وكالات – كتابات :
إذا لم تُصبح “باكستان” دولة تعتمد على ذاتها، وتستغني عن الإعانات الاقتصادية التي تحصل عليها من المؤسسات المالية التي تُسيطر عليها “الولايات المتحدة”، وتكفَّ يدها عن المساعدات التي تحصل عليها من “السعودية” و”الإمارات”، فستظل تترنح في هذا الحقل الملغوم من عدم الاستقرار السياسي.
وهذا ما خلُص إليه؛ “سليم أختر مالك”، أحد قُدامى المحاربين في الجيش الباكستاني، والذي يهتم بالكتابة عن الشؤون الوطنية والدولية، والتاريخ العسكري، في مقاله المنشور بمجلة (غلوبال فيليغ سبيس”.
استهل الكاتب مقاله بالقول إن الحرب التقليدية، تتعلق بالعمليات العسكرية التي تشمل أعمالًا حربية نشطة، بما في ذلك استخدام القوة المميتة القاتلة. ويُستخدَم مصطلح: “الحرب الحركية” للمقارنة بين القوة المسلحة التقليدية والقوة “الناعمة”، بما في ذلك الآليات الدبلوماسية، وفرض العقوبات، والحرب الإلكترونية. ويتجلى التنظيم الهرمي، وهيكل القيادة، والقوة، وتوزيع الأفراد، ومعدات الوحدات، وتشكيلات القوات المسلحة في ترتيب المعركة الذي يعتمد على قوات مسلحة تُشارك في عملية، أو حملة عسكرية حركية.
وخلال الربع الأول من القرن الحادي والعشرين تتحول الحرب بسرعة من البُعد الحركي إلى البُعد غير الحركي. وهذا لا يعني أن البُعد غير الحركي للحروب كان مفقودًا في السابق. ومع ذلك أصبح البُعد غير الحركي للحروب؛ في الوقت الحاضر، الشكل السائد للقتال بين الدول. ومع مرور الوقت ستُصبح الحرب الملتهبة نتيجة طبيعية لـ”الحرب الباردة”.
ويستدرك الكاتب قائلًا: ومع ذلك ستبقى الحرب الساخنة أداة لإطلاق رصاصة الرحمة، أو الضربة القاضية في ساحة المعركة. ومن هذا المنطلق ستنتهي حروب المستقبل قبل أن تبدأ حتى.
وهذا هو السياق الذي سيُشن فيه أعداء “باكستان” عملية عسكرية واحدة فحسب؛ عندما تكون الدولة مصابة بالشلل بسبب ما تعيشه من حرب نفسية. وإذا كان هذا هو الحال، فلن يتضمن ترتيب المعركة بين الجيوش المتحاربة القوة النسبية لطرفي النزاع وتوزيعات تشكيلاتها ووحداتها فحسب، بل سيتضمن أيضًا استخدام القوة “الناعمة”، بما في ذلك الوسائل الدبلوماسية، والقدرة على توجيه أية صفعة للقوات المسلحة، بالإضافة إلى فرض العقوبات الاقتصادية على الخصم، وشن حرب إلكترونية ضد أهدافه الحيوية.
وهذا ما رأيناه يحدث في عام 1971، ورأيناه أيضًا يحدث في الآونة الأخيرة خلال الأزمة السياسية الراهنة في “باكستان”.
عمليات غير حركية..
يقول الكاتب إنه عندما نتحدث عن حرب الفضاء الإلكتروني، نجد أن العالم قد شهِد كيف استخدمت “إسرائيل”، في الماضي غير البعيد، برمجيات الكمبيوتر الضارة ضد منشأة (نطنز) الإيرانية لتخصيب (اليورانيوم).
وكانت العملية الإسرائيلية، التي أُطلِق عليها عملية: “الألعاب الأولمبية”، هجومًا سيبرانيًّا كُشِف عنه في عهد إدارة “أوباما”، وأسفر عن تعطيل حوالي ألف جهاز طرد مركزي لتخصيب (اليورانيوم)؛ في (نطنز). ويُعتقد أن هذا الهجوم تسبب في تراجع أنشطة تخصيب (اليورانيوم) الإيرانية لبضعة أشهر.
وفي عام 1968؛ شهدنا كيف تزعزع استقرار نظام “محمد أيوب خان”؛ (حكم باكستان منذ 1958 إلى 1969)، نتيجة لموجة من الأحداث غير المنطقية التي كانت على ما يبدو جزءًا من عملية غير حركية لإطاحته، بحسب الكاتب.
وبدأت الأحداث في تشرين أول/أكتوبر 1968، عندما أُوقِفت مجموعة صغيرة من الطلاب المنتسبين إلى كلية “غوردون” الحكومية في مدينة “روالبندي” الباكستانية؛ عند إحدى نقاط تفتيش الجمارك، وكان الطلاب عائدين إلى “روالبندي” بعد التسوق لشراء بعض الجوارب النسائية، وأدوات الزينة، وبعض الملابس المهرَّبة.
ويُضيف الكاتب أن الطلاب ربما يكونون قد فشلوا في التفاوض مع الجمارك من أجل تخفيض المبالغ المطلوبة. وبعد مصادرة الأغراض أفرج موظفو الجمارك عن الطلاب، وعندما عادوا إلى “روالبندي” نظم الطلاب احتجاجًا ضد تسلُّط سلطات الجمارك وتعسفها.
وسرعان ما تحولت الاحتجاجات السلمية إلى اضطرابات في جميع أنحاء البلاد. واندلعت “انتفاضة السحابة”؛ التي أزاحت “أيوب خان” من منصبه. وشُوهد مثل هذا السيناريو، الذي يطمس الخطوط الفاصلة بين الأنماط الحركية وغير الحركية للحرب، في “أفغانستان” أثناء الغزو السوفياتي؛ الذي بدأ في عام 1979 وانتهى بعد 10 سنوات عام 1989. وقد اندلعت حرب مختلطة أخرى على “أفغانستان”؛ عام 2001، شنَّها التحالف الذي تقوده “الولايات المتحدة”.
أحداث 11 أيلول..
يُشير الكاتب إلى أن هذه الحرب كانت قد بدأت بعد شهر من هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001؛ على برجي “التجارة العالمي”؛ في “نيويورك”. وزعمت “الولايات المتحدة” أن تنظيم (القاعدة) هو العقل المدبر للهجمات.
وكان تنظيم (القاعدة) مدعومًا آنذاك من حركة (طالبان)؛ التي كانت تحكم “أفغانستان” في ذلك الوقت. وكان “أسامة بن لادن”؛ العقل المدبر لـ (القاعدة)، والذي كانت بينه وبين الجيش الأميركي علاقة تعاقدية أثناء الغزو السوفياتي لـ”أفغانستان”، قد انقلب على أسياده الأميركيين واختبأ ذلك الوقت في “أفغانستان”.
ومن جانبها؛ رفضت حركة (طالبان) الاستجابة لمطالب “الولايات المتحدة” بتسليم “ابن لادن”. وحتى قبل وقوع هجمات أيلول/سبتمبر، كانت الأحداث تسير في الاتجاه الذي اتُّخذ ذريعةً للتدخل الأميركي. لكن “الولايات المتحدة”، بعد أن أنفقت حوالي: 03 تريليون دولار على جهودها الحربية في “أفغانستان”، اضطرت إلى الانسحاب المتسرع من البلاد؛ في آب/أغسطس 2021.
وشاهدنا كيف تبخر الجيش الوطني الأفغاني في مواجهة هجوم (طالبان) الشرس نفسيًّا؛ وكيف وصلت (طالبان) إلى العاصمة الأفغانية؛ كابول”، في نهاية زحف عاصف بعد انسحاب القوات الأميركية وقوات التحالف. وبعد إنهيار الجيش الأفغاني وهروب الرئيس الأفغاني؛ “أشرف غني”، من “كابول”، استولت حركة (طالبان) على حكم “أفغانستان” حتى الآن.
ويستدرك الكاتب قائلًا: ومع ذلك، وبعد بقاء “أفغانستان” في حالة من الشلل لمدة عام تقريبًا، استعاد الأميركان المنسحبون قوتهم جزئيًّا بعد الصدمة التي تعرضوا لها جراء الإنهيار المفاجيء، وأعادوا تنظيم أنفسهم للعمل على زيادة زعزعة الاستقرار في “أفغانستان”، والدول المجاورة لها، لا سيما “باكستان”، حيث قاموا بهندسة تغيير النظام من خلال أحصنة طروادة الخاصة بهم. ويُعيدنا ذلك إلى البُعد غير الحركي للحروب.
واقع مرير..
يُلفت الكاتب إلى أن “الولايات المتحدة” وحلفاءها الأوروبيين يُسيطرون على الأنظمة المالية والمصرفية العالمية من خلال “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” و”البنك الآسيوي” والبنوك التجارية الأخرى. وتُعد مجموعات العمل المالي أداة أميركية أخرى لإجبار الدول غير المطيعة على الخضوع.
ويُخبيء حكام العالم الثالث والرابع المستبدين، أو ما يمكن تسميتهم بحكام الديمقراطية الزائفة، بالإضافة إلى نخبة الأثرياء الفاسدة، ثرواتهم المنهوبة في البنوك الغربية.
ويمكن لـ”الولايات المتحدة” و”الاتحاد الأوروبي”؛ في أي وقت، الضغط على هؤلاء الحكام الفاسدين عن طريق حظر حساباتهم المصرفية الأجنبية. ولهذا السبب لا يمكن للسعوديين، والإماراتيين، والتابعين لـ”نواز شريف”؛ (رئيس وزراء باكستان السابق)، والتابعين لـ”آصف علي زرداري”، (رئيس باكستان السابق)، عندما يكونون في السلطة أن يجرءوا على إزعاج أسيادهم الغربيين، بحسب وصف الكاتب.
إن الأميركيين لا يحتقرون حركة (طالبان) بسبب إيديولوجيتهم الإسلامية، أو لأنها تُريد فرض حكم ثيوقراطي في “أفغانستان”، إذ إن الحكم الديمقراطي الحقيقي القائم على تقاليد التعددية غير موجود في غالبية الدول الإسلامية، فالأنظمة الحاكمة في “السعودية” وغيرها من الدول الواقعة على حدودها الشرقية؛ (دول الخليج)، هي أنظمة ملكية مطلقة تلتزم بقوانين الشريعة الإسلامية ولو من الناحية النظرية على الأقل.
وحتى “إيران”؛ التي تُعد عدوًا لـ”الولايات المتحدة”، لا يُعاديها الأميركان بسبب إيديولوجيتها الأصولية؛ إذ تتعاون “الولايات المتحدة” مع “إيران”؛ كلما كان ذلك سببًا في تحقيق مصالحها الإستراتيجية، وهذا يتجلى بوضوح عندما زوَّدت “الولايات المتحدة”؛ “إيران”، بصواريخ (تاو) المضادة للدبابات؛ عبر “إسرائيل”، في ذروة حربها مع “العراق”؛ إبان عهد “صدام حسين”.
وتُعادي “الولايات المتحدة”؛ “إيران”، لأنها تعتقد أن ملالي “إيران”، حتى لو كان ذلك بمثابة حيلة سياسية لإطالة أمد حكمهم، يُشكِّلون تهديدًا وجوديًّا على “إسرائيل”.
حقل ملغوم من عدم الاستقرار السياسي..
ينوِّه الكاتب إلى أنه إذا قالت “الولايات المتحدة” ورئيسها الحالي؛ “جو بايدن”، الحقيقة ولو لمرة واحدة، ستكون أنها لم تذهب إلى “أفغانستان” من أجل بناء الدولة وإقامة نظام ديمقراطي، وأنها غزت “أفغانستان” لاستخدامها منطقة حشد لتوسيع نفوذ “الولايات المتحدة” في “جمهوريات آسيا الوسطى” الغنية بالموارد. وبحسب “زبيغنيو بريغنسكي”؛ (1998)، مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأميركي السابق؛ “رونالد ريغان”، تُعد قارة “أوروآسيا” موطنًا لثاني أكبر احتياطيات نفطية في العالم.
وفي ختام مقاله يؤكد الكاتب؛ أنه إذا لم تُصبح “باكستان” من البلدان التي تعتمد على ذاتها، وتستغني عن الإعانات الاقتصادية التي تحصل عليها من المؤسسات المالية التي تُسيطر عليها “الولايات المتحدة”، أو المساعدات التي تحصل عليها من “السعودية والإمارات”، فستظل تتخبط في هذا الحقل الملغوم من عدم الاستقرار السياسي.