وكالات – كتابات :
قال “مكسمليان هيس”؛ في مقال على موقع (فورين بوليسي) إن سفينة أسطول “البحر الأسود” الروسي؛ (موسكفا) في 14 نيسان/إبريل، دخلت التاريخ كأكبر سفينة عسكرية دمرت في صراع منذ الحرب العالمية الثانية. ويُعد إدعاء “أوكرانيا” بأنها أغرقت السفينة صدمة أدت إلى إعادة تقييم “روسيا” قدراتها الدفاعية الساحلية، وعلى وجه الخصوص، قدرتها على تأمين شواطئها الجنوبية الغربية. ومع ذلك، لم يهتم الكثيرون بحقيقة أن الغرق التاريخي حدث على أمواج “البحر الأسود”.
نادرًا ما يُعد “البحر الأسود”؛ من بين أهم المساحات الإستراتيجية في العالم، حتى بين المسطحات المائية. حظي “بحر الصين” الجنوبي و”الخليج العربي” و”شرق البحر الأبيض المتوسط”، بمزيد من الاهتمام في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال، أقر “الكونغرس”؛ في عام 2019، تشريعات تُعيد تشكيل سياسة “الولايات المتحدة” بشأن “شرق البحر المتوسط”.
وأوضح “هيس”؛ أنه في عام 2020، نشرت “وزارة الخارجية” الأميركية؛ رسميًّا، موقفًا جديدًا بشأن “بحر الصين الجنوبي”، معلنة أنها سترفض أي نهج لاستخدام القوة. بالطبع، كان “الخليج العربي” نقطة محورية في السياسة الأميركية منذ إنهيار “الاتحاد السوفياتي”، ظلت الحروب في “العراق”، والدور الأميركي في السجال “السعودي-الإيراني”، وعمليات نقل “النفط والغاز” الرئيسة، من أولوياتها منذ ذلك الحين.
ولكن يُنظر إلى “البحر الأسود” على أنه مصدر قلق ثانوي. هذا على الرغم من وقوع: 10 حروب دامية على ساحل “البحر الأسود” أو بالقرب منه؛ منذ نهاية “الحرب الباردة”، أكثر من أي مساحة بحرية أخرى في العالم. وفي الحقيقة، لا ينبغي أن يكون هذا مفاجأة: فـ”البحر الأسود”؛ هو المكان الذي تلتقي فيه العديد من أكبر القوى في العالم – “روسيا، والاتحاد الأوروبي، وتركيا، وحلف شمال الأطلسي”، ومعه “الولايات المتحدة”.
أحد الأمثلة على ذلك هو الصراع الطويل الأمد بين “تركيا” وحزب (العمال الكُردستاني)، والذي أسفر عن مقتل ما يقرب من: 06 آلاف شخص على مدار السنوات السبع الماضية – بحسب الكاتب – وهم ما يتقارب مع عدد الأشخاص الذين قُتلوا بين عامي: 2015 و2017؛ في الصراع في “دونباس”؛ شرق “أوكرانيا”. بالإضافة إلى ذلك، كانت الحدود بين “تركيا” و”الاتحاد الأوروبي” تُعد نقطة مضيئة رئيسة في أزمات المهاجرين الأخيرة في “أوروبا” ولا تزال تلوح في الأفق بشكل كبير.
ومع ذلك – يستدرك “هيس” – للاستعداد بشكل أفضل للتصعيد المحتمل لهذه القضايا الأمنية على طول “البحر الأسود”، من المهم أن نفهم تركيبة القوى في المنطقة، ومصالحها الخاصة، ولماذا أثبتت عدم قدرتها على الحفاظ على سلامته حتى الآن.
صراع القوى الكبرى في “البحر الأسود”..
ربما كان أحد أهم التحولات الإستراتيجية هو انضمام: “بلغاريا ورومانيا” إلى الـ (ناتو)؛ في عام 2004، ثم “الاتحاد الأوروبي” بعد ذلك بثلاث سنوات. نتج عن ذلك منح سفن الحلف الحربية وصولًا أفضل إلى الموانيء الموجودة في البحر، على الرغم من أن النفوذ العسكري لـ”واشنطن” في “البحر الأسود” لا يزال أقل مما هو عليه في “الخليج العربي” أو حتى “بحر الصين الجنوبي”، حيث “البحرية الأميركية” أكثر نشاطًا، ومع ذلك، بعد 18 عامًا، تواصل “روسيا” الدعوة إلى انسحاب القوات الغربية من البلدين، على الرغم من عدم أخذ هذه المناشدات على محمل الجد من قبل قيادة الـ (ناتو)؛ بحسب مزاعم التقرير.
لكن تصرفات “روسيا” في “أوكرانيا”، فضلًا عن غزوها لـ”جورجيا”؛ عام 2008، كانت مدفوعة بالإعتقاد بأنها بحاجة إلى إعادة ترسيخ أمنها من خلال دفع الغرب بعيدًا عن “البحر الأسود”. أوضح الرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، ذلك بوضوح في خطابه في “مؤتمر ميونيخ الأمني”؛ لعام 2007، والذي تحسر فيه أيضًا على قرارات “روسيا” بسحب القواعد السوفياتية في “مولدوفا” و”جورجيا”.
يُشير “هيس” إلى أنه في العام التالي، سعت “موسكو” إلى إعادة تأسيس نفسها كلاعب أمني رئيس على “البحر الأسود”؛ من خلال غزوها لـ”جورجيا”. بينما كان الغزو الروسي ظاهريًّا على منطقة “أوسيتيا الجنوبية” الانفصالية، استخدم (الكرملين) أيضًا الحرب لتدمير أسطول (تبليسي) الصغير لخفر السواحل، وقصف “ميناء بوتي” الرئيس، وإضفاء الطابع الرسمي على السيطرة على “أبخازيا”، المنطقة الواقعة على الشواطيء الشرقية لـ”البحر الأسود”.
كان هذا تتويجًا لعكس الموقف الروسي في التسعينيات، عندما فرضت عقوبات على “تبليسي” وساعدت على الضغط على “أبخازيا”؛ في محاولة للاحتفاظ بنفوذها هناك. كان قرار دعم “أبخازيا”؛ في عام 2008، مدفوعًا بفقدان “موسكو” للسلطة النسبية في المنطقة بدلاً من أي إيثار أو قناعة جديدة بالسيادة المنشودة للعرق الأبخازي؛ كما يدعي الكاتب.
كانت الصراعات الأخرى في منطقة “البحر الأسود”؛ التي حدثت بين عامي: 1991 و2008، مدفوعة بخسارة هيمنة إقليمية، مع عدم قدرة “روسيا” على منعهم من الانفصال. بدأ هذا التحول مع تولي “بوتين” السلطة وقراره تجديد الحرب على “الشيشان”. ومع ذلك، بينما حاولت “روسيا” بعنف إعادة ترسيخ موقعها، سعت قوى أخرى أيضًا إلى التوسع في الفراغ، مثل “تركيا”.
طموح تركي إقليمي..
إن دور “أنقرة” في المنطقة مهم بلا شك لأمن “البحر الأسود”، لكن التركيز بشكل خاص يستحق أن يُعطي لحقيقة أن علاقتها مع الـ (ناتو) غالبًا ما تكون متوترة – بحسب الكاتب – سواء فيما يتعلق بغزو “العراق”، والموقف من الأكراد، والحرب في “سوريا”، و”قبرص”، ومجموعة من القضايا الأخرى، إنها عضو في الـ (ناتو)، لكنها تتبع أجندتها الخاصة، لا سيما حول “البحر الأسود”، بشكل أكثر استقلالية من أي حليف آخر.
حتى الغزو الروسي الأخير لـ”أوكرانيا”؛ كانت “أنقرة” تقترب أكثر من “موسكو” وتوجت هذا بشراء نظام (S-400) المضاد للصواريخ وتكبد “عقوبات أميركية”، على مبيعات “الغاز الطبيعي”، مع إطلاق خط أنابيب (ترك ستريم)؛ في 2020. لكن “أنقرة” و”موسكو” ظلتا على طرفي نقيض من الصراع الليبي والسوري، والأهم من ذلك بالنسبة لمنطقة “البحر الأسود”، الصراع الأرمني الأذربيجاني. لقد أثبت الصراع في “أوكرانيا” أن “تركيا” – بحسب الكاتب – لا ترى مكانًا لنفسها في معسكر “موسكو”، ولكنها بدلاً من ذلك ستتنافس أو تتعاون حيث ترى إمكانية تعزيز قوتها النسبية.
ويؤكد “هيس” أنها ليست المرة الأولى في السنوات الأخيرة التي تُحاول فيها الحكومة التركية استخدام البحر ممرًا إلى وضع القوة العظمى. فتوسيع دورها في نقل “الغاز الروسي” هو تكتيك آخر، وكذلك تهديداتها بإعادة رسم “اتفاقية مونترو”، الإطار القانوني الذي يحكم الوصول إلى “البحر الأسود”. كما أن أفعالها فيما يتعلق بـ”أوكرانيا” تُذكرنا بجهد آخر مؤخرًا نجح في تعزيز موقعها الإستراتيجي حول “البحر الأسود”؛ لعبت طائراتها بدون طيار (بيرقدار) دورًا رئيسيًّا ليس فقط في دعم دفاع “أوكرانيا”؛ ولكن أيضًا في تمكين انتصار “أذربيجان” على “أرمينيا”؛ في حرب “ناغورنو كاراباخ” عام 2020.
ربما جاء أهم عمل لها في أعقاب هجوم “بوتين” على “أوكرانيا”: في 28 شباط/فبراير، أغلقت “أنقرة” الممرات بين “البحر الأبيض المتوسط” و”البحر الأسود”؛ أمام جميع السفن الحربية. أصبحت “موسكو” غير قادرة على إرسال طراد آخر لتحل محل (موسكفا) الغارقة. فيما بعد، من المُرجح أن تُثبت قدرة “أنقرة” المستمرة على التحكم في الوصول إلى “البحر الأسود”؛ أنها أكثر أهمية من أي وقت مضى منذ “الحرب الباردة”؛ بحسب التحليل الأميركي المنحاز ضد الخصم الروسي.
من الواضح أن الرئيس التركي – “رجب طيب إردوغان” لا يزال بحسب الكاتب – غير محبوب في “واشنطن” ويحتفظ بتوجسات بشأن التحالف “الأميركي-التركي” بعد محاولة الانقلاب عام 2016. ومع ذلك، فإن دور “أنقرة” في صراعات “أوكرانيا” و”ناغورنو كاراباخ”؛ يُسلط الضوء على مدى أهميتها للأمن الإقليمي، حتى لو كانت “واشنطن” لا تزال تعدها مجرد قوة إقليمية. لقد كان لتكلفة معاملة “روسيا” على هذا النحو عواقب وخيمة بالفعل، ووسط سوء إدارة الاقتصاد بواسطة “إردوغان”، لا تستطيع “الولايات المتحدة” أن تفعل الشيء نفسه فيما يتعلق بـ”تركيا”.
حتى الغزو الروسي، كان تصور “واشنطن” لتغيير سياسة القوة يُركز على “الصين” كقوة صاعدة، ومن هنا جاء إدخال مصطلحات مثل: “فخ ثوسيديدس” و”الالتفات نحو آسيا” في الخطاب العام. لذلك من المهم أن نلاحظ أن “بكين” قد وصلت كقوة ناشئة في المنطقة أيضًا، حيث يُشكل “البحر الأسود” ضلعًا في إستراتيجية “الحزام والطريق” لتوسيع الاستثمار في البنية التحتية وتطوير شبكات التجارة – لا سيما في “جورجيا وبلغاريا وتركيا”، على الرغم من أنه قد واجه صعوبات مفاجئة في “رومانيا وأوكرانيا”.
إن تردد “بكين” في دعم “موسكو” علنًا في غزوها الوحشي لـ”أوكرانيا”؛ يُعطي بعض الطمأنينة بأنها لا تتطلع إلى الإطاحة بالنظام العالمي الذي تقوده “الولايات المتحدة” (كما يدعي الكاتب معبرًا عن وجهة نظر الدعايات والآمال الأميركية). ولكن في “البحر الأسود”، تم تأسيس نظام متعدد الأقطاب.
يزعم “هيس” إن كون “البحر الأسود” يُمثل هذا الالتقاء للقوى هو عامل زعزعة للاستقرار. مع إعتقاد “إردوغان” أن بلاده آخذة في الصعود، ومحاولة “بوتين” استعادة الهيمنة الروسية على “أوكرانيا” وتحدي الهيمنة الأميركية في المنطقة وخارجها، يبدو أن القوى المتغيرة ستستمر في التجمع والاشتباك في سواحلها وحولها. كما يُثير دور “الصين” المزيد من الأسئلة أيضًا، لا سيما في ضوء التقدير الجديد لـ”البحر الأسود”؛ كطريق تجاري نظرًا إلى أهمية “روسيا وأوكرانيا” في أسواق الزراعة الدولية.
على الرغم من عدم ارتباطه عادةً بمناقشة الحروب التجارية مثل الطرق البحرية الأخرى مثل “مضيق ملقا” و”قناة السويس”، فإنه من الواضح أنه لا يحظى بالتقدير المناسب حتى من جهة حجم البضائع الهائلة المنقولة عبره فقط. سجل طريق “بحر الشمال” الروسي الذي حظي بالكثير من الاهتمام، رقم قياسي بلغ: 34.9 ملايين طن متري من البضائع؛ في عام 2021 – بينما مر: 898 مليون طن إجمالي عبر بوابة “الدردنيل”؛ في “البحر الأسود”، في عام 2021، أي نحو: 70%؛ من: 1.27 مليار طن متري في “السويس”.
إن الحروب التجارية المحتملة، واستغلال النفوذ التركي، وزيادة انتقام (الكرملين)، والهجرة ليست سوى بعض التهديدات التي تواجهها منطقة “البحر الأسود”. ويُهدد توازن القوى غير المستقر حولها بتحويلها إلى ساحة صراعات كبرى أخرى. إن تأطير “البحر الأسود” كمساحة أمنية خاصة به يسلط الضوء على مخاطر تعدد الأقطاب؛ كما يزعم الكاتب بحسب إدعاءات الآلة الدعائية الأميركية.