وكالات – كتابات :
تُشكل الأحداث السياسية العالمية التي حصلت في السنوات الأخيرة تحديًا للهيمنة الأميركية المطلقة في العالم، والتي استمرت بشكل منفرد ومطلق منذ إنهيار “الاتحاد السوفياتي”، ولكنها أيضًا امتداد لنفوذ وهيمنة أميركية تمتد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، رغم وجود المنافسة السوفياتية، وهيمنة غربية عالمية عمرها قرون عدة؛ ابتدأت مع أولى الحملات التوسعية الأوروبية في الخارج.
ولكن عصر الهيمنة الأميركي إمتاز عن غيره من مراحل التاريخ؛ حتى بات يُعرف باسم: (السلام الأميركي-Pax Americana)؛ بحسب الدعايات الأميركية المهيمنة على الإعلام العالمي، في تشبيه لمفهوم تاريخي آخر يُعبر عن: (السلام الروماني-Pax Romana)، والذي إمتاز بسلام طويل الأمد داخل الإمبراطورية الرومانية نفسها؛ وإن استمرت جيوش وفيالق الإمبراطورية بالتوسع العسكري، وضم مناطق وشعوب جديدة بالقوة العسكرية إلى أراضي الإمبراطورية، وجعل سكانها رعايا للرومان.
وكذلك؛ فـ”السلام الأميركي” لم يعنِ سلامًا عالميًا، ولكن سلامًا غربيًا ضمن حدود الدول المتحالفة مع “الولايات المتحدة”، بما في ذلك غرب أوروبا ودول آسيوية؛ بالإضافة إلى تأمين ممرات التجارة العالمية، وتأمين تدفق الطاقة في العالم.
عكَّر صفو هذا السلام بعض الأزمات والصراعات المسلحة، بعضها كان على أطراف هذه “الإمبراطورية”، وكانت هي نفسها طرفًا مباشرًا أو غير مباشر في جميع هذه الصراعات، لكن حالة السلام ظلت مستتبّة بشكل عام داخل الإمبراطورية نفسها.
وبعد إنهيار “الاتحاد السوفياتي”؛ ثبت “السلام الأميركي” أكثر من ذي قبل، وترسخت الهيمنة الغربية والأميركية بشكل خاص في العالم، ولم تُعد هناك منافسة حقيقية لها. لكن الأمر لم يدم طويلاً، فبعد حوالي العقدين من إنهيار “الاتحاد السوفياتي” بدأ الغرب نفسه بالحديث عن أفول الهيمنة، وبدء نهاية عصر السلام هذا، وحرب “أوكرانيا” قد تكون إحدى أهم علامات ومفاصل تاريخ هذه النهاية.
كيف بدأت قصة نهاية “السلام الأميركي” ؟
لم تخرج “أميركا” من الحرب العالمية الثانية منتصرة وحسب؛ بل خرجت باقتصاد سليم ومتفوق على باقي دول العالم، حتى إنه شكل: 40% من حجم الإنتاج العالمي؛ في عام 1960، ولعقود بعدها كانت المنافسة الحقيقية ليست بين الغرب وطرف آخر على مستوى الاقتصاد، بل كانت بين الدول الغربية المتحالفة نفسها.
فالاقتصاد الصيني لم يُشكل؛ عام 1991، إلا أقل من: 2% من مجمل الاقتصاد العالمي، بينما جاءت “اليابان” في المرتبة الثانية، تليها: “ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، المملكة المتحدة، وروسيا” في المرتبة التاسعة، و”الصين” في المرتبة العاشرة.
فرغم أن “الولايات المتحدة” أصبحت؛ في عام 1991، تُشكل خُمس الاقتصاد العالمي تقريبًا، إلا أن دولاً غربية أخرى كانت قد خرجت خلال العقود الخمسة الماضية؛ من آثار الحروب العالمية، وبنت اقتصادها بدعم أميركي، وكان هذا النمو مفيدًا لمجمل الحلف، فالاقتصاد الأميركي لم يصغر، وحصته لم تقل إلا لأن اقتصادات غربية ومتحالفة كبُرت مع الزمن.
ومع هذا التطور الاقتصادي الغربي، والهيمنة العامة؛ ليس في شكل النسبة من إجمالي الاقتصاد العالمي فقط، بل أيضًا في شكل السيطرة المطلقة على التجارة، والنظام المالي، ومركزية الأسواق في “الولايات المتحدة الأميركية خصوصًا، والاحتكارات التكنولوجية والصناعية الضخمة، وصناعات قطاع السلاح، وغيرها.
كل ذلك بالإضافة إلى الهيمنة العسكرية المطلقة والكاسحة لصالح “أميركا” وحلفائها، والتي ظهر للحظة في بداية الألفية أنها “إمبراطورية” لا تُقهر، ولا يمكن حتى معارضتها أو مقاومة نفوذها في العالم.
لكن وبحسب تحليلات غربية؛ فإنه وبعد عقدين فقط من إنهيار “الاتحاد السوفياتي”، (المنافس الأول لهذه الهيمنة)، بدأت الهيمنة بالانحسار والتعثر، وابتدأت مرحلة من الإنحدار ومواجهة تحديات وجودية، لم تستطع “الولايات المتحدة” التعامل معها حتى الآن.
فعلى مستويات عدة، فقد الغرب عمومًا، و”الولايات المتحدة” خصوصًا، موقعهم السابق بشكل تدريجي خلال العقود الثلاثة الماضية؛ حتى أصبحت “الصين” تُشكل: 18% من إجمالي الاقتصاد العالمي؛ حيث نمت حصتها أكثر من: 09 مرات خلال الثلاثين سنة الماضية، ويتوقع أن “الصين” ستتجاوز “أميركا” قريبًا في حجم الاقتصاد، خصوصًا إذا ما استطاعت الحفاظ على معدلات النمو المرتفعة، والتي استمرت بتحقيقها خلال العقود الأخيرة.
ولم تستطع “الولايات المتحدة”؛ حتى الآن، من التأثير على مسار المنافسة الاقتصادية الصينية لها، حتى مع إعلان: “حرب اقتصادية” ضد “الصين”؛ في عهد الرئيس الأميركي السابق؛ “دونالد ترامب”، وسياسة إعادة التموضع التي بدأها سلفه؛ “باراك أوباما”، والتي تقضي بالتركيز على “الصين” تحديدًا، بدلاً من الانغماس من مشاكل الشرق الأوسط.
وفضلاً عن الجانب الاقتصادي؛ فقد دخلت “أميركا” حروبًا مختلفة ضمن: “الحملة على الإرهاب”، والتي تضمنت غزو “العراق” و”أفغانستان”، والتي تكلفت فيهما خسائر كبرى، ولم تستطع أن تبسط نفوذًا كاملاً ومستمرًا على “العراق” الذي نافسته “إيران” عليه، ولا حتى البقاء في “أفغانستان” بعد اضطرارها للانسحاب المذل في العام الماضي، وترك الحكم لـ (طالبان).
كل تلك مؤشرات على بداية النهاية: لـ”السلام الأميركي”، ودخول فترة من إنهيار هذا السلام، لكنها بالمجمل لم تتضمن مواجهة مباشرة مع قوة عسكرية أو اقتصادية كبرى؛ باستثناء: “الحرب التجارية” مع “الصين”، والتي ظلت آثارها محدودة بالمجمل.
أما اليوم؛ فـ”الولايات المتحدة” تشهد أحد أكبر تحدياتها، وليس من مجموعات جهادية، أو من دولة بحجم “إيران” فقط؛ بل من دولة بحجم “روسيا”، تدعمها “الصين” التي أعلنت أن شراكتها مع “موسكو”: “لا حدود لها”، وسط رفض دول عديدة للإلتزام بالموقف الغربي تجاه “روسيا”، ولو لم تتبنّ موقفًا داعمًا بشكل صريح لـ”روسيا”.
كيف يمكن للحرب الأوكرانية أن تُغير التاريخ ؟
بغض النظر عن مجرى العملية العسكرية الروسية على الأرض؛ فقد كان اتخاذ قرار الهجوم بحد ذاته تحديًا غير مسبوق في المرحلة الحالية من الزمن للهيمنة الغربية، وخرقًا للقواعد الدولية التي أرستها المنظمات التي أنشأها الغرب أصلاً، بما في ذلك دخول حدود بلد مستقل ذي سيادة، وفرض المصالح الروسية بالقوة.
قبل الحرب الأوكرانية كانت مثل هذه الأفعال حكرًا على الغرب وحده؛ وإن تمت بصورة مختلفة، (لم تخرج عن الاستعمار العسكري المباشر مثلما قامت به “أميركا” ذاتها في احتلال “العراق” بآلتها العسكرية بهدف إسقاط نظام الدولة العربية بالقوة وإلحاق الدمار الشامل لبنيتها التحتية والعسكرية وحتى السياسية مازال يُعاني “العراق آثاره حتى الآن)، بل ضمان المصالح الغربية بالقوة، وخلق حكومات حليفة في الدول المهمة للمصالح الغربية، ودعم أطراف داخلية في بعض البلدان التي تحكمها جماعات لا ترعى مصالح الغرب.
ورغم التحذيرات الغربية الكثيرة لـ”روسيا” قبل الهجوم، ولـ”الصين” استباقًا لاحتمال ضمها لـ”تايوان”، إلا أن “روسيا” دخلت “أوكرانيا”، و”الصين” ما زالت لا تعترف بكون “تايوان” بلدًا مستقلاً عنها، وتسعى لإعادتها إليها في يوم من الأيام، دون أن تقدم على ذلك بعد.
لكن الهجوم الروسي على “أوكرانيا” يُعطي السابقة التاريخية، والتي قد تسمح بتكرارها لاحقًا في “الصين”، وربما في غيرها من الدول، رغم أن “أوكرانيا” و”تايوان” تقعان ضمن النفوذ والحماية الغربيين، بل إن التخوفات حاليًا متجهة لإمكانية أن يُحاول “بوتين” مستقبلاً اجتياح دول ضمن “حلف شمال الأطلسي”، خصوصًا إذا لم ينجح الغرب في منعه من تحقيق أهدافه في “أوكرانيا”.
سواء نجحت العملية العسكرية الروسية أم لا؛ فإن الحلف الذي بدأ يتشكل بين “روسيا” و”الصين”، والذي يبدو أنه يستمر بالتطور مع استمرار الحرب في “أوكرانيا”؛ قد يُشكل المنافس الأضخم للهيمنة الغربية في التاريخ، وربما تستطيع “الصين” وحدها تقديم منافسة أكبر مما فعل “الاتحاد السوفياتي” سابقًا، خصوصًا مع كونها قوة اقتصادية ضخمة تنافس الغرب بالفعل؛ ولا تكتفي بالنفوذ السياسي والقوة العسكرية البحتة.
وأخطر ما هنالك على “السلام الأميركي” (المزعوم)؛ هو أن الحرب هذه المرة على أطراف “أوروبا”، وليست مشابهة لحروب “البلقان” التي خاضتها دول صغيرة نسبية، بل أحد أطرافها ثاني أقوى جيش في العالم، ودولة نووية تستطيع تدمير الكوكب بأكمله إذا ما استخدمت ترسانتها النووية.
ويقع اللوم في حصول كل ذلك على “أميركا” نفسها، التي لم تتوقف عن توسيع نفوذها، ونشر قواعدها العسكرية حول العالم، والتي يبلغ عددها: 800 قاعدة عسكرية؛ في: 70 بلدًا حول العالم، والتي تحوط “روسيا” من جميع الجهات فعليًا، مع توسيع “حلف شمال الأطلسي” ليشمل دولاً ضمن “الاتحاد السوفياتي” السابق، وفي مجال النفوذ الروسي ومحيطها الإستراتيجي والأمني.
رغم أن الغرب يروج لرواية تعثر العملية العسكرية الروسية في “أوكرانيا”، والصمود الكبير للأوكرانيين في وجهه، إلا أن ذلك لا يعني أن “روسيا” لن تستطيع تحقيق الكثير من الأهداف على الأرض الأوكرانية ولو بثمن مرتفع، وعلى الأغلب لن يتمكن الحلف من دخول الحرب لقلب موازينها؛ لأن ذلك قد يعني مواجهة نووية شاملة.
لذلك فأقصى ما يمكن للغرب فعله هو استنزاف “روسيا” في “أوكرانيا”، وتركها تحظى بالمكاسب على الأرض؛ مقابل الأثمان المادية والبشرية، والتي قد تؤدي نهاية إلى إنهاك “روسيا” وإضعافها، وخروجها من مغامراتها في وضع أسوأ من وضع الدخول لهذه المغامرات، لكن في المقابل؛ وحتى مع الخسائر الكبيرة التي يدعي الغرب إن “روسيا” قد تكبدتها؛ فالدولة الروسية أقدر على تحمل الخسائر من الغرب، وقد تستطيع توفير البيئة اللازمة لتعويض جزء كبير من هذه الخسائر، خصوصًا إذا استمر الدعم الشعبي الكبير لـ”بوتين”، وقبول الكثيرين في “روسيا” للثمن الذي يجب دفعه ثمنًا لها.