الخاص، وإنما يحدث في كل مكان دون تدخل الآخرين. من ثم لا تمتلك المنظمات الرقابية إشرافًا خاصًا على هذا السلوك، ولا يحتمل أن تبحث ضرورة تقديم دعمًا خاصًا لضحايا العنف الأسري. وينتج عن مجموع الأوضاع السابقة، إجبار الزوجة على تحمل العنف والعيش في مثل هذه الظروف.

العنف الأسري ظاهرة تحظى بالإهتمام، ومن المأمول البدء في إعداد الأبحاث والدراسات المتعددة في هذا الشأن. لكن وكما تذكر الأبحاث الغربية والملاحظات المعدودة المشار إليها في هذا المقال، لا يمكن دراسة العنف الأسري بشكل مجزأ. وطالما يقوم الهيكل الاجتماعي على عدم المساواة الاجتماعية، ووجود قيم ورؤى العنف في المجتمع ومن يتحملونها، وطالما لا يحدث تغيير أساسي على القوانين المجتمعية، وكذلك عدم توفير التسهيلات اللازمة للضحايا، وطالما لا يتعرض أي سلوك عنيف في المجتمع للاستهجان؛ فلا توجد إمكانية للتصدي لتلكم الظاهرة. ويمكن تقديم مجموعة من المقترحات على المستوى الفردي والاجتماعي والقانوني، تقع فيها المسؤولية الأساسية على وجه الخصوص على عاتق وسائل الإعلام الجماعية (التلفاز)، والمدارس، والمسؤولون في المؤسسات المختلفة، ومن الممكن أن تقدم حلولًا مختلفة لمعاقبة المجرم؛ وكذلك لحماية النساء. ويمكن تقديم هذه القائمة بشكلٍ كامل، لكن يجدر الإلتفات إلى أن التصدي للعنف يحتاج إلى فترة زمنية طويلة والأهم إنفاق التكاليف الباهظة. وهنا لابد من اتخاذ القرار وهل يرغب المجتمع في القضاء على العنف سواء على المستوى المجتمعي أو على المستوى الفردي أم لا، لأنه حينها فقط تتضح أهمية وتأثير العنف السلبي على المجتمع (المسؤولين)، من الممكن العمل للقضاء على العنف من خلال إجراء شامل مقترن بتكلفة كبيرة. وبهذه الطريقة كان لابد من القيام بإجراء للوقاية من العنف في شكله الاجتماعي والأسري؛ حتى لا نضطر في الأعوام المقبلة لعلاج المشاكل الناتجة عن العنف.

المصادر

Dobash,R.E. & Dobash, R.P. (1979). Violence against wives. New York: Free Press.

Finnkelhor,D.(1988). Stopping family violence.Beverly Hills:Saga.Galtung,J. (1975). Struktuelle Gewalt.Beitraeae zur Friedens-und Konfliktforschung.Reinbeck:Rowolt.

Gelles,R.J. & Straus, M.A. (1979). “Determinants of violence in the family”. In W.R. Burr, R. Hill, F.J. Nye & I.L. Reiss (Ed.), contemporary theories about the family (pp.549-581). New York: Free Press.

Gelles, R.J. & Straus,   M.A.   (1988).  Intimate    violence. The  causes and consequences of abuse in the American family ,New York: Simon & Schuster.

Gil, D. (1970). Violence against children: Physical child abuse in the United States.

Cambridge, MA: Harvard University Press.

Green, E., Hebron, S.  &  Woodward,  D. (1987). “Women, leisure and social control.” In J. Hammer & M. Maynard  (Ed.),  Women, violence and social control (pp.75-92). Atlantic Highland, N.J.: Humanities Press International.

Kempe, H. et   al.  (1962). “The battered child syndrome.” Journal of American Medical Association, Vol. 181, No.1 pp . 17-24.

Martin, D. (1985). “Domestic violence”, in D.J. Sonkin, etal (Ed.) The male battere, (PP.1-32). New York : Springer.

Megaregee, E.I. (1981). “Methodological problems in the prediction of violence.” In J.R. Hays, etal (ED.), Violence and the violent individual (pp. 179-191). New York: praeger.

Straus,M.A. (1980). “A sociological perspective on the cause of family violence.” In M.R. Green (Ed.). Violence and the family, (pp. 7-31) .Boulder, CO: Westview Press.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب