وكالات – كتابات :
سلَّطت “كيتلين تالمادغ”، أستاذة الدراسات الأمنية بجامعة “جورج تاون”، الضوء على التجربة التي أجرتها “روسيا” بإطلاق صاروخ جديد طويل المدى، مدعية أن “الولايات المتحدة” كانت على علم مسبق بهذه التجربة، وما الذي يعنيه ذلك، وذلك في تقريرها المنشور بصحيفة (واشنطن بوست) الأميركية.
استهلت الكاتبة تقريرها بالقول: إن التجربة الأحدث التي أجرتها “روسيا” لصاروخ نووي طويل المدى؛ جدَّدت المخاوف المثارة بشأن تصعيد الحرب الحالية في “أوكرانيا”. وانقسم المحللون في نظرتهم إلى هذه التجربة بين فريق يرى أنها دليل على عزلة الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، مع استمرار حملته غير المُوفَّقة، وفريق آخر يرى أنها علامة على قرع طبول الحرب النووية. وكان “بوتين” نفسه قد حذَّر من أن الصاروخ الروسي سوف: “يجعل هؤلاء الذين يتبنُّون خطابًا عدوانيًّا محمومًا، في محاولة لتهديد بلادنا، يفكرون مرتين”.
ويوضح التقرير أن الأخبار السارَّة في هذه المسألة تتمثل في أن “روسيا” أبلغت “الولايات المتحدة” مسبقًا بإجرائها للتجربة، وهو ما يُعد في حقيقة الأمر تذكيرًا قويًّا بأهمية معاهدات الحد من التسلُّح بين طرفي النزاع. في حين أن الخبر السييء يتمثل في أن هذا النوع من الحد من التسلُّح مُعلَّق حاليًا بخيطٍ رفيع بين “الولايات المتحدة” و”روسيا”، ويكاد يكون غير موجود بين “الولايات المتحدة” و”الصين”.
ما الذي اختبرته “روسيا” بالضبط ؟
يُنوِّه التقرير إلى أن “روسيا” تعمل على تطوير صاروخ (باليستي) عابر للقارات؛ (ICBM)، متعدد الرؤوس من طراز (سارمات)؛ منذ عدة سنوات، بزعم أنه يُمكنه اختراق دفاعات أي خصم. وعلى الرغم من أن تجربة الصاروخ هذا الأسبوع لم تستخدم سوى الرؤوس الحربية الوهمية، إلا أن قدرة الصاروخ على حمل مركبات انزلاقية بسرعات فائقة للصوت جعلت “بوتين” يصف الصاروخ بأنه: “سلاح فريد”، كما وصفه مسؤول روسي بارز بأنه: “سلاح فتَّاك خارق”.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذا الصخب الروسي بشأن تجربة الصاروخ، كانت استجابة (البنتاغون) تتَّسم برباطة الجأش والإتزان، ولكن لماذا ؟.. لأن “روسيا” أبلغت “الولايات المتحدة” بالإطلاق التجريبي المخطط له بموجب نظام الإخطار المسبق بإطلاق صواريخ تجريبية، والذي يُعد جزءًا من معاهدة (ستارت) الجديدة التي مدَّدتها “أميركا” و”روسيا”؛ في العام الماضي؛ على حد مزاعم الكاتبة.
واستنادًا إلى هذا الإطار يلتزم كلٌ من “الولايات المتحدة” و”روسيا” بتقديم إخطار مسبق بشأن تجارب الصواريخ حتى لا يُساء فهمها بأنها عمليات إطلاق صواريخ حقيقية. ويُساعد هذا الإطار في تجنُّب السيناريو الأسوأ: يعتقد أحد الطرفين خطأً أن الطرف الآخر قد شنَّ هجومًا نوويًّا، وبناءً على هذه المعلومات الخاطئة، يتعامل مع الهجوم بشنِّ هجوم نووي من جانبه. وفي هذا الأسبوع نجح نظام الحد من التسلُّح في عمله على النحو المحدد له تمامًا. وقالت “وزارة الدفاع” الأميركية؛ (البنتاغون)، في بيان بعد الإطلاق: إن “مثل هذه التجارب اعتيادية، وليست مفاجئة. ولم نفترض أن هذا الاختبار يُمثل تهديدًا للولايات المتحدة أو حلفائها”.
ويدعي التقرير الأميركي أن هذا: “الحدث غير المهم”، الأزمة التي لم تحدث عندما اختبر الروس صاروخًا نوويًّا في خضم حرب تقليدية كبرى ضد “أوكرانيا”؛ التي تدعمها “الولايات المتحدة”، يُعد مثالًا بارزًا على استمرار قيمة الجهود العالمية للحد من التسلُّح النووي.
الحد من التسلُّح يُقلل من المخاطر.. ولكن ليس من الأسلحة بالضرورة..
يُلفت التقرير إلى أن الحد من التسلُّح غالبًا ما يُفهم على أنه عمليات تقليص أو قيود ثنائية تُفرض على الترسانات النووية للدولتين. وهذا هو النمط الذي اتَّخذته جهود الحد من التسلُّح بين “الولايات المتحدة” و”الاتحاد السوفياتي”؛ بدايةً من المحادثات الأولية للحد من الأسلحة الإستراتيجية؛ في عام 1972. واستمر هذا النهج في تعريف الحد من التسلُّح بين “الولايات المتحدة” و”روسيا”؛ منذ نهاية “الحرب الباردة”.
بيد أن الحد من التسلُّح، كما خلُص العالمان: “توماس شيلينغ” و”مورت هالبرين”؛ في دراسة كلاسيكية، عام 1961، يُمكن أن يكون أوسع من ذلك بكثير. ويشمل مفهوم الحد من التسلُّح: “جميع أشكال التعاون العسكري بين الخصوم المحتملين من أجل تقليل احتمالات نشوب أي حرب والحد من نطاقها وشِدَّتها إذا اندلعت، والتقليل من التكاليف السياسية والاقتصادية للاستعداد لها”.
ولا يتطلب الحد من التسلُّح إقامة علاقات سياسية وثيقة أو ودية. وكما أوضح كلٌ من “شيلينغ” و”هالبرين”، يعتمد الحد من التسلُّح على: “الاعتراف بأن علاقتنا العسكرية مع أعدائنا المحتملين ليست علاقة صراع ومعارضة خالصَتَيْن، ولكنها تنطوي على عناصر قوية ذات اهتمامات مشتركة”. ومن وجهة نظر “الولايات المتحدة” و”روسيا” تضمَّنت هذه العناصر ذات الاهتمام المشترك؛ منذ وقت طويل، تجنُّب التفسير الخاطيء لعمليات الإطلاق التجريبية من جانب الطرف الآخر.
الحد من المخاطر بين الولايات المتحدة وروسيا ليس جديدًا..
أفاد التقرير أنه على مدار العقود الماضية؛ كانت لدى “الولايات المتحدة” و”روسيا” آليات أخرى في حقيقة الأمر للحد من المخاطر النووية أيضًا، وذلك ليس على الرغم من العلاقات السياسية السيئة، ولكن بسببها. فعلى سبيل المثال، وبعد أزمة الصواريخ الكوبية؛ التي وقعت عام 1962، أنشأ الطرفان خطَّ اتصالٍ مباشرًا لتمكين كبار القادة السياسيين من التواصل بسرعة وعلى نحو مباشر عند حدوث أي أزمة، ولا تزال هناك قناة تواصل مماثلة تربط بين “الولايات المتحدة” و”روسيا” حاليًا.
وعلى نحو مماثل أنشأت “الولايات المتحدة” و”روسيا” خطًّا ساخنًا للحيلولة دون حدوث تضارب بين مصالح الطرفين أثناء الحرب؛ في “سوريا”، لكي لا يضرب أيٌّ منهما قوات الطرف الآخر دون قصد. بل في عام 2017؛ حذَّرت “الولايات المتحدة”؛ “روسيا”، مسبقًا قبل أن تشن هجومًا على قاعدة جوية سورية تقيم فيها قوات روسية، من أجل تجنُّب وقوع أي خسائر في صفوف القوات الروسية. وكان من الممكن أن تُسفر مثل هذه الغارة البارزة عن حدوث خسائر روسية؛ مما يؤدي إلى تصعيد الضغط بصورة هائلة من أجل استجابة روسية؛ ما يُهدد بتصعيد أوسع نطاقًا بين الطرفين.
وأنشأت “الولايات المتحدة” و”روسيا” مؤخرًا خطًّا ساخنًا مشابهًا للحيلولة دون حدوث تضارب لتفادي التصعيد غير المتعمد في الحرب الأوكرانية. وتُعد كل هذه الآليات أنماطًا للحد من المخاطر تتجاوز نطاق الرؤية المشتركة للحد من التسلُّح بوصفها معاهدات للحد من التسلُّح، ولكنها مع ذلك تُساعد في تحقيق النتيجة الأساسية التي يُريدها الطرفان: مزيد من: “الأحداث التي هي والعدم سواء”.
لماذا يُعد الحد من المخاطر أمرًا بالغَ الأهمية..
يُؤكد التقرير أن احتمالية توقيع “واشنطن”، و”موسكو”، و”بكين”، على اتفاق ثلاثي واسع النطاق للحد من أسلحتهم النووية في أي وقت قريب يظل احتمالًا ضعيفًا. وأدَّت العلاقة السياسية المتصاعدة بين “الولايات المتحدة” و”روسيا”، بالإضافة إلى ظهور “الصين”؛ بصفتها قوة عظمى ثالثة مسلَّحة نوويًّا، إلى تعقيد احتمالات الحد من الأسلحة التقليدية القائمة على المعاهدات كما نعرفها. إن عدم التماثل في الترسانات النووية للدول الثلاث، والتي تتضمن حاليًا أنواعًا مختلفة جدًّا من الأسلحة، تجعل تحقيق ذلك صعبًا.
وأوضح بعض المسؤولين في “بكين” مرارًا وتكرارًا أنهم لا يهتمون كثيرًا بالسعي إلى إبرام معاهدة للحد من التسلُّح. وكانت “الصين” أيضًا شديدة التحفظ على المشاركة حتى في أشكال محدودة للحد من المخاطر، مثل الحوار المنتظم الرفيع المستوى بين القادة السياسيين أو الاتصالات العسكرية في المياه المزدحمة بصورة متزايدة في غرب “المحيط الهاديء”. وتُظهِر الحرب في “أوكرانيا” قيمة مثل هذه الحوارات، حتى بين الأعداء المنخرطين في أي صراع فعلي. ومن الأفضل وضع تدابير للحد من المخاطر بين الخصوم في زمن السلم، بحيث يكون هناك أساس لمزيد من التواصل عندما تحدث أزمة أو تندلع حرب.
وفي ختام تقريرها؛ تُرجِّح الكاتبة أن هذه الآليات يمكن أن تكون جزءًا من ترتيبات مُلزِمة قانونًا، مثل نظام الإخطار المسبق بإطلاق صواريخ تجريبية، والذي تجلَّى بوضوح هذا الأسبوع، أو يُمكن أن تتطور بصورة غير رسمية، على غرار قنوات الاتصال، التي ظهرت في “سوريا” وفي “أوكرانيا” حاليًا؛ لمنع حدوث تضارب في المصالح. ومهما كان الشكل الذي تتخذه آليات الحد من التسلُّح، فإن إجراءات الحد من المخاطر لضمان مزيد من: “الأحداث التي هي والعدم سواء” تظل تشكِّل مصلحة متبادلة قوية بين “الولايات المتحدة”، و”روسيا”، و”الصين”، كما تؤكد التجربة الروسية للصاروخ النووي هذا الأسبوع.