16 سبتمبر، 2024 10:21 م
Search
Close this search box.

التعليم .. الوطن .. وحق الفقراء

التعليم .. الوطن .. وحق الفقراء

خاص: بقلم- أيمن البيلي:

مع كل تغييّر وزاري شامل أو جُزئي تُراودنا أحلام تتحول بعد فترة وجيزة إلى اضغاث أو كوابيس بعدما تتكشف الضبابية التي تُغطي عملية اختيار كل وزير جديد للتعليم وتبدأ التصريحات المكررة حول الانضباط المدرسي وأهمية تحسّين أوضاع المُعلمين المهنية والاقتصادية ثم يبدأ الحديث عن الرغبة في تمرير العام الدراسي الحالي بكل ما فيه لنبدأ من جديد تنفيذ رؤية جديد.. هكذا اعتاد الرأي العام من كل وزير جديد يتولى مسؤولية وزارة هي الأهم والأخطر والأكثر تأثيرًا في تغييّر المجتمع المصري.

وبعد ثورة (كانون ثان) يناير 2011 وحتى الآن؛ تأخر مركز “مصر” من التصنيف الدولي في التقرير الصادر عن “منظمة التعاون الدولي” الاقتصادي الاجتماعي وكذلك المرتبة 139 من 143 في تقرير “منظمة الشفافية الدولية”، هكذا أصبح حال التعليم المصري بعدما تبدّدت آمال المصريين في وجود منظومة تعليم وطنية نتيجة استمرار توجهات الدولة وسياساتها نحو اقتصاد السوق وتسّليع الخدمات الاجتماعية؛ ومنها التعليم والصحة، بخُطى هي الأسرع منذ الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، وعلى عكس ما نسمع ونقرأ من تصريحات حول الحفاظ على الحكومة على حق كل أبناء الشعب في تعليمٍ جيد ومجاني؛ إلا أننا نصطدم بسياسات تتناقض مع ما هو مُعلن من تلك التصريحات.

وهناك مجموعة من الأسئلة على الحكومة أن تُجيّب عليها؛ فالإجابة عليها كاشفة لرؤيتها وتوجهّاتها نحو التعليم، وأيضًا سنُّدرك من خلالها سياساتها تجاه:

أولاً – مجانية التعليم ما موقف الحكومة منها ؟

وهل التعليم حق لكل أبناء المجتمع أم سِلعة يحصل عليها من له القدرة على شرائها ؟!

لقد صُدر تقرير “هيئة الأبنية التعليمية” متضمنًا: (1000) منطقة محّرومة من أي نوعٍ من أنواع المدارس، وكذا التقرير الصادر عن “الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء” في تناقضٍ واضح مع مواد الدستور، والتي نصّت على مجانية التعليم وأحقية كل أبناء المجتمع في تعليمٍ جيد تتولاه الدولة بمسؤولية كاملة وفي نفس الوقت يزداد إصدار التصاريح لمدارس خاصة جديدة.

ثانيًا – أوضاع المُعلمين الاقتصادية المتدهورة ما موقف الحكومة منها ؟

منذ عام 2007؛ حدث تعديل على قانون التعليم (139)، فيما عُرف بالقانون (155)، والذى اشتهر باسم: “كادر المعلمين”، ثم حدثت تعديلات فى 2012 في (12) مادة تم زيادة المُعلمين بنسبة: (50%)؛ ومن المفترض أيضًا زيادة: (25%) عند كل ترقية، حيث أن التعديل (155) نص على أن الدرجة الوظيفية هي الدرجة المالية ومع ذلك حدثت الترقيات الوظيفية دون زيادة مالية: (25%)، أيضًا نصّت المادة (89) على أن كل زيادة في الأجور والعلاوت والحوافز والمكافآت التي يحصل عليها العاملين في الدولة يحصل عليها المُعلمين الخاضعين لقانون (155)، ومع ذلك لم تُطبق تلك المادة مُطلقًا سواء في ظل “قانون العاملين بالدولة” (47) المُّلغى أو ظل “قانون الخدمة المدنية” (18)، أو بعد تعديله (81)، بل نص القانون الأخير على خروج الخاضعين للكوادر الخاصة ماليًا من هذا القانون الجديد، وبالتالي أصّبح المُعلم المصري بدون قانون يُحدد علاقته المالية بالدولة؛ فقانون (47) الذي كان يتضمن تحديد الأجر الأساسي لجميع العاملين بالدولة بما فيهم المُعلمين قد ألغي والقانون الجديد تم إخراج المُعلمين منه، وقانون التعليم الحالي لا يتضمن تحديد أساسي الأجر وبالتالي توقفت أي زيادة مالية على أساسي الأجور منذ السنة المالية (تموز/يوليو 2014 ) وحتى العام الحالي (2017)، بحجة أن هناك مشروع لقانون تعليم جديد يتضمن جدولاً للأجور يُنظم العلاقة المالية بين المُعلم والدولة مع أن هذا المشروع الجديد لقانون التعليم قد تم الانتهاء منه في نهاية (2014)، وتم تأجيل الموافقة عليه من قبل السيد رئيس الجمهورية قبل وجود “مجلس النواب” وبعد وجوده لم يقم الوزير “الشربيني” برفع مشروع القانون إلى اللجنة التشريعية بمجلس الوزراء تمهيدًا لرفعه إلى لجنة التعليم ثم مناقشته والموافقة عليه في الجلسة العامة لـ”مجلس النواب”… هكذا تدهورت الأوضاع الاقتصادية للمُعلم المصري وتذيل قائمة الشرائح الاجتماعية في الوقت الذي ارتفعت فيه مُّعدلات التضخم وأجتاح الغلاء كل المجتمع نتيجة السياسات الاقتصادية الحالية؛ والتي اضعفت القوة الشرائية للعُملة الوطنية في مواجهة العُملات الأجنبية وأدت إلى انهيارها مما زاد من تدهور الأوضاع الاجتماعية ومستوى معيشة المواطن المصري محدود الدخل؛ وفي القلب منهم المُعلمين الذين حُّرموا من أي زيادة في أجورهم منذ عام 2014.

ثالثًا – هل رؤية الحكومة علمية متكاملة من أجل التغييّر الجذري.. أم سياسات رد الفعل فقط ؟

من مكرر الحديث القول بأهمية التعليم؛ فالكل سواء أكانت السلطة السياسية أو المواطن يُدرك تمام الإدراك قيمة وجود منظومة تعليم وطنية واضحة الملامح محددة الأهداف وتنفذ وتطور وفقًا لرؤية استراتيجية متكاملة، بداية لابُد أن نرصّد الشروط الأساسية لوجود منظومة تعليمية متكاملة وما مدى توافرها أو إكتمالها.. علينا إذًا أن نُحدد تلك الشروط:

  • بناء تشريعي حاكم.
  • خطة استراتيجية.
  • سياسات تنفيذية.

ولنبداْ بالبُنية التشريعية؛ والمقصود بها هي مواد الدستور الخاصة بالتعليم وقانون التعليم المُّفصل للقواعد العامة الحاكمة للتعليم الواردة في الدستور، ثم اللائحة التنفيذية المتُّمثلة في مجموعة القرارات الوزارية المنظمة لتنفيذ ما فرضه الدستور وفسّره القانون، وفي الحقيقة هناك إشكاليات كثيرة في العلاقة بين البناء التشّريعي للتعليم وبين ما يُطبق على أرض الواقع.. فهناك تناقض، وأكرر تناقض حاد؛ بين نصوص التعليم في الدستور خاصة في المواد المتعلقة (بالمجانية والتزام الدولة)، وبين توجهات السلطة التنفبذية وسياساتها التي اتجهت؛ ومازالت، نحو خصّخصة التعليم المصري تدريجيًا وتقنيّن ذلك التوجه نحو تخلي الدولة عن دورها في تقديم الخدمات الاجتماعية وفي مقدمتها التعليم.. هنا يبدو التناقض جّليًا وشاسعًا بين التشّريع والتطبيق.. هذا يدفعنا إلى الانتقال إلى الشرط الثان من شروط المنطومة التعليمية؛ وهو الرؤية الفكرية لكي نستطيع الوصول إلى أسباب التناقض السابق والمقصود بالرؤية الفكرية هي تحديد الأهداف العامة للعملية التعليمية وآليات الوصول لتحقيق تلك الأهداف من خلال تحديد المحاور أو المُّرتكزات التي تُمثل سُبل الوصول للأهداف المُّحددة؛ ومن المفترض أن تكون تلك الرؤية متوافقة مع البناء التشّريعي ومن ثم تتكشف الأسباب وراء بقاء مواد العقد الاجتماعي الخاصة بالتعليم مجرد أحلام لدى أبناء الوطن أو شعارات ترفعها السلطة التنفيذية كلما أرادت خاصة عند المواجهة مع الشعب؛ وبنظرة تاريخية على علاقة السلطة السياسية بالتعليم نجد دائمًا أن التعليم كان أحد أدوات، بل أهم أداة تستخدمها السلطة لتحقيق أهدافها في المجتمع سواء في فترات الاستعمار أو فترات الاستقلال أو التحرر الوطني.. هنا تحضرني مقولة المفكر التربوي البرازيلي؛ “باولو فيريري”: (التعليم إما للحُرية وإما للقهر)، ففي فترات الاستبداد السياسي (الخارجي) الاستعمار.. نجد على سبيل المثال محاولة لاحتلال الإنكليزى غلنزة التعليم المصري؛ حيث حكمته رؤية تطويع وترويض الشعب المصري الرافض لهذا الاحتلال في المستقبل القريب والبعيد فكريًا من خلال التعليم؛ حيث تضمن وجود أجيال تابعة وخاضعة لسلطة الاحتلال، هذه الأجيال تتحدث بلغته وتقرأ تاريخه وتعيش حياته بعادته وتقاليده؛ هنا يضمن المحتل تجفيف منابع الثورة ضده وخلق ثورة مضادة تحدث صراع مجتعيًا داخليًا يمنع توحد هذا المجتمع على رؤية واحدة هي رؤية التحرر والخلاص.. وفي المواجهة؛ في الطرف الآخر، كان التعليم هو أداة الحركة الوطنية لمواجهة الاستعمار وتحقيق التحرر الوطني أيضًا في المستقبل القريب والبعيد.. ولنا في الزعيم الوطني؛ “مصطفى كامل”، ووعيّه وإدراكه لأهمية تعليم أبناء الشعب في التحرر والاستقلال، مثالاً لكون التعليم سبيلاً للحُرية، حيث عمل على إنشاء المدارس الليلية التي كان التعليم فيها مصريًا خالصًا وتلك المدارس صنعت أجيالاً وطنية مشُّبعة بفكرة الاستقلال وتجسّد ذلك في ثورة الشعب المصري في عام 1919 وما بعدها.. وفي المثالين نجد رؤى متناقضة كان التعليم فيها هو العامل المشترك والأداة للتنفيذ؛ لكن الهدف كان مختلفًا نتيجة تبّاين الرؤية للسلطة السياسية المسُّتبدة المحتلة وتوجهاتها وأهدافها من العملية التعليمية ورؤية الطليعة الوطنية الثورية وتوجهاتها وأهدافها من التعليم.

وأيضًا في فترة حكم “محمد علي” وفترة حكم الرئيس الراحل؛ “جمال عبدالناصر”، نجد أن التعليم كان هو المشروع الوطني الأول والدائم ومحور المشروع التنموي الذي يُحقق تنمية اقتصادية وطنية مستقلة تتواكب مع فكرة التحرر الوطني السياسي.. لتكتمل منظومة التنمية الوطنية الشاملة المستقلة.. ولا شك في أن كلاً من التجربتين الناجحتين تاريخيًا قد توافقت فيهما الرؤية والتطبيق وكانت الدولة والدولة وحدها هي المُلتزمة والمسؤولة مسؤولية كاملة عن التعليم نتيجة لأن التعليم كان محور رؤيتها التنموية الشاملة للمجتمع، ومن ثم لا نجد تدخلاً أو مشاركة أو استثمارًا دون الدولة في التعليم حكمته بتشّريعات ضامنة ومُلزمةٍ لها.

ربما كان الاستطراد التاريخي السابق مرآة عكست مجموعة حقائق أثبتت التجربة التاريخية صحتها؛ ربما نحن في أشد الحاجة إلى إعادة الإطلاع عليها وتحليلها بمنظور وطني خالص، كي نكتشف مدى تأثير نتائجها على المجتمع المصري في فترات تاريخية مختلفة ويمكن؛ من وجهة نظرنا، أن نلخٌّص أهم تلك الحقائق حول أهمية التعليم الوطني المستقل ودوره في تحقيق المشروع التنموى للمجتمع.

التعليم هو السبيل إلى كل تغيّير حقيقي؛ وليس شكلي، فالتعليم هو بوابة التحرر الفكري والاجتماعي للمقهورين من الفقر والمرض والجهل.

التعليم هو آلية المجتمع لتوفير الحماية الذاتية من كل أفكار العنف والتطرف.

التعليم هو البيئة الخصّبة لممارسة الديموقراطية من خلال تعلمها وتعليمها للمجتمع.

التعليم هو محور المحتمع لتحقيق الاستقلال الوطني من خلال التنمية الوطنية المستقلة.

التعليم هو معيار تقدم المجتمع وشفافيته وقُدرته على مواجهة الفساد.

التعليم هو حق من حقوق المواطنة؛ فإذا أهدر هذا الحق يحدث الخلل في المجتمع.

التعليم هو وسيلة الفقراء نحو الحراك الاجتماعي للأعلى؛ وهو وسيلة الأغنياء لفهم قيّم العدالة والمسّاوة والإنسانية.

التعليم هو الحُرية؛ لأن الحُرية تعني الحياة بوعّي ومدخل الوعّي هو التعليم.

لا شك أننا أمام أزمة متراكمة وتزداد تراكمًا تشمل كل مناحي حياتنا؛ اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، ساعد على تراكمها غياب دور التعليم الوطني وتهميّشه عبر سنوات، والآن أصبّح من الحتّمي استنهاض الإرادة لدى المجتمع المصري حُكامًا ومحكومين لإحداث ثورة تعليمية بعد ثبوت الفشل الذريع في إشراك القطاع الخاص في الاستثمار في التعليم وما نتج عنه من إدخال المجتمع المصري في جُّب التمييز الاجتماعي وإهدار حق أصيل من حقوق الإنسان؛ وهو حق التعليم الجيد المجاني، لغالبية أبناء المجتمع حيث يطال الفقر أكثر من: (65) بالمئة من أبناء الشعب المصري؛ مما جعل التعليم الجيد صعب المّنال للأغلبية وساعد على ذلك تدني ميزانية التعليم وانخفاض معدلات الإنفاق الحكومي على التعليم بالمقارنة بنسِب زيادة عدد التلاميذ سنويًا؛ وأيضًا قلة عدد المدارس الحكومية بالمقارنة بعدد المدارس الخاصة التي يصرح لها مما جعل مخرجات التعليم في النهاية عبر سنوات من التجربة غير قادرة على مواجهة التغيرات المتسارعة في شكل موجات متلاحقة من التقدم العلمي والمعرفي التي تجتاح العالم من حولنا لننزلق وبسرعة إلى قاع الدول اقتصاديًا واجتماعيًا.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة