وكالات – كتابات :
يشعر العلماء بالرعب من احتمال تفشي جائحة جديدة؛ ستكون هذه المرة بسبب فيروس من “إنفلونزا الطيور”، ويتتبع مجموعات كبيرة من الباحثين حركة الطيور الحاملة لهذا الفيروس، ليس لمنع مثل هذه الكارثة؛ ولكن لاكتشافها قبل فوات الأوان.
فإذا كنت تريد أن تعرف كيف يتأهب العالم للجائحة العالمية القادمة، فانظر إلى قرية “رولينغ”؛ في “كمبوديا”، التي تقع على ضفاف أحد روافد “نهر ميكونغ”، حسّبما ورد في تقرير لوكالة (بلومبيرغ) الأميركية.
بداية ظهور الوباء..
على مدى أيام قليلة من شهر شباط/فبراير 2023، صارت هذه البقعة المنعزلة كخلية نحل مفعمة بنشاط الصحة العامة، بعد وفاة فتاة تبلغ من العمر: (11 عامًا)؛ بسبب إصابتها بـ”إنفلونزا” بفيروس (H5N1)، السّلالة الأخبث من “إنفلونزا الطيور”، لتكون هذه الفتاة أول حالة وفاة بسبب المرض في البلد الآسيوي منذ عام 2014.
في غضون ساعات، أُرسل فريق استجابة سريعة من العاملين المحليين في مجال الصحة إلى هذه القرية، التي تبُعد حوالي ساعتين بالسيارة عن العاصمة الكمبودية؛ “بنوم بنه”. وقد وجدوا مجتمعًا يتكون من: 2000 شخص يعيشون في منازل ملونة بألوان زاهية ومصنوعة من الخشب والصفائح المعدنية، وتعيش مواشيهم وطيورهم الداجنة على مقربة منهم.
التحرك سريعًا..
في غضون 24 ساعة فقط، أنشأ خبراء الصحة مركزًا مؤقتًا لإجراء الفحوص، وحددوا أكثر من عشرة أشخاص من المقربين من الفتاة، وجمعوا المسّحات بحثًا عن العامل الممرض. كانت عينة الأب إيجابية. وعولج عن طريق مضادات فيروسية وتعافى. وما لا يقل عن: 11 شخصًا آخر، من بينهم أقاربها الذين كانوا يعيشون معها، لم يصابوا بالعدوى. راقب الفريق القرية لمدة ثلاثة أسابيع أخرى، وفحصوا عشرات الأشخاص الآخرين. ولم تُكتشف إلا إصابتان فقط، قال خبراء الصحة عنهما إن السبب وراءهما هو الاحتكاك المباشر بالحيوانات.
ويبدو أن السرعة التي تستطيع بها “كمبوديا”، وأي بلد آخر يشتهر بظهور الفيروسات الجديدة، أن تُحدد التهديدات الفيروسية المستقبلية وتستجيب لها – هي ما سوف تُحدد إلى أي مدى سينجح العالم في احتواء الجائحة القادمة بنجاعة.
استجابة البلاد كانت سريعة..
كانت استجابة “كمبوديا”، التي شحذها عمل مستمر منذ سنوات مع “منظمة الصحة العالمية” و”مركز مكافحة الأمراض والوقاية” منها؛ (CDC)، سريعةً بشكلٍ ملحوظ، لا سيما بالنسّبة لبلد من أفقر بلاد “آسيا”. وتُشكل هذه الاستجابة جزءًا من جهود عالمية أكبر – يندمج فيها مسؤولو الحكومة والصناعة والصحة – كي نكون أكثر استعدادًا أمام الجائحة القادمة، سواء كانت “إنفلونزا طيور” أو شيئًا آخر.
تعّززت استعدادات العالم بسبب جائحة (كوفيد-19)، بسبب التقارير التي تُشير إلى وجود متحورات جديدة من فيروس (H5N1) المسّبب لـ”إنفلونزا الطيور” – وهو تهديد يتعقبه الباحثون منذ أكثر من ربع قرن – ويبدو أنها تجعله أكثر قدرة على الانتقال بين الثدييات.
والخطر هنا مضاعف؛ إذ إن مصادر العدوى الجديدة تظهر أسرع مما كانت عليه في الماضي، وهو ما يترك وقتًا أقل أمام مجتمع الصحة العامة من أجل إعادة التنظيم والاستجابة للفوضى التي يُسّببها عاملان ممرضان جديدان تمامًا. يعتري القلق الخبراء من أن (كوفيد) ربما يصّير لطيفًا مقارنة بما قد يأتي لاحقًا.
ويقتل فيروس (H5N1) أكثر من نصف المصابين به. وإذا تحور ليصّير أسهل انتشارًا بين البشر – وهو مصدر القلق الأكبر بالنسّبة لخبراء الصحة العامة – فيمكن أن يُسبب عدد وفيات مرعبًا.
أرقام مرعبة..
أحد تقديرات شركة التحليلات الصحية (Airfinity) تُشير إلى احتمالية وصول عدد الوفيات اليومية في “المملكة المتحدة” وحدها إلى: 15 ألف حالة وفاة على سبيل المثال.
إذا تم افتراض أن معدل وفياته بالعالم العربي ستكون على نفس المعدل؛ فنحن أمام خطر وفاة أكثر من: 100 ألف شخص بالدول العربية في يومٍ واحد.
وبالفعل هناك: 10 حالات انتقلت بين البشر، وانتشاره يتزايد وسط الطيور ثمة مجتمع من الخبراء على أهبة الاستعداد باستمرار، حتى عندما تنخفض مستويات التهديد. وحتى الآن، لم تكن هناك حالات انتقل فيها هذا الفيروس بين البشر، ولم يصب بفيروس (H5N1) إلا حوالي: 10 أشخاص حول العالم، منذ كانون ثان/يناير 2022.
يُسلَّط التركيز على “إنفلونزا الطيور”؛ لأن الإصابات لدى الطيور – البرية والداجنة – وصلت إلى مستويات قياسية. منذ أواخر عام 2021 أُعدم أكثر من: 50 مليون طائر في “أوروبا”، من بينها الدواجن المسّتزرعة، وأعدم: 58 مليون طائر في “الولايات المتحدة”، وأُعدم أكثر من: 17 مليون طائر في “اليابان”، وأغلبها بصورة استباقية في إطار جهود إبطاء انتشار الفيروس. كان الأثر الاقتصادي شديدًا على المنتجين والمستهلكين، فقد ارتفعت أسعار الدواجن ارتفاعًا حادًا.
خسائر اقتصادية..
وتُشير تقديرات “وزارة الزراعة” الأميركية إلى أن انتشار “إنفلونزا الطيور” كلَّف الاقتصاد الأميركي ملياري دولار في عام 2022، بما في ذلك الأسعار المرتفعة التي دفعها المسّتهلكون مقابل البيض والدجاج والديك الرومي.
ليست هناك إشارات بعد على أن الإعدامات الجماعية الكبيرة تنجح وحدها. وفي إشارة إلى أن “المملكة المتحدة” تعتقد أن الأسوأ قد انتهى، رفعت في نيسان/إبريل، القيود المفروضة على الاحتفاظ بالطيور داخل المنازل، التي فرضتها منذ تشرين ثان/نوفمبر الماضي؛ بهدف كبح انتشار الفيروس. غير أن حالات جديدة لا تزال تظهر في مناطق أخرى بـ”أوروبا”، مثلما يحدث في “آسيا” وفي بلاد “أميركا الجنوبية”.
وتُجدر الإشارة إلى أن الفيروس معدٍ للغاية؛ لدرجة أنه قد يكتسّح قطيعًا كاملاً في غضون أيام. بالإضافة إلى أن حالات العدوى التي يُسببها متحور جديد من فيروس (H5N1)، تُصيب أيضًا مجموعة متنوعة من الثدييات في البر والبحر، تتضمن حيوان “المنك” في إحدى المزارع الإسبانية، و”أسود البحر البيروفية”، و”الدببة الرمادية” الأميركية، مما يُثير مخاوف جديدة حول احتمالية ظهور تحورات تُمهد الطريق أمام انتشار الفيروس بين البشر.
صحيحٌ أن فيروس (H5N1) هو الأشد إثارة للخوف بين أشكال “إنفلونزا الطيور”، لكن أكثر من: 06 سلالات أخرى استطاعت أن تُصيب البشر في السنوات الأخيرة. كانت أحدث حالة تُصاب بهذه الفيروسات لامرأةٍ في “الصين”؛ تبلغ من العمر: (56 عامًا)، توفيت في آذار/مارس، بعد إصابتها بعدوى فيروس (H3N8).
موقف مثير للقلق..
يُجسّد الحجم الهائل من حالات حمل الطيور لهذا الفيروس عبر الجو، مشكلة أخرى، بالنظر إلى أن السّلالة الراسّخة التي تتسبّب في انتشاره بـ”آسيا” والنوع المتحور، تتسّارع وتيرتهما في دول الغرب.
وقالت “سونيا أولسن”؛ المديرة المساعدة للتأهب والاستجابة في قسم الإنفلونزا بـ”مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها”: “الموقف الحالي يُثير القلق، في ظل وجود الكثير من الفيروسات لدى الطيور. تحب فيروسات الإنفلونزا أن تتشارك موادها الوراثية. إنها تتطور باستمرار، ومن أجل هذا فإن مراقبة الحيوانات والبشر لها أهمية كبيرة”.
وأضافت: “يصعب التنبؤ بأي الفيروسات سوف يمتلك تحورات تكون أكثر تكيفًا مع البشر. ولهذا نفعل هذه الأمور: المراقبة، والاستجابة السريعة، والانقضاض على كل حالة”.
وعلى جانب العالم الآخر؛ وعلى بُعد حوالي: 10 آلاف كم شمال غرب “كمبوديا”، يُحاول علماء معهد (The Pirbright Institute) للأبحاث، الذي يبُعد حوالي ساعة بالسيارة خارج العاصمة البريطانية؛ “لندن”، تسّخير التكنولوجيا في إطار جهود التصدي لتهديدات “إنفلونزا الطيور”.
وتأسس معهد (Pirbright) عام 1914؛ ليكون في بدايته مركزًا لفحص الماشية لاكتشاف مرض السُل، والآن صار واحدًا من أبرز مراكز تشخيص الفيروسات البيطرية ومراقبتها في “المملكة المتحدة”. وتُتخذ الاحتياطات الصحية اللازمة داخل المركز.
ويرأس “منير إقبال”؛ فريق فيروس “إنفلونزا الطيور”. اختير “إقبال”، مع: 25 خبيرًا آخر، ليكونوا ضمن لجنة جديدة لحكومة “المملكة المتحدة” تقيِّم خطر وباء “إنفلونزا الطيور” على البشر، في إطار استعداداتها للجائحة القادمة. وتضم هذه اللجنة “نيل فيرغسون”، عالم الأوبئة الذي قدّم نصائح واستشارات إلى الحكومة البريطانية خلال جائحة (كوفيد).
ويقول الخبراء إن الخطر الفوري منخفض بالنسبة للبشر. فعلى مستوى العالم، أُصيب أقل من: 1000 شخص بفيروس (H5N1)؛ منذ عام 2003. وكان هناك ما لا يقل عن: 04 حالات حتى الآن في عام 2023.
ومع ذلك، يضع قادة الحكومات والصناعة والصحة العامة الأسس اللازمة لأية استجابة عالمية.
ويرصد “إقبال” وفريقه في معهد (Pirbright) قدرة فيروس “إنفلونزا الطيور” على الانتشار بين البشر. فداخل المعمل، يُعرِّضون جزيئات الكربوهيدرات الاصطناعية – التي تُشبه الجزيئات الموجودة على سطح خلايا القصبة الهوائية للبشر – للفيروس، ثم يُحددون ما إذا كان الفيروس يلتصق بها أم لا. وحتى هذه اللحظة، في كل مرة يجري فيها الفريق هذا الفحص، تظهر رسالة تقول: “فيروس (H5N1) في المملكة المتحدة لا يرتبط بمستقبلات البشر”.
ويقول “إقبال”: “في اللحظة الراهنة، ليست هناك إشارة في الفيروس، ولا في توقيع الفيروس، تدل على أنه يُشكل أي خطر. لكن هذا الفيروس يتغير في كل مرة. فلا يمكنك التنبؤ بما يحدث غدًا”.
ويراقب الفريق قدرة الفيروس على مهاجمة خلايا الطيور، ويدرس كيفية تطور هذه العملية.
وقال “إقبال”: “إننا نراقب الفيروس. وإننا أكثر استعدادية بسبب جائحة فيروس (كورونا) وكل الخسائر بسببها”. وهذه المرة يركز الخبراء على تخفيف المخاطر، بالإضافة إلى التخطيط للسيناريوهات المتعلقة بالتوقيت الذي يجب عنده اتخاذ خطوات قبل انتشار أي فيروس يهدد صحة البشر.
وذكر “أندرو بولارد”، الذي قاد التجارب السريرية في “المملكة المتحدة” الخاصة بلقاح (أكسفورد-آسترازينيكا): “إنه مهم من ناحية المرونة والاستعدادية، أن نضع في الحسبان تهديدات العدوى بنفس الطريقة التي نتعامل بها مع التهديدات مثل الصراعات العسكرية”.
ويعتقد “بولارد” أن هناك: “خطرًا يتمثل في أن تفقد الحكومات التركيز” على التخطيط والتأهب للجوائح بعد (كوفيد). ولكن عندما يتعلق الأمر بـ”إنفلونزا الطيور” على الأقل، فثمة عاصفة من النشاط حول النُّهُج الجديدة، المصممة لاكتشاف حالات العدوى الناشئة وتحويل مسّار انتقالها بسرعة. تعمل الصناعات الصيدلانية على استحداث لقاحات محتملة للطيور والبشر، وتصميم علاجات دوائية في حالة كانت هناك حاجة ملحة إليها.
وتجسد الطبيعة أحد التهديدات الأشد إلحاحًا؛ والسبب أن الانتشارات الموسمية لـ”إنفلونزا الطيور” تجعل هجرة الطيور البرية التي تحدث مرتين سنويًا في الربيع والخريف، محفوفةً بالمخاطر بالنسبة للمزارعين، لأن بعض الطيور قد تحمل العوامل الممرضة السامة. تفحص “البرازيل”، التي تُعد أكبر مصدر للحوم الدجاج في العالم، الطيور المهاجرة في إطار جهودها للمحافظة على مكانتها بوصفها واحدة من البلاد القليلة التي لا تزال لم تشهد إصابات بـ”إنفلونزا الطيور”، حتى في ظل زيادة أعداد الحالات في البلاد المجاورة لها.
وتبنت “إيلين كيلنر”، التي تربي البط في مزرعة “هارث آند هايفن” خارج مدينة “سياتل”؛ بـ”واشنطن”، تدابير أمنية حيوية صارمة في العام الماضي: فقد منعت الزوار، وخصصت أحذية وسترات للمهام الخاصة بالمزرعة، ووضعت كلب حراسة لتخويف الطيور البرية. لم تمنع هذه الخطوات انتشار إنفلونزا الطيور الذي ضرب المزرعة قبل أعياد الميلاد. وأُجبرت إيلين على إعدام أكثر من 170 بطة وأربع إوزات.
وقالت “إيلين”: “الفيروس جاء ليبقى. كل ما يحتاجه الأمر هو أن يحلق طائر واحد فوق سرب طيورك ويتغوط”.
توقيت اكتشاف المرض..
صحيحٌ أن الاستجابة في “رولينغ” اعتبرها مسؤولو الصحة نجاحاً، لكن التحدي واضح. استغرق انتباه نظام الصحة الحكومي إلى انتشار العدوى، أسبوعاً كاملاً. لم يعتقد أهل القرية أن هناك أي شيء خاطئ عندما عُثر على بضع دجاجات نافقة على ضفة النهر، وألقوا اللوم في نفوقها على الطقس الحار.
ولم يُحركوا ساكناً إلا عندما تدهورت الحالة الصحية لطالبة، وحينها فقط ربطوا بين الأمرين. وعندما وصلت الطفلة إلى المستشفى في 21 فبراير/شباط، افترض الأطباء -الذين لم يكونوا على دراية بنفوق دجاجتين من أصل أربع دجاجات لدى العائلة، كانت تعيش تحت سقف الغرفة التي كانت تنام فيها هذه الفتاة- أنها كانت مصابة بإنفلونزا موسمية. إذ إن الأعراض مشابهة، فتتضمن الحمى الشديدة أو السعال أو ضيق التنفس، وهي حالة قد تتطور إلى التهاب رئوي. ولذلك أعطوها دواءً مضاداً للفيروسات، وحصلوا على مسحة للعابها، ثم فحصوا العينة في الليل.
وتوفيت الفتاة قبل ساعات من ظهور نتيجة الفحص التي تشير إلى أنها عدوى (H5N1).
وأظهر كوفيد أن الوقت عامل جوهري عندما يتعلق الأمر بفيروسات الجهاز التنفسي المحمولة جواً. فيمكن لتحديد أي شخص مصاب أو معرض للفيروس وعزله- أن يبطئ الانتشار، بينما تقلل اللقاحات من حدة الأعراض التي تعاني منها الحالات المصابة. وتعد مشاركة المعلومات بين البلاد وداخل المجتمعات أمراً ضروروياً لتخفيف الخطر والسماح للأشخاص بحماية أنفسهم. والفحوصات التي تكتشف العدوى يمكن تصنيعها في غضون أيام من اكتشاف العامل الممرض، فربما لا يكون المرض إنفلونزا الطيور.
وتحمل اليقظة أهمية بالغة، حتى بالنسبة للخبراء. حذرت لي إيلان، ممثلة منظمة الصحة العالمية لدى كمبوديا، فريقها تحذيراً محدداً بألا يضعوا أية افتراضات. وقالت: “ليس هناك بلد واحد، بما في ذلك كمبوديا، مستعداً تماماً للجائحة القادمة”.
وأضافت: “نحتاج إلى مواصلة الرحلة. وأن نحافظ على سلامة العالم”.