وكالات – كتابات :
نشر مركز (ستراتفور) الأميركي للدراسات الإستراتيجية والأمنية؛ تقريرًا تناول فيه تداعيات حرب “أوكرانيا” على أعمال التجسس الروسية في “أوروبا”، وكيف تأثرت تلك الأعمال بطرد كثير من الدبلوماسيين الروس الذين يعملون جواسيس تحت غطاء رسمي، ومدى أهمية استخدام العملاء غير الرسميين في أعمال الجاسوسية.
عمليات طرد دبلوماسي غير مسبوقة..
وفي البداية؛ أوضح المركز الأميركي أنه في خِضَم التغطية الإعلامية العالمية المكثَّفة للنزاع العسكري الدائر على أرض “أوكرانيا”، هناك معركة أخرى تدور في الظل بعيدًا عن الأعين إلى حدٍ كبير: يجري تدمير شبكة الجاسوسية الروسية في جميع أنحاء “أوروبا”. وفي بيان صُدر يوم 11 نيسان/إبريل، أعلنت السلطات الفرنسية أنها كشفت المستور عن: “عملية سرية غير مشروعة” وغير محدَّدة يُنفِّذها: “ستة عملاء روس تحت غطاء دبلوماسي”، وصرح المسؤولون بأن هؤلاء الدبلوماسيين سيُطردون من البلاد. وجاء البيان بعد وقتٍ قصيرٍ من سلسلة من التحركات المنسَّقة؛ خلال الأسبوع الماضي، ردًّا على جرائم الحرب الروسية المزعومة في مدينة “بوتشا”؛ بـ”أوكرانيا”، وبعدما أوضحت دول أوروبية عديدة و”الاتحاد الأوروبي” نفسه أنها ستطرد ما يقرب من: 270 دبلوماسيًّا روسيًّا اتُّهموا ضمنيًّا أو صراحةً بأنهم جواسيس روس.
وكانت مجموعة من الدول الأوروبية الأخرى قد طلبت بالفعل من أكثر من: 150 دبلوماسيًّا روسيًّا مغادرة البلاد؛ منذ غزو “أوكرانيا”، في شباط/فبراير. وأفادت هذه الدول أن الدبلوماسيين الذين طُرِدوا من البلاد انتهكوا شروط وضعهم الدبلوماسي. وتُعد هذه الموجة؛ (التي ستنمو بالتأكيد)، واحدةً من أكبر عمليات الطرد الدبلوماسي الجماعي في التاريخ.
ويوضح التقرير أنه على الرغم من أن عمليات طرد الجواسيس الروس هذه غير مسبوقة؛ من حيث حجمها، فإنها غير مُفاجِئة. وفي نيسان/إبريل الماضي، قدَّر رئيس المخابرات البريطانية السابق؛ أنه جرى الكشف عن عُشْر عمليات التجسس الروسية فقط في “أوروبا”. وفي حزيران/يونيو، قال رئيس دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية لمحاوره؛ إن التجسس الروسي على الأراضي الألمانية وصل إلى مستويات “الحرب الباردة”. وهذه التحذيرات المستمرة من أجهزة المخابرات الغربية ليست سوى غيضٍ من فيضٍ بشأن عمليات التجسس الروسية المتكررة والصارخة في “أوروبا”.
وكما أدَّى الغزو الروسي لـ”أوكرانيا” إلى تنشيط التخطيط الدفاعي الأوروبي، يبدو أيضًا أنه قد أجبر “أوروبا” أخيرًا على تصفية حسابها مع التجسس الروسي. وفي حين أن الطرد الجماعي للجواسيس الروس المزعومين؛ يُمثِّل بلا شك نكسة كبيرة لأنشطة التجسس التي يُشرف عليها (الكرملين) في “أوروبا”، فإن هناك بلا شك قيودًا وبدائل سنستكشفها في هذا الجزء الأول من سلسلة المقالات هذه المكوَّنة من جزأين.
التجسس الروسي تحت غطاء رسمي..
يُلفت التقرير إلى أن “روسيا” تستخدم سفاراتها وقنصلياتها الأجنبية؛ ليس من أجل ممارسة أعمال الدبلوماسية فحسب، بل لمتابعة أعمال الجاسوسية أيضًا؛ (كما تعمل على ذلك واشنطن وأوروبا أيضًا منذ عقود الحرب العالمية الثانية بل والعهد الاستعماري المباشر وحتى اليوم في جميع دول العالم الساخنة؛ وهذا ما لا يُشير إليه التقرير الأمني الأميركي بالطبع). ويعمل بعض الدبلوماسيين تحت “غطاء رسمي”، حيث يعملون بموجب الحصانة الدبلوماسية ويقومون بعمل مشروع ظاهريًّا، ولكنهم يعملون جواسيس أيضًا. وعلى عكس معظم أفلام الحركة، يتمثل عمل هؤلاء الجواسيس في الاستخبارات البشرية، مثل تجنيد العملاء والتعامل معهم، وتسهيل العمليات المختلفة داخل البلد والإشراف عليها، وإرسال تحديثات أعمال الاستخبارات باستمرار إلى الوطن.
وفيما يخص “روسيا”، التي تتمتع بأجهزة استخباراتية ضخمة وقوية، ستؤدي خسارة أكثر من: 400 ضابط؛ بلا شك إلى تعقيد جهود استخباراتها البشرية في “أوروبا”، وقد يؤدي إلى شلِّ تلك الجهود في بعض الحالات. والسبب في ذلك أن بعض البلدان – مثل “إستونيا ولاتفيا وليتوانيا” – لم تطرد الجواسيس الروس فحسب، بل أغلقت أيضًا بعض القنصليات الروسية.
وحدَّدت دول أخرى، مثل “سلوفاكيا وسلوفينيا”، عدد الموظفين الروس المسموح لهم بالعمل في الجهات الدبلوماسية، مما يعني ببساطة أن “روسيا” لا تستطيع إرسال بدائل للأفراد المطرودين. وهناك مثال جيد على ذلك في “جمهورية التشيك”، التي طردت بالفعل عشرات الدبلوماسيين الروس؛ العام الماضي، بعد الكشف عن أعمال تخريب روسية في البلاد في عام 2014، حيث يوجد الآن ستة دبلوماسيين روس فقط في العاصمة التشيكية؛ “براغ”، بعد أن كان هناك أكثر من: 100 دبلوماسي في مثل هذا الوقت من العام الماضي؛ بحسب مزاعم التقرير الأميركي.
وبهذا، لن تكون “روسيا” مضطرة إلى الاعتماد على عدد أقل بكثير من الجواسيس فحسب، بل سيتعين على أولئك الذين يستمرون في العمل تحت غطاء دبلوماسي في “أوروبا” أن يتصرفوا بحذر أكبر. وفي الشهر الماضي، قالت السلطات البلجيكية إنها لاحظت انخفاضًا في أعمال الجاسوسية الروسية قبل إنعقاد مجموعة اجتماعات منسَّقة جمعت بين حلف الـ (ناتو) و”الاتحاد الأوروبي” و”مجموعة الدول السبع”؛ في “بروكسل”. وتعليقًا على أنشطة الجواسيس الروس الأخيرة، قال متحدث أمني بلجيكي: “إنهم أقل نشاطًا وأصبحوا أكثر حذرًا ويلتزمون بكثير من القواعد الأمنية”.
ويدعي التقرير الأمني الأميركي؛ أنه قد يكون هناك تحدٍ آخر يواجه الجواسيس الروس: إنهيار الروح المعنوية، ليس في صفوفهم فحسب، ولكن أيضًا في صفوف عملائهم. ومن المفترض أن بعض الجواسيس المنتشرين في “أوروبا” تنتابهم مخاوف حقيقية، خاصةً لأنهم يتعرضون للأخبار وأنماط الحياة الغربية. ومن المُرجَّح أنهم يُراقبون عن كثب التقارير الذائعة الانتشار عن عمليات التسريح الجماعي داخل الجيش ووكالات الاستخبارات؛ (التي تنشرها الدعايات الأميركية والغربية بصفتها أنباء حقيقية وهي مجرد إعلانات سوداي في حربها النفسية ضد موسكو). وبغض النظر عن مدى صحتها، يمكن لهذه الأخبار أن تجعل الجواسيس أقل حماسة للقيام بعملهم، وهو تحدٍّ قد يصيب الأصول الروسية في “أوروبا”. وحتى لو لم تروِّعهم نتائج الأنشطة الروسية في “أوكرانيا”، فإن التقارير عن عمليات طرد دبلوماسية جماعية ستجعلهم يتساءلون: هل سيعثرون عليَّ في المرة القادمة ؟؛ بحسب مزاعم التقرير الأميركي.
وقد يُصبح هؤلاء الجواسيس الذين لم يُكتَشفوا بعد؛ أهدافًا مغرية للتجنيد الأوروبي ليكونوا عملاء مزدوجين. وخلال “الحرب الباردة”، تمثَّلت أعظم نجاحات الغرب في “تحويل” الجواسيس الروس إلى أشخاصٍ يتمتعون بإحساس قوي بالقومية الروسية، لكنهم شعروا أيضًا بأن قادتهم يقودون بلادهم نحو الكارثة؛ هكذا يدعي كاتب التقرير. ومجرد الإيحاء بأن بعض الأفراد ربما باتوا أهدافًا للتجنيد على يد أجهزة الأمن الغربية يمكن أن يتسبب في عدم الثقة في شبكة التجسس الروسية ويُجبر الموظفين الروس على قضاء مزيد من الوقت في مراقبة بعضهم بعضًا بدلًا من إجراء العمليات. وفي مثال رائع على التصيد عبر الإنترنت، في الأسابيع الأخيرة، كان “مكتب التحقيقات الفيدرالي”؛ (FBI)، يُحاول تجنيد موظفين بسفارة “روسيا” عن طريق إرسال إعلانات مستهدفة جغرافيًّا بالقرب من السفارة الروسية في “واشنطن”، حثَّ فيها الموظفين على تقديم معلومات إلى السلطات الأميركية بشأن أي تهديدات يجدونها.
عملاء غير رسميين..
واستدرك الكاتب قائلًا: ومع ذلك، سوف تتضاءل هذه التأثيرات بمرور الوقت، وذلك لسبب واحد؛ يمكن استبدال الجواسيس. وتُشير الوقائع السابقة إلى أن “روسيا” ستُرسل بدائل، مما يتطلب من أجهزة الأمن الأوروبية أن تُحاول مرةً أخرى التفريق بين الملحق الثقافي الشرعي والجاسوس. ومن المؤكد أن لعبة الكراسي الموسيقية هذه لن تمكِّن الأفراد الجدد من أن يبدأوا من حيث انتهى رفاقهم المطرودون. لكن في النهاية، ستكون هناك شبكة تجسس روسية قوية قادرة على الصمود بما يكفي لتحمل فقدان الأفراد، حتى وإن وصل عدد المطرودين إلى المئات. إن حرية التنقل في “أوروبا” تُسهِّل على الجواسيس في بلد ما إجراء عمليات في بلد آخر.
ويُضيف الكاتب: علاوةً على ذلك، تنبع قيمة الاستخبارات البشرية من قدرة الأصول المجنَّدة على الوصول إلى المعلومات، وليس قدرة الموهوبين الذين يعملون تحت إشراف تلك الأصول. وحتى إذا كانت بعض الأصول تنفي تعاونها مع أجهزة الاستخبارات الروسية، فإن الأسباب الأربعة التي يُستشهَد بها كثيرًا للموافقة على تمرير المعلومات – المال، والإيديولوجيا، والإكراه، والأنا (المعروفة أكثر بالاختصار: MICE) – يمكن أن تكون محفِّزات قوية. وعلاوةً على ذلك، قد تشعر بعض الأصول بالقلق بشأن اكتشافها من جانب أجهزة الأمن، ومن ثم تسعى إلى إنهاء أنشطتها. وعلى عكس الدبلوماسيين الروس الذين يعملون تحت غطاء رسمي والذين لا يشعرون بالقلق إلا بشأن طردهم وإعادتهم إلى الوطن، نجد أن الأصول المجندة عالقة بين سندان الاستمرار في تمرير المعلومات ومطرقة التوقف، ولكن مع المخاطرة بمواجهة عقوبة السجن أو الابتزاز أو حتى العنف والاغتيال.
وربما تكون “روسيا”، مع استثناء محتمل لـ”الصين”، هي على الأرجح المستخدم الأكثر إنتاجًا للجواسيس – بحسب التقرير – الذين يعملون “عملاء غير رسميين”. وعلى عكس الدبلوماسيين المعتمدين رسميًّا الذين يتمتعون بالحصانة ويعملون من السفارات والقنصليات، ليس لدى العملاء غير الرسميين أي ارتباط مباشر ومعروف بحكومة بلدهم ويفتقرون إلى غطاء رسمي لإخفاء نواياهم. وعلى الرغم من أن هذا يعني أنهم أكثر عرضة للخطر إذا ما اكتُشِفوا، فإنه من الصعب التعرف إليهم في المقام الأول. وهذا يعني أنهم سيبقون أيضًا في “أوروبا”، على الرغم من عمليات الطرد الجماعي. ويُعتقد أن “روسيا” تستخدم مجموعة كبيرة من العملاء غير الرسميين في الدول الغربية.
ومن خلال التظاهر بأنهم مواطنون عاديون، قد يتمكن العملاء غير الرسميين من الوصول إلى معلومات لا يستطيع الجواسيس الدبلوماسيون الحصول عليها. ونظرًا إلى أنهم يعيشون حياة طبيعية ظاهريًّا، قد يبدو كثير من المعلومات التي يحصلون عليها معلومات جيدة، حتى المعلومات غير السرية يمكن أن تكون ذات قيمة، وقد توفر لهم وظائفهم قدرات فريدة للقيام بأنشطة تجسس مختلفة. على سبيل المثال، في قضية شهيرة في عام 2018، انتحل ضابطا مخابرات روسيان، اللذان قتلا “سيرغي سكريبال” بالسُّم؛ في مدينة “سالزبوري”، بـ”إنكلترا”، صفة سائحَيْن. وقد أظهرت هذه العملية مدى سهولة تحرك العملاء غير الرسميين في جميع أنحاء “أوروبا” والعودة إلى “روسيا” بأمان؛ على حد إدعاءات التقرير.
وحتى في حالة عدم تنفيذ ضربات، يظل بإمكان العملاء غير الرسميين تقديم إسهامات كبيرة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأصول التي جرى تجنيدها. ويجب أن يكون العملاء غير الرسميين قادرين على الاعتماد بسهولة نسبيًّا على طرق الاتصال السرية، مثل تطبيقات التشفير واتصالات الهاتف المحمول وغيرها للمساعدة في التواصل أثناء تغطيتهم لرفاقهم المطرودين.
ويُضيف التقرير: ليس من المستغرب أن تكون الروايات التي يمكن التحقق منها عن هذه الأنشطة نادرة، ولكن هناك شائعات معقولة بما يكفي لافتراض أن “روسيا” يمكنها أيضًا الاعتماد على هؤلاء العملاء غير الرسميين للمساعدة في تعويض عمليات الطرد الجماعي.
في حالات أخرى، لا حاجة إلى الإكراه. وتشتهر أجهزة المخابرات الروسية بالعمل مع أعضاء متعاطفين من الجاليات الروسية في الخارج لاستغلال موقعهم الراسخ في البلاد لإبلاغ “موسكو” بالمعلومات؛ وحتى إجراء عمليات بمفردهم، مثل إثارة الاحتجاجات لتحفيز الاضطرابات الاجتماعية. على سبيل المثال، حدثت انفجارات غامضة؛ في عام 2014، في مرافق لتخزين الذخيرة التشيكية – التي لفتت الانتباه العام الماضي؛ عندما ظهرت أدلة جديدة تُثبت تورُّط “روسيا” في تلك الانفجارات.
وهناك مخاوف من أن تستغل “روسيا” تدفق اللاجئين الأوكرانيين إلى “أوروبا” وتنشر المخرِّبين بينهم. وهناك عدد هائل من الأوكرانيين الناطقين بالروسية الفارين إلى الغرب، وعدد كبير من الروس الذين فرُّوا من “روسيا” منذ بداية الحرب؛ مما سيؤدي إلى وجود مجتمعات شتات كبيرة مناهضة لـ”بوتين”، حيث قد يتمكن العملاء غير الرسميين من الاختباء في أوساطهم.
استجابة مستقبلية..
يُشير التقرير إلى أنه بغض النظر عن كيفية تشغيل العملاء غير الرسميين وغيرهم، يمكن لـ”موسكو” استخدام العملاء غير الرسميين والمتعاطفين الآخرين الذي سيبقون في البلاد الأوروبية في أعمال الجاسوسية. ويمكن بالتأكيد لهؤلاء العملاء المساعدة في الحد من التأثير السلبي لعمليات الطرد في أنشطة التجسس – وفي بعض الحالات يكونون أكثر جاذبية للقيام بأعمال التجسس لأن أنشطتهم تتمتع ببعض الإنكار المعقول بسبب عدم وجود روابط واضحة بينهم وبين “موسكو”.
وفي نهاية المطاف، لن تُحدَّد مرونة جهود التجسس الروسية في “أوروبا” من خلال عمليات الاستخبارات البشرية، ولكن من خلال قدرة أجهزة المخابرات الروسية على التكيُّف مع الحقائق المتغيرة للتجسس في العصر الحديث. وفي هذا الصدد، قد لا تكون استجابة الحكومات الأوروبية لطرد المئات من الجواسيس الروس، على الرغم من كونها خطوة ملحوظة ومهمة، بسبب السعي وراء تحقيق الأهداف الأكثر أهمية – وهو الأمر الذي نتحدث عنه في الجزء الثاني من هذه السلسلة، بحسب ما يُختم التقرير.