وكالات – كتابات :
كتبت “جاكلين إل. هازلتون”، أستاذة مساعدة في الكلية الحربية البحرية الأميركية، تحليلًا نشرته صحيفة (واشنطن بوست) الأميركية، أوضحت فيه الأسباب التي أدت إلى فشل “الولايات المتحدة” في إقامة نظام ديمقراطي في “أفغانستان”، مشيرة إلى أن معظم القوى العظمى التي تدخلت لمحاربة التمردات التي تشهدها بعض الدول لم تستطع مكافحتها وتحقيق الاستقرار سوى بإكراه الشعوب أو بفساد النخب الحاكمة.
قهر الشعوب والفساد جنود للتدخلات الخارجية..
في مستهل تحليلها، تُوضح “هازلتون”؛ أنه عندما دخلت حركة (طالبان) إلى العاصمة الأفغانية، “كابول”، بعد إنهيار الحكومة الأفغانية، انتقد عدد من القيادات الأميركية السابقة، على المستوى العسكري والمدني؛ إدارة الرئيس الأميركي، “جو بايدن”، بسبب سحبها للقوات الأميركية من “أفغانستان” قبل إكتمال المهمة. وروجوا لأن الجيش الأميركي كان بمقدوره منع وقوع الكارثة، واستخدام قوته لمواصلة المساعي الرامية إلى إقامة دولة ديمقراطية.
ورأى هؤلاء المنتقدون أن تحقيق الاستقرار في البلاد كان بحاجة إلى أن تظل “الولايات المتحدة”، في “أفغانستان”، لمدة أطول؛ حتى يتمكن الجيش الأفغاني من الوقوف على قدميه ولا يكون بحاجة إلى عون من أحد، وحتى تصبح الحكومة الأفغانية أكثر قوة، بل حتى تندحر (طالبان) تمامًا.
تستدرك الكاتبة: بيد أن تاريخ تدخل القوى العظمى في حركات التمرد يُشير إلى أن الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار في “أفغانستان”؛ من خلال إرساء النظام الديمقراطي، كان من الممكن أن تكون بلا جدوى. مضيفة أن بحثها يوضِّح الأسباب التي تجعل نجاح تدخلات القوى العظمى لتحقيق الاستقرار في الدول يعتمد اعتمادًا ملحوظًا على إجبار الشعوب وفساد النخب الحاكمة، أكثر من اعتمادها على إجراء إصلاحات ديمقراطية.
أسطورة الحكم الرشيد لمكافحة التمرد..
تُوضح “هازلتون”؛ أن هؤلاء الذين يُجادلون بأن إقامة الحكم الرشيد هو الحل لمكافحة التمرد، استدلوا مرارًا وتكرارًا ببعض النماذج التاريخية لتأييد مزاعمهم. ويستشهد هؤلاء المعلقون في الغالب بخمس حملات ناجحة لمكافحة التمرد في العصر الحديث؛ بوصفها نماذج تحتذي بها التدخلات العسكرية الحالية: الطواريء المالايوية، والحرب الأهلية اليونانية، وحملة مكافحة تمرد الهوك في “الفلبين”، والحرب الأهلية السلفادورية، والتصدي لثورة “ظفار” المعادية لحكومة “سلطنة عُمان”.
تصف الكاتبة هذه السردية؛ بأنها أسطورة إلى حد كبير. وبدلًا من إجراء إصلاحات ديمقراطية لتحقيق الاستقرار، تمكنت الحكومات المهددة بالتمرد، مدعومة من القوى العظمى المتدخلة، من إخضاع المتمردين وهزيمتهم باستخدام القوة. وفي الوقت الذي كانوا يشنون فيه هجماتهم ضد المتمردين مباشرة لكسر عزيمتهم في القتال، كانوا يسيطرون بإحكام على السكان المدنيين لمنع تزويد المتمردين بالموارد.
توضح “هازلتون” ما حدث في الحملات الخمس قائلة: في “اتحاد مالايا”، حيث اندلعت “الطواريء المالايوية (حرب عصابات قامت في الاتحاد المالايوي)”، في الفترة بين عامي: 1948 و1957، أعادت القوات البريطانية قسرًا توطين حوالي: 500 ألف شخص في قرى جديدة، وأقامت معسكرات احتجاز جرى فيها تقنين حصص الطعام، وخضع السكان لعمليات تفتيش متكررة للعثور على البضائع المهربة.
وفي مدينة “ظفار”، خلال حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أحكمت القوات العُمانية، تحت قيادة “بريطانيا”، قبضتها على المجتمعات المدنية، ودمرت المحاصيل الغذائية المدنية وقتلت الماشية، وسمَّمت مياه الآبار.
وخلال المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية اليونانية، في الفترة ما بين: عام 1947 وحتى عام 1949، هجَّرت الحكومات اليونانية، المدعومة من “الولايات المتحدة”: 700 ألف مواطن من بيوتهم. ونقلوا المدنيين والجنود، الذين يُشتبه في تورطهم سياسيًّا إلى الجزر التي تعاني من الفقر والخالية من الموارد التي تعينهم على المعيشة.
وفي “السلفادور”، حاولت الحكومة المدعومة من “الولايات المتحدة”؛ فرض سيطرة عسكرية على الشعب والسكان، لكنها فشلت في ذلك. وخلال الحرب الأهلية السلفادورية، التي اندلعت في الفترة من: عام 1979 وحتى عام 1992، نفَّذت قوات الأمن السلفادورية عمليات اغتيال ضد بعض القادة المدنيين والقساوسة، وقادة منظمات المجتمعات المدنية، بل دمرت مجتمعات بأسرها.
لماذا تعترض النخب الحاكمة طريق الإصلاحات ؟
تنوه الكاتبة، في تحليلها؛ إلى أن القوى الخارجية الداعمة للحكومة، كانت تُطالب في كل هذه الحالات بإجراء إصلاحات ديمقراطية لكسب التأييد الشعبي الذي أعتقدوا أنه ضروري لهزيمة المتمردين. وفي كل هذه الحالات، كانت النخب الحاكمة تعترض طريق أي إصلاحات ديمقراطية، وظلت في السلطة من خلال استيعاب المصالح الشخصية للنخب المتناحرة، من بينها في كثير من الأحيان مصالح المتمردين وأمراء الحرب، من أجل كسب القوة القتالية والحصول على المعلومات والتنسيق.
تضيف “هازلتون”؛ أن البريطانيين تنازلوا في “مالايا”، على سبيل المثال، عن آمالهم في إقامة دولة تعددية ليبرالية. واضطُرت “بريطانيا” للاستسلام لعناد عرقية الملايو المهيمنة سياسيًّا المصممة على دعم نظام مكون من الائتلافات السياسية القائمة على أساس عرقي، والتي ما زالت تمنح الأفضلية لصالح عرقية الملايو على حساب العرقيات الأخرى، مثل الصينيين والهنود.
صحيحٌ أن كل هذه الدول حققت استقرارًا نسبيًّا، لكنها لا يوجد فيها أنظمة ديمقراطية قوية. فـ”اليونان”، على سبيل المثال، تكافح من أجل تعزيز نظامها الديمقراطي المتقلب. كما أن “السلفادور”، ذات التاريخ الممتد من الحكومات العسكرية، لا تزال دولة هشة ونظامها قمعي. أما “سلطنة عُمان” فهي نظام ملكي تقليدي.
وتُلقي الكاتبة الضوء على “أفغانستان”، موضحة أن الحكومات الأفغانية المتعاقبة، المدعومة من الغرب؛ لم تتمكن من القضاء على الفساد أو الحد من عنف قوات الأمن ضد المدنيين. وعلى الرغم من حملات القمع المتكررة، حرص قادة “أفغانستان” العسكريون على الحفاظ على ظاهرة: “الجنود الأشباح”؛ وهم جنود ورجال شرطة وهميون يسجلون أسماءهم في الدفاتر من أجل الحصول على رواتبهم. وكان القادة الوطنيون يدفعون أموالًا لأمراء الحرب وينقلون المحافظين الممارسين للقمع من محافظة إلى أخرى بدلًا من إقالتهم من مناصبهم العامة.
أثارت الانتخابات الديمقراطية في “أفغانستان” مخاوف جادة بشأن تزوير الانتخابات، بالإضافة إلى مواجهة تحديات إجراء انتخابات حرة ونزيهة أثناء الحرب الأهلية. وساعدت اتفاقيات تقاسم السلطة التي توسطت فيها “الولايات المتحدة” في الحفاظ على واجهة للوحدة السياسية.
انتحار النظام !
تخلص “هازلتون” إلى أن الحكومات في هذه النماذج الخمسة اعتمدت بدرجات متفاوتة على اختيار رجال أقوياء؛ والاعتماد على السيطرة العسكرية على المدنيين للبقاء في السلطة. وحتى الحكام البريطانيين غير الفاسدين لـ”اتحاد مالايا” لم يجروا أي إصلاحات أو تغييرات أعتقدوا أنهم بحاجة إليها للقضاء على التمرد. ولم يكن لدى هذه الحكومات دوافع كبيرة لإجراء تغييرات قد تؤدي إلى إطاحة النخب المسؤولة عن زمام السلطة والسيطرة على الثروة.
تكمل الكاتبة قائلة: خلص تحليلي الأخير، المنشور في مجلة (فورين أفيرز) الأميركية؛ إلى أن مثل هذه التغييرات تعني انتحار النظام، وأن “الولايات المتحدة” تفتقر إلى القوة للتلاعب بالمصالح السياسية داخل البلدان الأخرى. وفي “أفغانستان”، لم يكن من المُرجح أن تفعل حكومة الرئيس الأفغاني الأسبق، “حامد كرزاي”، أو حكومة الرئيس الأفغاني السابق، “أشرف غني”، أكثر من تقديم الوعود بتلبية مطالب التغيير. ومن أجل البقاء في السلطة كان ضروريًّا عقد صفقات مع أمراء الحرب وغيرهم من الفاسدين، وهو ما يساعد في فك لغز الحقائب المليئة بالدولارات التي قدمتها “وكالة المخابرات المركزية” إلى مكتب الرئيس الأفغاني للمساعدة في إبقاء “حامد كرزاي” في السلطة.
وأكدت “هازلتون”؛ أن الأفغان لم يرحبوا أبدًا بالجهود الغربية لإقامة نظام ديمقراطي في “أفغانستان”. مستشهدة بما قاله المفتش العام الأميركي الخاص في هيئة التفتيش العامة لإعادة إعمار “أفغانستان”، من أن الفساد المستشري يقصد به استيلاء المسؤولين الأفغان على المساعدات الخارجية أثناء إرسالها من الحكومة المركزية إلى المناطق النائية. وتُمول المساعدات الدولية المتمردين أيضًا، كما تتعرض جهود “الولايات المتحدة” لإعادة بناء “أفغانستان” وإضفاء الطابع الديمقراطي على البلاد للإعاقة والعرقلة، بسبب الرشوة على جميع المستويات، والإفتقار إلى الدراية بنظام الحكم الأفغاني والمجتمع والسياسة.
أفغانستان في حاجة إلى المساعدة..
يُشير عدد من الخبراء إلى أن مساعدة الأفغان هو الأهم الآن، وليست ممارسة لعبة إلقاء كل طرف اللوم على الطرف الآخر. ويُشير البحث الذي يركز على أهمية الجهود الدولية إلى الطريق، ويقترح أساليب من بينها: استقبال اللاجئين ودعمهم في دول أخرى، وتمويل منظمات اللاجئين وغيرها من المنظمات الدولية مثل: (اليونيسف)، ومساعدة الدول المستقبلة للاجئين.
وخلُصت “هازلتون”، في ختام تحليلها، إلى أن “أفغانستان” أظهرت أن هناك مشكلات لا يستطيع الجيش الأميركي التغلب عليها. لكن المجتمع الدولي ساعد بعض المواطنين الأفغان من خلال برامج محو الأمية، خاصة الفتيات، وتوفير فرص التعليم والرعاية الصحية ودعم النساء الهاربات من العنف الأسري، بالإضافة إلى الجهود المبذولة لإنشاء إعلام مستقل.
وفَّرت كل هذه المساعدات التي حصل عليها المواطنون الأفغان بعض الموارد المهمة الحيوية؛ التي كانوا بحاجة إليها. وساعدت هذه الجهود الدولية، وليس استخدام القوة العسكرية، في إحداث تغييرات مجتمعية كان عديد من الأفغان يحلمون برؤيتها تتحقق على الأراضي الأفغانية. لكن التغييرات التي تلوح في الأفق، في عديد من هذه المجالات، هي التي تجعل الأحداث الأخيرة أكثر مرارة.