خاص : كتب – محمد البسفي :
أجمع علماء الاجتماع السياسي على أن من أبرز وأكثر مظاهر الانتفاضات والثورات الشعبية المجهضة انتشارًا شيوع اليأس والإحباط الجمعي الذي من الطبيعي أن يصيب شعوبًا ثارت محتجة على أوضاعها التي باتت لا تحتملها؛ فتم اجهاض ثورتها أو الإلتفاف عليها لإعادة إنتاج نفس الاوضاع وبأساليب أعنف وأقسى.. هنا يصيب المجتمعات “شيخوخة اليأس” والقنوط.. ويلوح “الموت الطوعي” ملاذًا نهائيًا من حياة فقدت الصلاحية ..
انتفض العراق في تشرين 2019؛ على واقعه الكابوسي.. فساد؛ وطائفية؛ وفوضى ميليشاوية مسلحة تطيح قتلاً وتعذيبًا وخطفًا؛ وطبقة سياسية وكيلة لمصالح خارجية طامعة.. ومجتمع تأكله المتناقضات: أغلبية شعبية يصليها فقر مدقع في بلد الوفرة والغنى، يمزقها التشرد في وطن تحكمه قلة تحيا حياة الأباطرة.. وهنا يبرز طريقين: إما اليأس انتحارًا.. أو الحياة ثورة بتطعيم انتفاضة تشرين ترياق الحياة من جديد ..
الفقر والبطالة..
جراء فشل الطبقة السياسية الحاكمة في حل مشاكلهم وتحقيق أحلامهم في حياة كريمة وآمنة، ارتفعت نسبة حالات الانتحار بين أوساط الشباب العراقي.. هذا ما أكده موقع (المونيتور) في تقرير له مؤخرًا. في حين كشف مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في وقت سابق، عن وقوع 298 حالة انتحار في العراق بين الفترة الممتدة من 1 كانون ثان/يناير حتى 30 آب/أغسطس 2020، لتكون أعلى نسبة مقارنة بالعام 2003.
وأظهرت إحصائية حكومية ارتفاع حالات الانتحار من 319، في عام 2003، باستثناء “إقليم كُردستان العراق”، إلى 519 في عام 2019.
ويشير موقع (المونيتور) إلى أن الأرقام قد تكون أعلى من ذلك بكثير، إذ تحاول بعض العائلات إخفاء الانتحار كسبب للوفاة بسبب الإنطباع السلبي لدى المجتمع عنه، مشيرًا إلى أن كثير من حالات الانتحار يجري تسجيل سبب الوفاة فيها على أنه “موت مفاجيء”.
ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة، (اليونيسف)، فإن: “4.5 مليون (11.7%) من العراقيين يعشيون تحت خط الفقر نتيجة لجائحة فيروس كورونا والآثار الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة به مما أدى إلى فقدان الكثير لوظائفهم وبالتالي ارتفاع الأسعار، وأشارت المنظمة إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى 31.7 في المئة؛ بعد أن كانت 20 في العام 2018. كما يشهد معدل البطالة في العراق ارتفاعًا، حيث وصل إلى نحو 13 في المئة، في 2019، عقب أن كان 9 في المئة في 1999.
وبحسب خبراء فإن الارتفاع المستمر في معدل البطالة في العراق أحد الأسباب الرئيسية للانتحار.
وذكرت مصادر في الحكومة العراقية أن عدد طرق الانتحار المختلفة، بما في ذلك الشنق والحرق والغرق والتسمم وإطلاق النار والإختناق وقطع الوريد. وتؤكد تقارير أضافية لمؤسسات الدولة العراقية أن الشباب هم الفئة الأكبر بين حالات الانتحار، وتشير إلى أن الأسباب عادة ما تكون البطالة وعدم وجود أمل في إصلاح حقيقي من شأنه تحسين أوضاعهم في البلاد.
بالمقابل ذكرت مصادر رسمية إن حالات الانتحار في العراق تراجعت منذ إنطلاق احتجاجات تشرين أول/أكتوبر 2019، عندما رفع المحتجون شعار “نريد وطنًا”، في تعبير واضح عن مشاعر الإحباط من هيمنة ميليشيات خارجة على سلطة الدولة.
من جانبه؛ أكد “فاضل الغرواي”، عضو مفوضية حقوق الإنسان في العراق؛ أن الأشهر الثمانية الأولى من عام 2020 شهدت تسجيل 298 حالة انتحار في عموم محافظات العراق. وأضاف أن عدد الذكور المنتحرين بلغ 168 والإناث 130، لافتًا إلى أن “بغداد” سجّلت النسبة الأعلى في حالات الانتحار بواقع 68 حالة؛ تليها “البصرة” بـ 39، ثم “ذي قار” بواقع 33 حالة.
وأوضحت المفوضية أن صور الانتحار توزعت بين 5 طرق هي: استخدام السم والشنق والحرق والغرق والطلق الناري. وأشارت إلى أنَّ أغلب الأسباب التي دعت إلى تزايد هذه الأرقام هي الآثار الاقتصادية والنفسية والاجتماعية والبطالة والفقر وإزدياد حالات العنف الأسري والاستخدام السييء للتكنولوجيا.
وذكر بيان رسمي صادر عن المفوضية؛ أن هذه الأوضاع تستدعي مطالبة الحكومة بمعالجة هذه الظاهرة في كل جوانبها وإنشاء مراكز للتأهيل النفسي وتشكيل فريق وطني لمكافحة ظاهرة الانتحار، وإطلاق حملة إعلامية لتكريس الضوء على مخاطر هذه الظاهرة وكيفية الحد منها.
شباب .. تحت مقصلة اليأس..
مساء 13 نيسان/أبريل، أقدمت شابة عراقية على الانتحار بحي “العامل” في ضواحي العاصمة العراقية، بغداد. وتناقلت وسائل إعلامية عراقية خبر انتحار الفتاة التي تبلغ من العمر (20 عامًا)؛ داخل منزلها عن طريق شنق نفسها.
يأتي ذلك بعد أيام قليلة من انتحار شاب لم يتجاوز عمره (20 عامًا)؛ داخل منزله في قضاء “الرميثة” شمالي محافظة المثنى.
ولا تتفاجأ الناشطة الحقوقية، “زينب كريم”، من حوادث الانتحار هذه.. وتقول: إننا “على يقين من أن التقاليد القبلية والحرمان والعوز والعنف الأسري وراء إقدام العديد من الفتيات والشباب على الانتحار”.
وتخشى “كريم” من أن الوضع قد يسوء وتتزايد معدلات الانتحار في البلاد. وتقول إن: “الحد من هذه الظاهرة ومعالجتها يتطلب حكومة واعية ومؤمنة بحقوق الإنسان، وهو ما لا يمكن تحقيقه مع الحكومة العرقية، وخاصة مع انتشار فيروس كورونا، الذي تسبب في الكثير من المشاكل في حياة الأسر العراقية”.
في خانة الانتحار !
في مدن الجنوب العراقي، حيث تتجاوز معدلات البطالة والفقر الـ 40 في المئة، وفي ظل العادات والقيود الاجتماعية والزواج المبكر، تسجل مئات حالات الانتحار، معظمها تقع تحت ضغط الظروف المعيشية والنفسية الصعبة، لكن بعضها حالات قتل بدوافع مختلفة بينها جرائم قتل النساء، (أو ما يعرف بغسل العار أو جرائم الشرف)، وتدون في خانة الانتحار، وأخرى ترتبط بالإبتزاز الإلكتروني لبعض النساء، بحسب باحثين ونشطاء مدنيين.
وتظهر التقارير والبيانات الواردة من جهات رسمية وغير رسمية في العراق ارتفاعًا ملحوظًا بحالات الانتحار في السنوات الأخيرة؛ في ظل تفاقم المشكلات الاجتماعية والمعيشية، وبالتزامن مع غياب سلطة القانون بشكل فاعل، مقابل صعود القوى القبلية والعشائرية بعد عام 2003.
وظلت محافظات الجنوب، عدا “البصرة”، الأعلى في معدلات الفقر والبطالة مقارنة ببقية مناطق البلاد طوال السنوات سنة الماضية، وفق إحصاءات وزارة التخطيط، وفي بلد عانى من تدهور سياسي وخدمي وشهد إقتتالاً داخليًا ثم حربًا مدمرة مع تنظيم (داعش) الإرهابي كان وقودها عشرات آلاف الشباب، انعكس كل ذلك على الاستقرار الاجتماعي، بحسب باحثين وناشطين.