وكالات – كتابات :
يطرح الكاتب الصحافي؛ “سبنسر بوكات ليندل”، في هذا المقال المنشور في صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية؛ عدة تساؤلات عن العولمة كان أهمها: هل ستكون الحرب على “أوكرانيا” سببًا في إسدال الستار على العولمة التي هيمنت على العالم خلال العقود الماضية ؟
استهل الكاتب مقاله بالإشارة إلى التحذير القوي الذي أطلقه؛ “لاري فينك”، المدير التنفيذي لشركة “بلاك روك”، أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، الأسبوع الماضي؛ من خلال رسالته التي أرسلها إلى المساهمين، بشأن التحول الذي اعترى النظام الاقتصادي العالمي. وأجبرت حرب الرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، على “أوكرانيا”، الحكومات والشركات الخاصة، مثل شركة “فينك”، على الانتقام من الغزو بقطع العلاقات التجارية مع “روسيا”، إذ كتب “فينك” قائلًا: “صحيحٌ أن هذا الرد كان مُبرَرًا، لكنه له تداعياته وتكاليفه: وهي نهاية العولمة التي شهدناها خلال العقود الثلاثة الماضية”.
يقول الكاتب إن هذا الإدعاء بدأ ينتشر، ولم يكن “فينك” وحده الذي أثاره وطرحه على الملأ، لكن كيف ستبدو نهاية العولمة في واقع الأمر ؟.. وكيف سيُؤثر تغير أحوال التجارة الدولية على الحياة اليومية للمواطنين في جميع أنحاء العالم ؟.. وهل تُعد هذه التكهنات سابقة لأوانها ؟
العولمة وما تُولِّده من استياء..
يوضح الكاتب؛ أنه على مدار العقود الماضية كانت قصة الاقتصاد العالمي إحدى قصص التحرر والاندماج السريعين. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، وبعد إنهيار “الاتحاد السوفياتي”، أزاحت الصفقات التجارية والابتكارات في تكنولوجيا الاتصالات وتحسن وسائل الشحن بعض الحواجز التي تقف حائلًا أمام التجارة الدولية. وكانت مكاسب هذا التحول، في نظر مؤيديه، واضحة وضوح الشمس حتى أنها أصبحت ضرورة سياسية؛ وسمحت العولمة للدول الأكثر ثراءً بجني ثمار انخفاض تكاليف العمالة في الدول الفقيرة. وهذا بدوره أسهم في تطور هذه الدول الأفقر، وأبرزها “الصين”، بسرعة أكبر مما كانت ستظل عليه لو بقيت معزولة.
لكن العولمة خلَّفت وراءها عديدًا من الخاسرين والرابحين كذلك؛ إذ جاءت موجة المنتجات الاستهلاكية الأرخص على حساب المناطق والعمال الذين يعتمدون على وظائف التصنيع المحلي. وفيما يتعلق بالتجارة الدولية والتدفقات المالية، بدأت العولمة بالفعل في عكس المسار بعد الركود العظيم.
وأضاف تفشي جائحة فيروس (كورونا) المستجد؛ زخمًا إلى هذا الاتجاه، ناهيك عن تساؤلات أوسع نطاقًا أثارتها الجائحة بشأن مدى استحسان بقاء العالم مترابطًا حقًا. وأسهمت الجائحة في خلق مناخ من الخوف والعداء تجاه الأجانب، وخاصة الشعب الصيني. وكشفت هشاشة سلاسل التوريد العالمية التي يعتمد عليها الإنتاج السريع.
ويعتقد عدد متزايد من رجال الأعمال والمعلقين أن الحرب في “أوكرانيا” ستُسرع من التحول الذي تسعى عديد من الدول إلى تحقيقه نحو الإكتفاء الذاتي. وتُعد الحملة المنسقة، التي شنتها القوى الكبرى لعزل “روسيا” عن الاقتصاد العالمي، هي المحفز الرئيس لذلك. وكتب “مات إيغليسياس”؛ في شبكة (بلومبرغ)؛ قائلًا: إن “نظام العقوبات ضد روسيا صارم جدًا، لكن ما يُثير الدهشة أنه ليس عالميًا. وتدرس القوى الإقليمية الطموحة، مثل” الهند، والبرازيل، ونيجيريا، أسلحة الدمار الشامل المالية الأميركية، وتتساءل كيف يمكنها تنظيم دفاعاتها حتى لا ينتهي بها الأمر في مرمى ويلات العقوبات”.
الرغبة في الإكتفاء الذاتي..
يُنوه الكاتب؛ إلى أن الرغبة في الإكتفاء الذاتي لا تقتصر على الاقتصادات الصغيرة، مع أنه:
قبل الغزو الروسي بوقت طويل، تبنت إدارتي “بايدن” و”ترامب”؛ سياسات لتقليل اعتماد “الولايات المتحدة” على التجارة مع “الصين”. ولاحظ “إيغليسياس”؛ أيضًا أن أحد أفضل مكاسب الرئيس؛ “بايدن”، الشعبية كانت في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه في الأول من آذار/مارس، عندما تعهد: “بالتأكد من أن كل شيء من سطح حاملة الطائرات إلى الفولاذ على حواجز حماية الطرق السريعة مصنوع في أميركا من البداية إلى النهاية”.
بصورة جزئية، ونظرًا لأن “روسيا” و”أوكرانيا” توفران أكثر من ربع إنتاج “القمح” في العالم، أصبحت الحكومة الصينية قلقة بشدة بشأن تقليل اعتمادها على المنتجات الزراعية الأجنبية، بحسب ما ذكره؛ “جيمس بالمر” في مجلة (فورين بوليسي). وأعلن الرئيس الصيني؛ “شي جين بينغ”؛ هذا الشهر أن: “صوامع الشعب الصيني يجب أن تمتليء بالحبوب الصينية”.
بعد حساب تكاليف اعتماده على “الوقود الأحفوري” الروسي، تعهد “الاتحاد الأوروبي”؛ هذا الشهر، بتقليص واردات “الغاز الطبيعي” الروسي بمقدار الثُلثين بحلول الشتاء المقبل، والتوقف عن استيرادها تدريجيًا؛ بحلول عام 2027.
ويتطرق الكاتب إلى وجهة النظر بعيدة المدى مستشهدًا بما أوضحه؛ “إدوارد ألدن”، الباحث البارز في مجلس العلاقات الخارجية، لصحيفة (نيويورك تايمز) قائلًا: إن “ما نتجه نحوه هو عالم أكثر انقسامًا من الناحية الاقتصادية، والذي سيعكس بوضوح انقسامًا أكثر من الناحية السياسية. ولا أعتقد أن الاندماج الاقتصادي سيظل باقيًا في ظل التفكك السياسي”.
ما المقصود بتفكيك العولمة ؟
يجيب الكاتب أنه يعني ارتفاع الأسعار وزيادة في عدد الوظائف المحلية، إذا كانت العولمة سببًا في اندلاع موجة من السلع الاستهلاكية الرخيصة، فإن تفكيكها قد يجعل الأسعار ترتفع أكثر، مما يُؤدي إلى تفاقم آثار التضخم. وفي هذا الصدد، كتب “هوارد ماركس”، المؤسس والمدير المشارك لشركة “أوكتري كابيتال مانغمنت”، في صحيفة (فاينانشيال تايمز): “هذا التحول في الأولويات سيكون له مزايا وتكاليف أيضًا. ويمكن أن يؤدي تفكيك العولمة إلى تحسين أمن المستوردين وزيادة القدرة التنافسية للمنتجين المحليين، ونمو عدد وظائف التصنيع المحلية، بالإضافة إلى أنها قد توفر فرصًا استثمارية في المرحلة الانتقالية”.
وفي الوقت نفسه؛ يمكن أن يؤدي تفكيك العولمة إلى زيادة صعوبة التحول العالمي إلى الطاقة المتجددة بسبب القيود والحواجز التي تمنع تجارة المواد الخام. وفي إشارة إلى ارتفاع سعر معدن “النيكل”؛ في بداية شهر آذار/مارس، قال “ليام دينينغ”، في شبكة (بلومبرغ): “أنظر إلى ما حدث حاليًا لمعدن النيكل، وهو عنصر أساس في العديد من تقنيات البطاريات، والتي تُعد روسيا موردًا أساسيًا لها”. لقد تزامنت العولمة مع ارتفاع عدم المساواة الاقتصادية داخل الدول، لكنها كذلك أسهمت في انخفاض عدم المساواة فيما بينها؛ إذ رفعت البلدان النامية مستوى معيشتها. ولذلك فقد يشعر فقراء العالم بعبء تفكيك العولمة بصورة أكثر حدة.
وكتب “آدم بوسن”، رئيس معهد “بيترسون” للاقتصاد الدولي، قائلًا إن: “ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة يضر بالفعل بمواطني الدول الفقيرة، وسيكون التأثير الاقتصادي لتفكيك العولمة أسوأ بالنسبة لهم. وإذا اضطرت الدول ذات الدخل المنخفض إلى اختيار أحد الخيارين عند تحديد الجهة التي ستحصل منها على مساعداتها والاستثمار الأجنبي المباشر، فإن الفرص المتاحة لقطاعاتها الخاصة ستتضاءل”.
ويتساءل الكاتب؛ وماذا عن ارتفاع الإنفاق العسكري ؟.. فعلى مدار العقود الخمسة الماضية، بحسب “صندوق النقد الدولي”، انخفض الإنفاق العسكري بمقدار النصف تقريبًا في جميع أنحاء العالم، وهو الانخفاض الذي يُرجعه بعض المحللين إلى زيادة الترابط الاقتصادي العالمي. وإذا كان هؤلاء المحللون على صواب، فقد يكون لتفكيك العولمة تأثيرًا مضادًا. وفي الشهر الماضي أعلنت “ألمانيا” أنها ستزيد ميزانيتها الدفاعية بمقدار: 100 مليار يورو، في تحول ملحوظ لدولة كانت حذرة جدًا من النزعة العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية.
نهاية العولمة أم عولمة بثوب جديد ؟
يُلفت الكاتب إلى أنه إذا كان أنصار العولمة قد اعتبروها حتمية تاريخية، فإن هؤلاء الذين يُحذرون من تفكيكها الوشيك قد يكونون بصدد اقتراف الخطأ نفسه. وكما أن العولمة تعرضت في مسيرتها الصاعدة لعقبات بسبب عدد من النتائج غير المتوقعة والحالات الطارئة، فإنه كذلك يمكن عكس مسارها. ومن جانبه، يُشكك “بوسن” في أن المخاطر الاقتصادية والسياسية لتفكك العولمة ستمنع عديدًا من الحكومات من محاولة تحقيق مزيد من الإكتفاء الذاتي. ولكن النتيجة المترتبة على ذلك، بحسب المؤرخ؛ “ستيفن فيرتهايم”، قد تكون اتجاه نحو تشكيل تكتلات اقتصادية دولية، وليس تحولًا عالميًا نحو الإكتفاء الذاتي المحلي.
وأضاف “فيرتهايم” إن الدول التي تخشى الوقوع في مرمى “العقوبات الغربية”: “قد ترغب في إنشاء خطط للتوافق اقتصاديًا مع دول بعينها، والتخلي عن دول أخرى، عندما تحل الأوقات العصيبة. وقد يُساعد الاستعداد لمثل هذا الاحتمال في الواقع في تحقيق هذه النتيجة المحتملة؛ إذ تُصبح الدول أقل اعتمادًا على شركاء تجاريين معينين وتقيم شراكات إستراتيجية مع غيرهم”. بيد أن الاقتصاد العالمي لم يزل بعيدًا عن هذا الانقسام – بحسب “فيرتهايم” – ومن الممكن أن تكون عزلة “روسيا”؛ هي الاستثناء الذي يُثبت قاعدة استدامة العولمة.
ويختم الكاتب مقاله بما نشره عدد من محرري صحيفة (الغارديان) البريطانية؛ إذ أشاروا إلى أنه خلال السنوات المقبلة: “لن يعني تفكيك العولمة أننا سنرى عصرًا جديدًا من الإكتفاء الذاتي، على نسق ما شهدناه في عشرينيات وثلاثينات القرن الماضي، عندما تزايدت سياسات الحماية الجمركية، وإنهارت التجارة العالمية”، مضيفين أنه: “قد مضى العصر الذهبي للعولمة الآن، والسؤال الذي يطرح نفسه هو إلى أي مدى سيخفت تأثيرها ؟”.