خاص : كتبت – هانم التمساح :
اكتسب الزعيم الشيعي، “مقتدى الصدر”، شعبيته من التصدي للغزو الأميركي؛ لذا فقد أبدى إندهاشه ممن زايدو عليه من الميليشيات التابعة لـ”إيران”، وعندما جاء الغزو الذي أطاح بـ”صدام حسين”، عام 2003، وأغرق “العراق” في دوامة العنف التي لم تزل قائمة حتى اليوم، لم يكن أحد من خارج البلاد قد سمع برجل دين شيعي شاب، لم يُكمل بعد مؤهلات إجتهاده العلمي الديني، يدعى، “مقتدى الصدر”، سوى قلَّة معدودة.
وبعد نحو 17 من السنوات المضطربة، ربما بات “الصدر” أكثر قامات “العراق” شهرة، وبالتأكيد أحد أقوى شخصياته، وخرج (التيار الصدري) وأتباعه ليردوا على الميليشيات المتظاهرة أمام “السفارة الأميركية والذين ألمحوا أن المنتفضون العراقيون مدعومون من السفارة.
التيار الصدري : احتجاجات السفارة الأميركية جاءت للقضاء على انتفاضة الشعب..
واعتبر ممثل التيار، “صالح محمد العراقي”، أن هنالك قرينة بأن الاحتجاجات أمام “السفارة الأميركية”، في “العراق”، يراد بها إنهاء مظاهرات الشعب الإصلاحية.
وقال “العراقي”، الذي يُعتبر مقربًا من “الصدر”، في بيان نشره مساء الثلاثاء؛ على حسابه في موقع (فيس بوك): “تلميح !.. تظاهرنا ضد الاحتلال من أول يوم حينما أرادوا تدنيس الحرم في النجف الأشرف؛ وتظاهرنا ضده في كل عام. وطالبنا بعدم توقيع اتفاقية معهم، وطالبنا بغلق سفارة الشيطان الأكبر. كانوا في العلن يستهزئون وفي الأروقة يتوسطون لهم”.
وأضاف “العراقي”: “اليوم صار العراق ساحة تظاهرات، واليوم صار العراق ساحة حرق للسفارات والبعثات الدبلوماسية، وكأن العراق هو البلد الوحيد الذي يضم السفارات والبعثات. ثم لا تنسوا أن كل الساسة جالسوا المحتل لا في السر بل في العلن بكل طوائفهم وإنتماءاتهم أجمع … إلا (قائدنا الصدر). اليوم صاروا يصبون جام غضبهم على السفارة … فأين كنتم ؟!”.
وأردف: “لكن حسب تصوري والله العالم.. وخصوصًا بعد ما سمعته من بعض قادة الميليشيات ومن أمام سفارة الشر، إن السفارة هي المكان الحقيقي لدعم العصابات؛ ويعني بها الثوار، وهذه قرينة على أن التظاهرات أمام السفارة يُراد بها إنهاء تظاهرات الشعب الإصلاحية”.
واستطرد ممثل (التيار الصدري): “لذا أدعو إخوتي الثوار للثبات والاستمرار على سلميتهم وعدم الإحتكاك بهم؛ ولا تحزنوا ولا تهنوا وإن رأيتم (الخضراء) مفتوحة أمامهم ومغلقة بوجوهكم. فأنتم اليوم على أسوارها وغدًا سيكون الشعب فيها”.
وختم بالقول: “أعني من خلال الانتخابات المبكرة، التي دعا لها الحكماء والعقلاء؛ ومن خلال قانونها المنصف الذي سيكون للشعب مقدمة لإنهاء الفساد والتحزب، فأدخلوها من أبواب الانتخابات آمنين سالمين غانمين فالفساد يلفظ أنفاسه الأخيرة”.
“الصدر” : مستعد للتعاون من أجل إخراج أميركا..
وكان زعيم (التيار الصدري) وائتلاف (سائرون) العراقي، “مقتدى الصدر”، قد أبدى استعداده لإخراج الجيش الأميركي من “العراق” سياسيًا، مهددًا “الولايات المتحدة”، “بتصرف آخر”، حال عدم سحب قواتها من بلاده.
وقال “الصدر” في بيان نشره، الإثنين، عبر (تويتر)؛ في أعقاب الهجوم الأميركي على مواقع (الحشد الشعبي) العراقي: “حذرنا سابقًا من مغبة زج العراق في الصراعات الإقليمية والدولية. وقلنا إن العراق وشعبه ما عاد يتحمل مثل هذه التصرفات الرعناء”.
وأضاف: “لو أننا تعاونا سابقًا لإخراج المحتل عبر المقاومة العسكرية، لما جثم على صدر العراق. ولو أننا تعاونا من أجل عدم إقرار الاتفاقية المذلة لم يحدث ما حدث. واليوم أنا على استعداد لإخراجه بالطرق السياسية والقانونية فهل من ناصر ينصرنا ؟”.
وتابع “الصدر”: “هلموا إلى توحيد الصفوف بأسرع وقت ممكن، ولتبعدوا عنكم التصرفات غير المسؤولة من بعض الفصائل العسكرية؛ وليكن زمام الأمر بيد القوات الأمنية حصرًا. وإن لم ينسحبوا سيكون لنا تصرف آخر وبالتعاون معكم”.
وأوضح: “علمًا أن الاحتلال بقيادة الأرعن، (ترامب)، استغل الفساد المستشري من جهة والهوة الكبيرة بين الساسة والشعب من جهة أخرى، لذا على الجميع التنازل عن المغانم والسلطة من أجل رفاهية الشعب وكرامته وإلا فلات حين مندم”.
وختم بالقول: “ولتعلموا أننا لن نسمح بأن يكون العراق ساحة لتصفية الحسابات السياسية والعسكرية؛ إنما نريد عراقًا قويًا ومستقلًا”.
“الصدر” أصبح مستهدفًا من الميليشيات..
ويبدو أن الميليشيات التابعة لـ”إيران” قد وضعت “الصدر” في خانة المعادين من منطق “من ليس معنا فهو مع الآخر”؛ مُصرين على تقسيم الشعب العراقي بين تابع لـ”أميركا” وتابع لـ”إيران” !.. وكأنه لا يحق للشعب العراقي أن يحىا سيد قراره.. لذا سبق وتعرض منزل زعيم (التيار الصدري)، “مقتدى الصدر”، في “النجف”، جنوبي “العراق”، لهجوم بطائرة مُسيرة، وذلك ردًا على الأوامر التي صدرت من “الصدر”، لـ”القبعات الزرق”، بحماية الثوار في “بغداد” و”النجف” سابقا.
يصفه الطرفان بأنه رديكالي مثير للقلاقل..
ويمكن التعرُّف على “مقتدى الصدر”، على الفور، من ملامحه المتجهمة والغامضة في الآن ذاته. ويصفه الطرفان المتصارعان، (واشنطن وطهران)، بأنه راديكالي، متحمس حد إثارة القلاقل، خارج عن الجمع، زئبقي لا يستقر على حال، خيالي، (دون كيخوتي، نسبة إلى شخصية “دون كيخوته”، الفارس المسرف في رومانتيكيته ومثاليته حد الوهم)؛ وهذه هي بعض الصفات التي إرتبطت بالرجل؛ الذي غالبًا ما بدت مواقفه واختياراته محيرة ومتناقضة. ولكن هذه الصفات سمحت له بتحقيق عمل استثنائي وهو البقاء عبر سنوات من الاضطرابات، خاض خلالها أتباعه معارك مع الأميركيين وحلفائهم والجيش العراقي ومتشددي تنظيم ما يسمى بـ”الدولة الإسلامية”، فضلاً عن ميليشيات شيعية أخرى.
ويُمثل ائتلاف برلماني يُعرف باسم (سائرون)؛ واجهته السياسية، وقد حقق هذا الائتلاف أعلى الأصوات في الانتخابات العامة، في عام 2018، ما جعل “الصدر” في موقع الصدارة من الصراع الحتمي من أجل تشكيل حكومة ائتلافية؛ إذ لا يفوز أحد بأغلبية ساحقة في الانتخابات العراقية.
وإلى جانب كونه قائدًا ذا نفوذ في “العراق”، يُعدُّ “مقتدى الصدر” أيضًا لاعبًا رئيسًا في إذكاء الاحتجاجات التي اندلعت منذ ثلاثة أشهر ومستمرة، حاليًا، احتجاجًا على الفساد والفقر، وهي قضايا تابعها “الصدر” لسنوات.
نسب ممتد..
صحيح أن “الصدر” كان مغمورًا حينما بدأ الغزو الأميركي لـ”العراق”، ولكن لم يكد وقت طويل يمضي على بدء الغزو حتى برز على الساحة العراقية. فبمجرد أن خفَّت قبضة “صدَّام حسين”، شرع “الصدر” في تفعيل الشبكات والمعارف التي ورثها عن والده، الذي كان يحظى باحترام، آية الله العظمى “محمد صادق الصدر”، في الأحياء الشعبية المهمَّشة في “بغداد” ومدن الجنوب.
وربما يستحيل فهم جاذبية وشعبية، “مقتدى الصدر”، المُثبتة، من دون الرجوع إلى خلفية عائلته الدينية البارزة؛ إذ كان والده وحموه، آية الله العظمى “محمد باقر الصدر”، شخصيتين دينيتين موقَّرتين، قاما برعاية شبكات رعاية اجتماعية قوية بين فقراء الشيعة، مثيرين سخط “صدام حسين”. ولقي كلًا منهما ميتة عنيفة؛ ففي حين أُعدم “محمد باقر الصدر” وشقيقته، “آمنة الصدر”، على يد النظام عام 1980، اغتيل “محمد صادق الصدر” وإثنان من أشقاء، “مقتدى الصدر”، عام 1999، في هجوم بالرصاص شنه مسلحون يُعتقد أنهم عملاء لـ”صدام حسين”.
إذاً فقيم التضحية والاستشهاد والخدمة الاجتماعية؛ كانت جزءًا لا يتجزأ من الإرث الذي ورثه الشاب، “مقتدى الصدر”، الذي كان في الثلاثين من عمره وقت الغزو الأميركي.
وغالبًا ما كان يظهر “مقتدى الصدر”، في الصور متوسطًا هذين المرجعين البارزين، يعتمر ثلاثتهم عمامات سوداء، للدلالة على إنحدار سلالتهم من نسل عائلة النبي “محمد”.
وفي بعض الأحيان، كان “مقتدى” يرتدي كفنًا أبيض للإشارة لاستعداده للإستشهاد، مقدِّمًا صورة قوية بالغة التأثير للجماهير الشيعية المخلصة.
خصم الأميركيين..
لم يكد الأميركيون وحلفاؤهم يستقرون في “العراق”، حتى برز “مقتدى الصدر”؛ كأعلى الأصوات الداعية للإطاحة بهم.
وسرعان ما أتبع “مقتدى” كلماته بالأفعال؛ فحشد أتباعه في (جيش المهدي)، وهو اسم له دلالات خلاصية (ميسيانية) وإسلامية، الذي اعتبره الأميركيون أكبر تهديد لهم في “العراق”.
ومنذ عام 2004؛ أشتبك (جيش المهدي)، مرارًا، مع قوات التحالف التي تقودها “الولايات المتحدة”، كما أُلقي باللائمة عليه في العديد من الهجمات والتفجيرات التي استهدفتهم. كما دأب “الصدر” على انتقاد القادة العراقيين الذين تعاونوا مع الأميركيين.
وأنخرط أتباعه في أعمال العنف والفظائع الطائفية التي وقعت بين الشيعة والسُنة، بين عامي 2006 و2007.
وفي عام 2008؛ خاض رجال (جيش المهدي) معارك ضارية مع قوات الجيش العراقي، التي أرسلها رئيس الوزراء، آنذاك، “نوري المالكي”، لترويض “البصرة”.
وخلال مراحل الاضطرابات التي أعقبت ذلك، كان “مقتدى الصدر” حاذقًا وعمليًا على المستويين السياسي والعسكري.
ومر (جيش المهدي) بعدة تحولات، وهو يُعرف الآن بـ (سرايا السلام). أما على الصعيد السياسي، فتُعد كتلة (سائرون) آخر ما أنبثق عن (التيار الصدري).
كل هذه الإهتزازات سمحت لـ”مقتدى الصدر” بإحكام قبضته على المستويين العسكري والسياسي، وحالت بينه وبين الإنزلاق إلى فخ الإعتداد بالذات.
وفي انتخابات عام 2018؛ منع “الصدر” أيًا من نوابه، الـ 34، من الترشح للبرلمان مجددًا، وتزعَّم قائمة ناجحة، كانت مذهلة بالنسبة لما يفترض أنه كيان شيعي قوامه رجال دين، فضمّت شيوعيين وعلمانيين وسُنة.
منتقد إيران..
غالبًا ما كانت قراراته تبدو متقلبة وغريبة، على الأقل فيما يتعلق بالعلاقات مع القوى الخارجية؛ ففي حين عارض بثبات التدخل الأميركي في “العراق”، انتقد “الصدر”، “إيران”، في كثير من الأحيان، لتدخُّلها في كلٍ من “سوريا” و”العراق”. بل وزار “المملكة العربية السعودية”، المنافس الإقليمي لـ”إيران”، عام 2017.
ومع ذلك؛ فقد تردد “الصدر”، خلال الفترة ما بين عامي 2007 و2011، على “إيران”، حيث درس في “حوزة قم”، في مسعى لتطوير أوراق إعتماده الدينية.
وفي أيلول/سبتمبر الماضي، ظهر “الصدر” جالسًا إلى جانب المرشد الأعلى الإيراني، آية الله “علي خامنئي”، وعلى يساره، العقل المُدبر للمد الإقليمي لـ”إيران”، وقائد (فيلق القدس) في الحرس الثوري، “قاسم سليماني”. وهي صورة أحدثت إهتزازًا وأثارت جدلاً كبيرًا في معظم أنحاء “العراق”.
وبحسب ما يراه “باتريك كوكبورن”، مؤلف سيرة “مقتدى الصدر”، فليس ثمة تناقض حقيقي في ذلك كلّه. ويقول “كوكبورن”؛ في كتابه: “لقد أتبع، مقتدى، ووالده نهجًا ثابتًا إلى حدٍ كبير كقادة دينيين شعبويين في إطار السياسة العراقية المحكومة بمراكز قوى متعددة في الداخل والخارج، وهو ما يعني أنه لا يوجد عدو دائم أو صديق دائم”.
ويضيف “كوكبورن”؛ أن: “ما فاقم من التناقض السياسي، في حالة مقتدى الصدر، هو كونه زعيم أكبر كتلة في البرلمان، في نفس الوقت الذي يلعب فيه أتباعه دورًا رئيسًا في حركة الاحتجاج”.
ويتابع: “الصدر جزء من المؤسسة السياسية الشيعية ما بعد 2003، على الرغم من أنه لا يروق لبقية مكونات تلك المؤسسة، وفي الوقت نفسه هو الخصم الرئيس لتلك المؤسسة”.
ويورد “كوكبورن”، في كتابه، أن صديقًا لرئيس الوزراء المستقيل، “عادل عبدالمهدي”، كان قد حذَّره من “الصدر”، في وقت مبكر من عام 2003، حين كان “عبدالمهدي”، سياسيًا شيعيًا طموحًا، بالقول: “أحذر من مقتدى، فهو يمتلك الشارع”.
وبعد مرور كل تلك السنوات، تبقى هذه هي الحال.
ووفقًا لما يقول “باتريك كوكبورن”: “إذا كان ثمة حل للأزمة الراهنة، فإن مقتدى سيكون في القلب منه”.