حكم قضائي ظاهره مصلحة الحريات داخل مصر، بينما باطنه يشير لمرحلة مقبلة في عمر “أم الدنيا” لا مكان فيها لكل من يفكر أو يظن أنه قادر على التحرك رسمياً لمناقشة الأوضاع الحقوقية هناك سواء حقوق العمال أو الفقراء والمهمشين أو أي شيء يتعلق بحقوق الإنسان.
فمع رفض محكمة مصرية، وهي الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة برئاسة القاضي “بخيت إسماعيل” نائب رئيس مجلس الدولة في يوم الثلاثاء 14 شباط/فبراير 2017، قبول الدعوى المقامة من المحامي المصري شحاتة محمد شحاتة، مطالبة بإغلاق مقار منظمة “هيومان رايتس ووتش” وجميع المنظمات الأجنبية التي تعمل فى مصر بدون ترخيص، لإنتفاء القرار الإداري، تظن للوهلة الأولى أن الدولة قد أنصفت تلك المنظمات الأجنبية وفتحت أبوابها للحريات ومنحتها فرصة لتوفيق أوضاعها.
لكن ما ذكرته المحكمة في حيثيات حكمها يضع مسئولية كبيرة أمام أجهزة الدولة المصرية ويحثها على مطاردة بل وغلق تلك المنظمات بالقوة.
براءة بمذاق الإعدام
تقول حيثيات الحكم إنه “بعد ما ثبت من الإطلاع على الأوراق أن وزارة التضامن – الوزارة المسؤولة عن الترخيص لمنظمات المجتمع المدني – لم ترخص لتلك المنظمة، أو للمعهد الديمقراطى الأميركى، أو لمنظمة فريدوم هاوس، بممارسة أي نشاط داخل مصر وبالتالي فليس على وزارة التضامن إتخاذ قرار إدارى تجاه هذه المنظمات سواء بوقف نشاطها أو سحب ترخيصها أو غلق مقارها.
وهنا تلقي المحكمة الكرة بملعب وزارة الداخلية المصرية، لملاحقة منظمة “هيومان رايتس ووتش” وغيرها من المنظمات الأجنبية غير المرخص لها بالعمل داخل مصر، على أساس أن هذه المنظمات لا تملك ترخيصاً بالعمل فى البلاد، وبالتالي يقع عبء التصدي لها بإعتبارها تمارس نشاطاً ينطوى على المساس بأمن الوطن وسلامته ووحدته، وفق نص الحيثيات.
تتهم المحكمة منظمة هيومان رايتس بممارسة نشاط داخل البلاد وإصدارها تقريراً عن فض إعتصامى رابعة والنهضة التابعين لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين الرافضين لعزل الرئيس السابق محمد مرسي في 2013، تضمن الكثير من المغالطات اعتبرته – المحكمة – إنتهاكاً لسيادة الدولة على أراضيها، وتدخلاً فى الشئون الداخلية لمصر، وتقول إن “ذلك التقرير جاء على نحو غير محايد واعتمد على شهود مجهولين وتجاهل شهداء الوطن من أبناء الجيش والشرطة”.
غير مسموح
لم تتوقف حيثيات المحكمة هنا، بل تصدرت توصياتها بأن هذه المنظمة بثت تقريرها المشبوه إلى دول خارج مصر ما يسيء إلى سمعة الدولة، وأن “الإجراء المطلوب تجاه هذه المنظمة وغيرها، طالما لم تحصل على ترخيص بممارسة نشاطها داخل مصر لا يكون من وزارة التضامن كما تقدم، وإنما يقع على عاتق سلطات الدولة الأخرى وبخاصة وزارة الداخلية، التى ناط بها الدستور والقانون الحفاظ على أمن الوطن وسلامته ووحدته سواء فى الداخل أو الخارج والذود عن مصالحه تجاه كل من يجرؤ على المساس بها”، ما يعني أن القضاء المصري المستقل يعتبر صدور تقرير من أي منظمة أجنبية حقوقية ينتقد أوضاعاً أو ربما مجرد التلميح بإنتقاد سلطات الدولة أو أي جهة تنفيذية بها، أمر غير مسموح به يستوجب الملاحقة والطرد الفوري من الأراضي المصرية.
الغلق.. بالنوايا
يلمح الحكم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى أنه سيكون لسان حال الدولة في المستقبل، حتى وإن تقارب الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والمصري عبد الفتاح السيسي، لا مكان للمنظمات الحقوقية الأجنبية التي تسير على عكس هوى الدولة المصرية، ولو كان الحكم بالنوايا وهو ما يتضح من نص الدعوى المقامة: “فوجئنا بمنظمة “هيومان رايتس ووتش” الأميركية تصدر تقريرًا غير طيب النوايا عن هذه الأحداث…”، فهل تغلق وتلاحق مصر المنظمات الحقوقية لمجرد النوايا؟
واستمراراً لهذه الحالة غير الواضحة لحقوق الإنسان في مصر، يأتي دور مركز حقوقي مصري وهو “مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان” بمطالبة مجلس القضاء الأعلى، في الثلث الأوسط من شباط/فبراير 2017، بوقف العمل بقانون التجمهر في المحاكم المصرية لحين فصل القضاء الإداري في دعوى تفعيل إلغائه.
التجمهر بأمر الاحتلال
المركز الحقوقي المصري و23 شخصية عامة حقوقية وقانونية وسياسية مصرية، يطالبون في دعوتهم بوقف العمل بهذا القانون، وإلغاء القرار السلبي بإمتناع السلطة التنفيذية عن نشر قانون إلغاء قانون التجمهر في الجريدة الرسمية، وذلك حتى لا يستمر الإعتداء على ركائز العدل والإنصاف، وسلب حرية المواطنين المصريين ومعاقبتهم ظلمًا بقانون ملغي، بحسب نص الخطاب.
يقول مركز القاهرة إنه اثبت في تقريره المعنون بـ”نحو الإفراج عن مصر”، بالوثائق والمستندات، أن “القانون رقم 10 لسنة 1914 بشأن التجمهر، والصادر من 103 عام بإيعاز من سلطة الإحتلال البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى، قد ألغاه البرلمان المصري بغرفتيه في كانون الثاني/يناير 1928، إلا أن تعنت الملك فؤاد الأول حال دون نشر قانون إلغاء قانون التجمهر في الجريدة الرسمية، واستمرار العمل بهذا القانون الملغي حتى يومنا هذا”.
ويلفت المركز النظر إلى أن التقرير الذي أعده، يبين كيف وظفت حكومات ما بعد الإستقلال – بحسب الصيغة التي يستخدمها التقرير – هذا القانون لقمع حق المصريين في التجمع والإحتجاج السلمي على مدى عقود، مبينًا كيف تم تغليظ عقوبات القانون لاحقًا لمعاقبة المتظاهرين على نحو أشد قسوة، من ذاك الذي لجأ إليه الإستعمار في مواجهة إحتجاجات المصريين.
يبين المركز أن هذا الخطاب لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقه خطاب من المركز للدكتور على عبد العال رئيس مجلس النواب المصري الحالي، يطالبه بان يضطلع البرلمان بدوره في تفعيل وقف العمل بقانون التجمهر إتساقًا مع قرار البرلمان المصري الذي سبق وألغى القانون من 89 عامًا.
غضب مكتوم
المؤكد أن هناك حالة من الغضب “المكتوم” لدى بعض الحقوقيين في مصر، ونستعرض هنا ما ذكرته هيومان رايتس مونيتور نصاً في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، من أنه على الحكومة المصرية أن ترفع يدها عن منظمات المجتمع المدني وألا تتخذ الخطوات القمعية التي تعدها من أجل تطويع منظمات المجتمع المدني أو غلقها بناء على قوانين قمعية.
وترى المنظمة في تقريرها أن هناك الآلاف من المنظمات الحقوقية غير حكومية مهددة بالغلق والإستيلاء على ممتلكاتها والسجن بتهم جنائية لأعضائها وتغريمهم مبالغ طائلة، بالإضافة إلى عدم إمكانية الطعن على هذه القرارات في مصر.
ويعبر عدد من خبراء الأمم المتحدة عن قلقهم من إستخدام مصرقوانين من شأنها عرقلة عمل المجتمع المدني وخاصة المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان، حيث يشترط على هذه المنظمات الحصول على إذن مسبق من وزارة التضامن الإجتماعي قبل ممارسة أي نشاط، وهو ما يعطي الحكومة الحق في المراقبة والتحكم بعمل المؤسسات ومصادرة تموليها سواء محلياً أو دولياً.
تعتيم حقوقي
وتزعم مؤسسة “هيومن رايتس مونيتور” أنه إلى جانب قمع حرية التعبير وتقييد المؤسسات المختلفة، “فإن مصر ستعاني تعتيماً أكثر على إنتهاكات حقوق الإنسان نظراً لأن عدداً كبيراً من المنظمات المهددة بالإغلاق هي التي تعمل على فضح وكشف هذه الإنتهاكات للرأي العام المصري والدولي”.
من المعروف أن قانون العقوبات المصري جرى تعديله في 21 أيلول/سبتمبر 2014، لترتفع عقوبة تلقي التمويل الأجنبي بقصد الإضرار بالمصلحة الوطنية إلى السجن مدى الحياة او الإعدام، مما يسبب إرهاباً شديداً للمنظمات وشللاً كاملاً في عملها، نظراً لبقائها مهددة طوال الوقت، هكذا يرى الحقوقيون.. بينما على الوجه الآخر يرى النظام المصري أنه بهذه الإجراءات يحمي الدولة وأركانها من أي عبث خارجي أو داخلي ممول من الخارج يهدد إستقرارها.
العديدد من المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية أغلقت مكاتبها وجمدت أنشطتها مثل “المنظمة العربية للإصلاح الجنائي”، والتي أعلنت تجميد نشاط المؤسسة بسبب التضييق على المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان، وكذلك “مركز كارتر لمراقبة الديمقراطية” الذي أعلن إغلاق مكتبه في مصر مصرحاً بأن البيئة الحالية في مصر لا تساعد على تنمية المشاركة المدنية الديمقراطية.
ويتوقع العديدون استمرار قمع الحريات في مصر بعد تلقي تهديدات للمنظمات الحقوقية والعاملين بمجال حقوق الإنسان بالإعتقال وإتخاذ إجراءات إنتقامية ضدهم مما دفع 7 منظمات إلى الإمتناع عن المشاركة في أية فاعليات على هامش الإستعراض الدوري الشامل لمصر في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 بجنيف، وقام عدد من المنظمات بإلغاء مؤتمرات كان من المقرر تنظيمها على هامش جلسة مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
العهد الدولي
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ تؤكد هيومان رايتس مونيتور على تلقي تهديدات بالإعتقال والتعرض للعنف الجسدي ما اضطر العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان لمغادرة البلاد قبل إلقاء القبض عليهم, بحسب زعم المنظمة التي يتهمها الإعلام المصري بأنها تابعة وتدعم جماعة الإخوان المسلمين المصنفة كجماعة إرهابية بحكم قضائي في مصر.
الإنتقادات مستمرة من الحقوقيين والمطالبات فقط “بتطبيق المادة 22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي يضمن الحق في حرية تكوين الجمعيات وكذلك في إعلان الأمم المتحدة الخاص بالمدافعين عن حقوق الإنسان والفقرة 5 من قرار الجمعية العامة 2009 المتعلق بالمدافعين عن حقوق الإنسان، والتي تنص على إحترام الدول للحق في حرية التعبير وتكوين الجمعيات للمدافعين عن حقوق الإنسان وأن تحمي وتكفل ذلك الحق، وأن تكفل في هذا الـصدد، في حال وجود إجراءات تنظم تسجيل منظمات المجتمع المدني، أن تكون تلك الإجـراءات شـفافة وغير تمييزية وسريعة وغير مكلفة، وأن تتيح إمكانية الطعن وتتجنب اشتراط إعـادة التسجيل، وأن تكون متسقة مع التشريعات الوطنية ومتماشية مع القانون الدولي لحقوق الإنسان”.
ضغوط أم توافق؟
فهل ترضخ الحكومة المصرية والرئيس السيسي لضغوط منظمات المجتمع المدني الحقوقية برفع القيود عنها ومنحها حرية التحرك والتعبير، أم أن القضاء قال كلمته وأعطى الضوء الأخضر لسلطات الدولة بملاحقة وإغلاق جميع المنظمات التي لم ترخص – وأغلبها كذلك – ولو بالقوة؟
في المقابل، هل تقف منظمات حقوقية قوية كـ”هيومان رايتس ووتش” موقف المتفرج من الإجراءات المتخذة ضدها وغيرها في مصر.. أم ستصعد.. وكيف سيكون التصعيد.. هل ستتدخل الأمم المتحدة وتضغط على مصر.. هل من المتوقع ان يتدخل الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتأثير على نظيره المصري، إما بالضغط السياسي أو بالتلويح بسلاح المعونات العسكرية والمادية؟.. أسئلة تتكشف إجاباتها قريباً، إما بتوافق مصري أميركي على ترك الرئيس السيسي يقود بلده دون ضجيج وتحرشات المنظمات الحقوقية.. أو بمقابل ربما يفرض على مصر!