وكالات – كتابات :
تسعى “الصين”؛ منذ سنوات، للانفصال عن النظام المالي العالمي الذي يقوده “الدولار الأميركي”، فهل تتسبب الحرب في “أوكرانيا”؛ في تسريع التغيير الدراماتيكي وخلق مجال نفوذ إستراتيجي خاص بـ”بكين” ؟
مجلة (فورين بوليسي) الأميركية؛ رصدت القصة في تحليل عنوانه: “الصين تُعيد تقييم نفوذ الغرب المالي بعد الأحداث الأوكرانية”، كشف عن التأثير العالمي لـ”العقوبات الغربية” ضد “روسيا”، وكيف أدت تلك العقوبات إلى زيادة القلق من سيطرة الغرب على الاقتصاد العالمي بالصورة الحالية.
كانت “روسيا” قد تعرضت لحملة عقوبات شعواء فرضها الغرب على “موسكو”؛ منذ بدء الهجوم على “أوكرانيا”، وبدأ فرض “العقوبات الغربية”؛ منذ أن أعلن الزعيم الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، الأحد 21 شباط/فبراير 2022، الاعتراف باستقلال: “لوغانسك” و”دونيتسك” في “إقليم دونباس” الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحِدّتها وشمولها مع بدء الهجوم على “أوكرانيا”، الخميس 24 شباط/فبراير.
ومع تواصُل الهجوم الروسي على “أوكرانيا” تزايدت بشكل متسارع عزلة “روسيا” على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والرياضية، وحتى الثقافية والسينمائية، وطالت تلك العقوبات رجال “بوتين” المقربين وثرواتهم في الدول الغربية، ولم ينجُ منها أحد.
الانفصال الاقتصادي الذي تُريده “الصين”..
ويبدو أن “العقوبات الغربية”؛ المفروضة ضد “روسيا” بسبب عمليتها العسكرية الخاصة في “أوكرانيا”، على وشك أن تُسرّع من عملية الانفصال الاقتصادي الجارية بين “الولايات المتحدة” و”الصين”، خاصةً في حال استغلت “بكين” الفرصة لتعزيز الجاذبية العالمية لعُملتها وهيكلتها المالية.
إذ إن حظر وصول “موسكو” إلى نحو نصف احتياطياتها من “الذهب” والعُملات الأجنبية، التي تُقدر: بـ 630 مليار دولار، كان بمثابة استعراض من “واشنطن” لحجم النفوذ المالي، الذي لا يزال في أيدي الغرب. ما سيقوي دون شك عزم “الصين” على الإلتزام بمسارها الإيديولوجي الخاص وخلق مجال نفوذها الجيوسياسي.
ولا شك أيضًا أنّ العقوبات من هذا النوع؛ ستُسرع على الأرجح من تشعُّب النظام الاقتصادي والمالي العالمي، وهي العملية التي وصفتها شركة (Enodo Economics)؛ قبل بضع سنوات: بـ”الانفصال الكبير”، حيث سيكون الإكتفاء الذاتي الاقتصادي بمثابة ميزةٍ مهمة في النظام الجديد الناشيء.
فـ”الصين” ليست الدولة الوحيدة التي رفضت إدانة الهجوم الروسي، وأعربت عن مخاوفها إزاء العقوبات. وأي دولة لم تشعر بالإرتياح نتيجة استعراض الغرب الوحشي للنفوذ المالي الحكومي؛ سوف تختار التحوط من اعتمادها على “الدولار” بالمشاركة في البدائل الروسية والصينية.
“روسيا” تعرضت لعقوبات غربية غير مسبوقة بعد الهجوم على “أوكرانيا”..
ومن الجدير بالذكر هنا؛ أن العلاقات بين “بكين” و”واشنطن” تُعتبر مصدر قلق كبير بالنسبة لباقي دول العالم، فـ”الولايات المتحدة” و”الصين” تُمثلان الاقتصادين الأكبر عالميًا، وبالتالي فإن تحول “الحرب الباردة” والمنافسة المستعرة بينهما إلى صراع مفتوح وانفصال فعلي ستكون له تداعيات خطيرة يتأثر بها جميع سكان الكوكب.
ومنذ أن بدء الهجوم الروسي على “أوكرانيا”، الذي تصفه “موسكو” بأنه: “عملية عسكرية خاصة”؛ ويصفه الغرب بأنه: “غزو”، اتخذت العلاقات بين “بكين” و”واشنطن” مُنحنى تصعيديًا خطيرًا أدى إلى تضخم المخاوف من أن يشهد العالم حربًا باردة تكون أكثر سخونة، على خلفية قضية “تايوان” تحديدًا، ونشرت صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية تحليلاً عنوانه: “هل تكون تايوان الحرب التالية ؟”، رصد سيناريوهات تلك المواجهة التي باتت محتملة.
فـ”الصين” تُطالب بضم جزيرة “تايوان”؛ منذ انفصالها عن البر الرئيس في عام 1949، وتنظر إلى هذه القضية باعتبارها أولوية قصوى لها، وكان مسؤولون صينيون قد أكدوا مُجدَّدًا إلتزامهم: بـ”حل قضية تايوان”، بعد أيام من بداية الهجوم الروسي على “أوكرانيا”. وفي مكالمة هاتفية، الجمعة 18 آذار/مارس، مع الرئيس؛ “جو بايدن”، بشأن الهجوم الروسي، بدا الزعيم الصيني؛ “شي جين بينغ”، قلقًا بشأن مصير “تايوان” أكثر من الحرب في “أوكرانيا”.
هل حان وقت إزاحة “الدولار” عن عرشه ؟
لكن بعيدًا عن الشق السياسي والعسكري يُمكن القول إن التنبؤات بإزاحة “الدولار” عن عرشه، باعتباره العُملة الاحتياطية الأبرز، هي قديمةٌ قِدم الشمس. ولكن إذا اختارت “الصين” جعل نظامها المالي ونظام مدفوعاتها العابر للحدود أكثر جاذبية، وعززت مكانة الرنمينبي، فمن المحتمل أن تتراجع هيمنة العُملة الخضراء مع الوقت، بحسب تحليل (فورين بوليسي).
لكن “الصين” كانت حذرةً للغاية في هذا الصدد، إذ يجب أن تضمن عدم انتهاك مصارفها لـ”العقوبات الغربية”؛ في حال زادت خطوط الائتمان الممنوحة لـ”روسيا”، كخدمةٍ لرئيسها “فلاديمير بوتين”.
وبالنظر إلى أن نحو: 75% من فواتير البضائع الصينية المتداولة تُدفع بـ”الدولار”؛ فإن حظر “الصين” من نظام “مقاصة الدولار” و(السويفت) ستكون له تداعياتٌ لا تُحتمل على المصارف الصينية والاقتصاد العالمي معًا.
والمسار المُرجح هنا، بحسب المجلة الأميركية، هو أن تُسرّع “الصين” من تطوير نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود؛ (سيبس-CIBS)، واستخدامه حول العالم في إجراء معاملات “الرنمينبي”.
إذ أطلق “بنك الشعب” الصيني نظام (سيبس)؛ في عام 2015، لتقليل حاجة البلاد للعمل بـ”الدولار”؛ عبر المصارف الأميركية. وبنهاية آذار/مارس، كان نظام (سيبس) يضم: 76 عضوًا مباشرًا غالبيتهم من المصارف المحلية، إلى جانب: 25 عضوًا من مصارف المقاصة الأجنبية. كما يمتلك نظام (سيبس) منصة تراسله الخاصة، لكنه يعتمد على (السويفت) في الوقت الراهن.
“الدولار” رمز الهيمنة الأميركية..
ويُمكن القول إن (سيبس) يُعتبر نظامًا ضئيلاً عند مقارنته بـ (السويفت) ونظام غرفة المقاصة للمدفوعات بين البنوك؛ (شيبس)، لكنه سيحظى بدفعةٍ قوية على الأرجح بعد “العقوبات الغربية” ضد “روسيا”.
ولا خلاف على أن منظومة المدفوعات العالمية ستستفيد من حدوث هزةٍ تنافسية. فبعكس أنظمة الدفع الإلكتروني المحلية سنجد أن المدفوعات الآمنة والسريعة والمريحة عبر الحدود تستغرق أيامًا لتسويتها، مع تكلفةٍ أكبر: بـ 10 مرات.
وإلى جانب (سيبس)، سيكون لدى عُملة “اليوان” الرقمي؛ (e-CNY)، الصينية الوليدة دور مهم لتلعبه في تعزيز جاذبية “الرنمينبي” عالميًا.
من الذي قد يستفيد من الانفصال المالي إن حدث ؟
ويُذكر أن حفاظ “الصين” على ضوابط رأس المال كان أحد العقبات الأساسية في وجه تحول “اليوان” إلى منافسٍ لـ”الدولار”، لكن ذلك قد يتغير في حال استخدام نظام عُملة رقمية عابرة للحدود، ومبنية حول “اليوان”، وتعمل بمعايير وضعتها “بكين” داخل مجال نفوذ “الصين” المفترض. وفي هذه الحالة سيمتلك “بنك الشعب” الصيني رؤيةً وسيطرةً واضحتين على تدفقات المدفوعات بدرجةٍ قد تدفع “الصين” إلى التفكير في جعل “اليوان” قابلاً للتحويل بالكامل.
حيث شرعت “الصين” تدويل “اليوان” استجابةً لصدمة الأزمة المالية العالمية عام 2008. ما زاد استخدام “اليوان” في التجارة عبر الحدود، وبدأت المصارف المركزية تحتفظ به ضمن احتياطياتها، كما أُضيف إلى سلة العُملات التي تُشكل الأصل الاحتياطي لـ”صندوق النقد الدولي”: حقوق السحب الخاصة.
وقد بدا أن تدويل “اليوان” سينجح في البداية، وإن كان ببطء، ولكن العملية بلغت ذروتها في عام 2015، حين أخطأ “بنك الشعب” الصيني في تغيير الآلية الخاصة بسعر الصرف المركزي اليومي لـ”الرنمينبي” مقابل “الدولار الأميركي”، ما تسبب في إنهيارٍ بنحو: 3% في غضون يومين، ودفع السوق نحو انخفاض قيمة العُملة. ومع تراجع “اليوان” وانعكاس مسار تدويل “الرنمينبي” أتضح أن النجاح حتى ذلك الوقت؛ كان مدفوعًا برغبة الأجانب في الاحتفاظ بعُملةٍ ترتفع قيمتها.
أسعار الغذاء العالمية..
ولهذا أُجبرت “الصين” على إعادة تقييم وضعها، إذ كانت بحاجةٍ لمنح الأجانب سببًا أفضل للاحتفاظ بـ”اليوان”، بدلاً من الاعتماد على استمرار قيمة العُملة في الارتفاع. وفي عام 2018، شرعت “الصين” في تقوية أسواق رأس المال المحلية، وفتحها أمام المستثمرين الأجانب.
ولا شك أن صدمة “بكين” من “العقوبات الغربية” ضد “روسيا”؛ تجعلنا نتوقع منها الآن تسريع جهودها لتعزيز استخدام “اليوان” في الأسواق العالمية.
ولن تكون المهمة سهلةً على المدى القصير بالطبع، حيث أثارت مغامرات “بوتين”؛ (بحسب وصف التقرير الأميركي)، أزمةً لم تكن “الصين” بحاجةٍ إليها بينما تُكافح للحفاظ على استقرار اقتصادها وسط ارتفاع حالات (أوميكرون)، والإغلاقات الكبيرة، والنمو الهبوطي الحاد في أعقاب هجوم الرئيس؛ “شي جين بينغ”، على قطاعي التقنية والعقارات؛ كما يدعي تقرير المجلة الأميركية.
وعلى المدى البعيد، تمتلك “الولايات المتحدة” نطاقًا أكبر لمواجهة “الصين” ببناء مجال نفوذ مرن يمكنه الإلتزام بقيم الأسواق الحرة والليبرالية.
أما النتيجة التي ستتمخض عنها معركة الهيمنة هذه، والكيفية التي سيتشعب بها النظام المالي العالمي خلالها؛ فستعتمد جزئيًا على طريقة تكيف “الولايات المتحدة” و”الصين” مع فترة الركود التضخمي المُطوّلة المُرجحة، إذ سيؤدي الحفاظ على انخفاض التضخم وقوة النمو إلى زيادة جاذبية العُملة والأصول المالية لأي بلد.
كما تُعتبر إعادة تنظيم سلاسل التوريد العالمية، نتيجةً للانفصال الكبير بين أكبر اقتصادين في العالم، من العوامل القوية وراء ارتفاع التضخم الراهن.
حيث إن إعادة تنظيم خطوط الإمداد ونقل المصانع هي عمليةٌ مكلفة ستستغرق سنوات. ونتيجةً لذلك سيستمر التضخم الناجم عن ارتفاع التكلفة لفترةٍ طويلة، ولن تكون مجرد مرحلةٍ عابرة.
ويُمكن القول إن الهجوم على “أوكرانيا” – مثل الجائحة العالمية – سيُعمّق النزاع العالمي بين الاقتصادات القائمة على القوانين بقيادة “الولايات المتحدة” وبين خصومها، ما سيُزيد شدة الضغوطات التضخمية على الجميع.
ولهذا سيواجه الاقتصاد العالمي مرحلة تعديلٍ هائلة، بغض النظر عن النتيجة النهائية للأحداث الأوكرانية، حيث سيكون الفوز من نصيب من ينجح في تحويل مشكلة الركود التضخمي إلى فرصة لتعزيز الابتكار والإنتاج المحلي، ومن ينجح في بناء مجال نفوذٍ قوي.