وصل الحال بالإعلاميين والعاملين بالحقل الصحافي داخل العراق إلى اخفاء اسمائهم الحقيقية والإدلاء بشهاداتهم الحية، عن معاناتهم بل وعذاباتهم في ممارسة مهنتهم في رصد الخبر وإظهار الحقيقة، تحت اسماء وهمية خشية مخاطر كثرت وتشعبت بداية من تهديد حياتهم الشخصية وحياة أسرهم وحتى تهديد أرزاقهم وقوت عيالهم. يقول إعلامي عراقي يعمل لحساب قناة فضائية محلية: “حفاظاً على مصدر رزقي الوحيد أطلب عدم ذكر اسمي الصريح.. لأني سأطرد ولن أجد فرصة أفضل.. بالرغم من أن أجري الشهري لا يساوي الجهد الذي أبذله وعدد ساعات العمل التي تصل أحياناً لأكثر من 16 ساعة في اليوم الواحد”. واصفاً حالته المهنية بأنها “ظروف قاسية” يمر بها العدد الأكبر من الصحافيين العراقيين، هو واحد منهم، فيما عزا وغيره من الصحافيين، السبب إلى الأزمة المالية، التي يمر بها بلدهم منذ أكثر من ثلاثة أعوام.
مجزرة في المرتبات بحجة الأزمة المالية

يؤكد الإعلامي العراقي على إن “تخفيضات كبيرة أجريت على رواتب الإعلاميين، ليس فقط داخل القناة التي أعمل فيها بل أجور زملائي في باقي القنوات الفضائية”. مبيناً أن “نسبة القطوعات في الرواتب بلغت 50 في المئة.. هم يعللون إجراءاتهم هذه بالأزمة المالية”. متابعاً: “بالنسبة لي لا أستطيع الاعتراض.. فكل إدارة قناة تنتظر من العاملين فيها الاعتراض.. لاسيما القدماء منهم، لأنهم يعملون بأجور أعلى بكثير من الأجور الحالية.. للأسف نرضخ للأمر الواقع، فالعمل في مجال الإعلام الذي قضيت فيه حتى اليوم 16 عاماً ليس لي غيره مصدراً للمعيشة”.
اختناق مالي تسلل إلى الصحف
جدير بالذكر ان العراق يمر بأزمة مالية صعبة منذ العام 2014، لعدة أسباب أبرزها: “انخفاض أسعار النفط التي يعتمد عليها في وارداته، ووجود الفساد المستشري بين مؤسساته ومتهمة فيه الحكومة”، ما جعل البلد يحتل مرتبة متقدمة في الفساد بين دول العالم بحسب إحصائيات عالمية.
الأزمة المالية تلك سيطر تأثيرها بالتالي على المؤسسات الإعلامية والصحافية مثلما أثرت على غالبية القطاعات في البلد، لتتخذ تلك المؤسسات قرارات تقليص أعداد العاملين فيها وتقليص المرتبات، وتحميل الصحافي العامل فيها أكثر من طاقته من مد وتكثيف ساعات العمل، سعياً لتعويض النقص الذي نتج عن تقليص الكوادر. كما افاد “هشام الكبيسي” الذي اضطر إلى إقفال الصحيفة التي أمضى ستة أشهر لتأسيسها، من دون أن يصدر منها عدداً واحداً.
مؤكداً “الكبيسي” أنه على اطلاع واسع بما يجري في المؤسسات الإعلامية، لاسيما الصحف الورقية، التي يقول إنه أمضى فيها عشرة أعوام، لكنّه توقف حين مر “العراق بأزمة مالية صعبة منذ العام 2014″، وصل إلى المرحلة الأخيرة من تحقيق حلمه في تأسيس صحيفة ورقية.
مضيفاً: “كان ذلك في عام 2014، جهزت فريق العمل ومقر الصحيفة وبقينا نعمل تجريبياً لأكثر من أسبوعين، لكن الشركة التي اتفقت معي على دفع نصف النفقات في مقابل نشر إعلاناتها انسحبت من الاتفاق، والسبب أن بعض أعمالها المهمة توقفت بسبب الأزمة المالية”.
صحافة.. راقدة في الإنعاش
غرق العراق منذ إحتلاله في عام 2003 بطوفان هائل من الإصدارات الصحافية من جرائد ومجلات بالإضافة إلى ظهور عشرات القنوات الفضائية المتلفزة والإذاعية، ما دعى إلى ان يطلق عليها من قبل الصحافيين بـ”الثورة الصحافية”، ومما وفر فرص عمل لجميع الصحافيين والإعلاميين، وبأجور مرتفعة، ولكن مع مرور عشرة أعوام فقط شهدت فتور تلك الثورة وانزوى بريقها حينما انتشر سرطان غلق القنوات الفضائية ابوابها وبالتالي أبواب رزق لأعداد هائلة من اشخاص وافراد يمتهنون المهن الرئيسة والمساعدة داخل هذه القنوات.
“خير ما ينطبق من وصف على الصحافة العراقية الآن بأنها مهنة راقدة في الإنعاش”. ذلك كان توصيف حالة عبر عنه “أحمد السعدي”، وهو صحافي ويعمل في إحدى دور النشر ويرتبط بعلاقات متينة مع رؤساء تحرير الصحف المحلية في العراق، ودور التوزيع.
موضحاً: “قبل أعوام كانت بعض الصحف الأهلية تنافس في كميات الطبع صحيفة الصباح الحكومية الرسمية المدعومة بشكل كبير من قبل الدولة.. لقد تسببت الصحف بازدهار المطابع، بل إن الصحف ولكثرتها وازدهارها جعلت مستثمرين ينشئون مطابع لأجل طبعها”، لافتاً إلى أن “كل هذا كان في خلال الفترة ما بين 2004 و2014”.
مؤكداً السعدي، على أن الصحف الأهلية التي كانت تصل مبيعات بعضها إلى أكثر من 50 ألف نسخة باليوم الواحد، لم تعد اليوم تطبع أكثر من 3 آلاف نسخة، بل إن الصحف الخمس الكبار في العراق لا تبيع أكثر من 15 ألف نسخة باليوم الواحد في الوقت الحالي”.
الأمل.. في تشريع يحمي حقوق الصحافي المهدرة
في السياق ذاته يشير سكرتير تحرير صحيفة “المشرق” “علي الملا”، إلى أن “الكثير من المؤسسات الصحافية والإعلامية قد ضربتها الأزمة المالية التي تعصف بالبلاد، وهو ما ظهر تأثيره سلباً على الأسرة الصحافية الكادحة”.
“الملا” الذي لا ينفي أن الصحافي هو “العمود الفقري للمؤسسات الإعلامية”، لفت الانتباه إلى أن العائد المالي الذي كان غالباً مصدره الإعلانات لم يعد كافياً لتغطية النفقات بسبب توقف المعلنين عن الإعلان، وهو ما يجبر إدارة المؤسسات على اتخاذ خطوات صعبة”. مقراً بإن “الصحافي هو أكثر المتضررين منها”.
ويصف الملا، وهو المطّلع على شؤون إدارة الصحف في بغداد بحسب تواصله معها، ما تعرض له الصحافيون بـ”أكبر صور المعاناة” موضحاً أن الصحافيين تعرضوا إلى “التسريح القسري وتقليل الرواتب والأجور بصورة مجحفة”. متابعاً: “تبقى عين الصحافي العراقي شاخصة نحو البرلمان بانتظار تشريع قانون يحمي من يعملون في بلاط صاحبة الجلالة”.
فتش عن “فساد الاحزاب والمليشيات”
من جانبه أكد “علي الطائي”، إعلامي يعمل منذ أكثر من ستة أعوام في محطة فضائية محلية، على إن “الأحزاب والمليشيات وراء الخراب الذي حل بالعمل الصحافي في العراق”.
لافتاً إلى إن “الكثير من المؤسسات الصحافية تتبع أحزاب، واعتمدت في تأسيسها على كوادر مهنية وأصحاب الخبرات.. لكنها بدأت بطردهم تدريجياً وأبقت على أتباعها ممن تدربوا على أيدي هؤلاء المهرة، من إعلاميين ومعدي برامج وفنيين ومخرجين ومصورين.. اليوم الكثير من المختصين في المجال الصحافي والإعلامي، وأصحاب الخبرات انضموا إلى طابور العاطلين عن العمل”.
وتابع: “نعم هناك أزمة مالية، لكن يرافقها فساد كبير سببه تلك المليشيات والأحزاب التي باتت تسيطر على كل شيء”. مستطرداً: “الفضائية التي أعمل فيها خالفوا بنود العقد الموقع بيننا.. وأجبروني على توقيع عقد آخر جديد وتمزيق القديم”.
قائلاً: “ففي العقد الأول كانت هناك زيادة بالراتب كل سنة، وسفريات للترفيه، وعلاوات ومكافآت وحوافز، تمنح في حال الاضطرار إلى المبيت في العمل والتغطيات الخاصة والخطورة، وغيرها.. لكن ما يحدث اليوم، تقليص في الراتب، وإلغاء كل الحوافز والإبقاء على بعض المكافآت البسيطة في حال التغطيات الحصرية”.
تسريح 600 صحافي في عام واحد
وكانت “جمعية الدفاع عن حرية الصحافة” في العراق، قد كشفت في تقريرها السنوي الصادر في مطلع تشرين ثان/نوفمبر الماضي، عن تسريح عدد كبير من العاملين في المؤسسات الإعلامية والصحافية، وتخفيض أجورهم بنسب عالية جداً لا تكفي لسد متطلباتهم اليومية.
وقالت الجمعية، التي تعني بالدفاع عن حرية الرأي ورصد الانتهاكات التي يتعرض لها الصحافيون والإعلاميون في العراق، في تقريرها إنها “رصدت نسباً عالية في تخفيض أجور ومرتبات الصحافيين في المؤسسات الإعلامية التي يعملون فيها، بالإضافة إلى تسريح مؤسسات أخرى لعدد من الصحافيين، دون سابق إنذار أو تعويض، ناهيك عن استمرار حالة تأخير الرواتب لأكثر من شهر”.
لافتة إلى أن “الفترة الممتدة من شهر تشرين ثان/نوفمبر 2015، إلى تشرين أول/أكتوبر عام 2016؛ الفترة التي يغطيها التقرير، شهدت تسريح نحو (600) صحافي غالبيتهم من المحررين والمراسلين والمصورين والمذيعين، بينهم مقدمو برامج تليفزيونية يومية”. وعزت الجمعية الأمر إلى “توقف دعم الأحزاب لأسباب مالية وسياسية، وغياب الإعلانات الرسمية للمشاريع”، وفيما وصفت التسريح المفاجئ بـ”المهين”، اعتبرت أن من شأنه “تعريض حياة الصحافيين وأسرهم الى صعوبات معيشية”.