الاحتمالات باتت واردة في عراق تتصاعد في خارطته السياسية صراعات طائفية. مأزق المشهد العراقي الذي يحاول أن ينتصر للقيم والعدالة الاجتماعية والسياسية، امتزج في الوجه الآخر بواقع مغاير ينتصر للسلاح والدم في مشهد أحكمت فيه القاعدة قبضتها وصارت فيه الطائفية ملتوية العنق في جبهة سياسية مراهقة، تحتكم لنصوص قانونية تحت قبة برلمانية، لكنها تفتقد “للتوافق” الشعبي، فتعطي الانطباع بأنها تفتقد للشرعية الشعبية رغم كونها منتخبة.
في الجبهة المقابلة، وظف الإعلام توظيفا موجها ومصلحيا، ينطوي على كثير من المغالطات. كما أن السلطة التي تحولت بقدرة “التسييد” لم تعد تحمل هم النهوض بالبلد بقدر ما تحمل هم الزج به في متاهات الطائفية… وهو الأمر الذي تفطن له الشعب بكل أطيافه وصار يرفضه.
الجسد العراقي الذي كان موحدا، أصبح محكما بغربة سياسية تدفع إلى اقتتال غير مبرر باسم الطائفية تارة وباسم الدفاع عن وحدة العراق تارة أخرى بالرغبة في فضح اللعبة القبيحة والمشينة التي تحاول جعل العراق بؤرة توتر وواقع مختل في كل أطرافه من تمزق الدين الواحد والوطن الواحد إلى ملل وأطياف كالسنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين وأكراد وعرب غير متحدين على مصلحة البلد لكن متوحدين دون رغبة منهم على القتل والدم والتصفية الجسدية.
اليوم العراق يتجه نحو منعطف آخر، هو منعطف المظاهرات التي أصبحت تحرك في “شرعية الثورة” بوادر تغيير يدفعها الشارع بأساليب ناعمة، تارة وصارخة تارة أخرى، ضد واقع مهترئ مل منه المواطن العراقي بكل أطيافه. هذا المنعطف الذي تحولت فيه التظاهرات الاحتجاجية التي خرجت من رحم محافظة الأنبار إلى اعتصامات تجاوزت حدود المحافظات وصعدت من حدتها في مشهد، أقل ما يقال عنه، أنه تصعيد نحو انتفاضة شعبية تضفي ظلالها على عموم المشهد السياسي في تفاقم على شاكلة الثورات العربية، تطالب بالتغيير وبالإصلاح وتتجاوز الانتماءات الطائفية من أجل عراق موحد.
عراق أصبح يرفض بإصرار ديمقراطية جوفاء ورفاهية تبيع “الطائفية” وتنتصر لها مجانا. أصبح يرفض أيضا سلطة لم تعد تحظى بقبول شعبي بعد أن فشلت في إصلاح الأوضاع المتردية على جميع الأصعدة ولم تتمكن من احتواء المواطن بمنحه أبسط حقوقه في العيش الآمن في بلده.
ليس من قبيل وسواس المؤامرة على البلد أن نصنف مطالب المتظاهرين باللامشروعة، لأنها تطالب برفع الغبن والظلم الاجتماعي والسياسي والقهر الطائفي الذي حول المذاهب والطوائف والإثنيات إلى وكر تعشعش فيه الكراهية ونبذ الآخر والضغينة وحمل الشعب إلى الخروج منتفضا على الجور والظلم وعدم وجود نية في الاصلاح والتغيير واستفحال الفساد وانتشار الإرهاب الذي يضرب أعناق البسطاء من عامة الناس ولا يستهدف إلا أسواقا شعبيا أو أحياء تنام على فقر مدقع.
ما يجري بمحافظة الأنبار العراقية ومحافظات أخرى كالموصل وصلاح الدين وديالى وغيرها يعد المؤشر الأخطر لأسوأ التوقعات. فالأنبار كانت معقلا للمقاومة ضد الاحتلال الأميركي للعراق 2003، حيث تكبدت فيها القوات الأميركية خسائر فادحة في أغلب مناطق المحافظة لكن أكثرها فداحة هي تلك التي حصلت في مدينة الفلوجة حيث بقيت المدينة عصية على الاحتلال الأميركي عاما كاملا ولم تدخلها قوات الاحتلال إلا بعد أن خاضوا أصعب هجومين في تاريخهم منذ دخولهم العراق.
المأزق العراقي اليوم الذي يرنو على صفيح ساخن لم يستطع أحدا الوصول لحل معه، رغم المبادرات الحثيثة لبعض الأطراف الحكومية. لكن المركز العراقي لمهارات التفاوض وإدارة النزاع الذي قدم ورقة للمتظاهرين استطاع أن يصل إليهم ويحاورهم في جلسات متكررة لإقناعهم بالحلول التفاوضية السلمية والتي أشادت بها لجان المشكلة في جبهة التظاهر.
الورقة التي قدمها المركز العراقي لمهارات التفاوض وإدارة النزاع، شملت جوانب عدة من مطالب المتظاهرين وحفظت القاعدة الأساسية التي ينتهجها المركز المعروف بحضوره المتميز في إدارة الأزمات، إذا استطاع سابقا أن يحل معضلة الاحتجاجات المتكررة عن انقطاع الكهرباء والتي كادت أن تؤدي إلى صدامات دامية في محافظة البصرة.
ويحاول المركز العراقي لمهارات التفاوض أن يضع حدا للأزمات المستقبلية أيضا وليس إدارة هذه الأزمة فحسب، مثل مبادرة لخلق حالة تواصل بين المرجعيات الدينية من كل المذاهب من أجل أن تكون هي الضامن لرفع الظلم والحيف عن المظلوم والجهة الضاغطة على المؤسسة الحكومية من أجل تصحيح المسار.
ورغم مساعي المركز العراقي المستقل للتفاوض والذي يضم كل المذاهب والأطياف إلا أن السياسة الترقيعية التي تعتمدها الحكومة، فشلت في التعامل مع الأزمات في الارتقاء إلى مستوى فهم أبعاد الأزمة الراهنة. ومن ثم خلق مبادرات للحوار والتشاور وهو الأمر الذي يصعب كل محاولات الحلول السلمية بما في ذلك محاولات المركز العراقي للتفاوض. كل الأزمات التي جاءت متزامنة مع احتجاجات المواطنين تزامنت مع تفجيرات هزت الأحياء الفقيرة وهي من منظور القراءة المتأنية، تندرج في سياق النفوذ السياسي الطائفي الرامي لبعثرة الحراك الشعبي وإنهاك عزيمة المتظاهرين.
عن : ميدل ايست اونلاين