وكالات – كتابات:
قد يبدو من السّخافة الإشارة إلى أن مجموعة من المسّلحين غير النظاميين، الذين لا يتجاوز عددهم عشرات الآلاف، والمحاصرين والذين لا يملكون سوى قليل من القدرة على الوصول إلى الأسلحة المتقدمة، يقفون أمام أحد أقوى الجيوش في العالم، الذي تدعمه “الولايات المتحدة” وتُسّلحه.
ومع ذلك؛ فإن عددًا متزايدًا من المحللين الاستراتيجيين الأميركيين يحذّرون من أن “إسرائيل” قد تخسر هذه الحرب، وأن عملية (طوفان الأقصى) تُشّبه هجوم (تيت) الفيتنامي الذي أفضى في النهاية لانسّحاب “أميركا”.
ويبدو أن كلاً من “إسرائيل” و(حماس) تُعيدان ضبط شروط تنافسهما السياسي ليس على الوضع الراهن؛ قبل السابع من تشرين أول/أكتوبر، بل على الوضع الذي كان قائمًا في عام 1948. ليس من الواضح ما سيأتي بعد ذلك، لكن لن تكون هناك عودة إلى الوضع السابق، حسّبما ورد في تقرير لمجلة (The Nation) الأميركية.
وأدى هجوم 07 تشرين أول/أكتوبر المفاجيء؛ (طوفان الأقصى)، إلى تحيّيد المنشآت العسكرية الإسرائيلية، وكسّر بوابات أكبر سجن مفتوح في العالم؛ “قطاع غزة”، وتسبب في هياج مروع قُتِلَ فيه أكثر من: (1200) إسرائيلي.
“طوفان الأقصى” يُشبه هجوم “تيت” الفيتنامي عام 1968..
إن السهولة الصادمة التي اخترقت بها (حماس) الخطوط الإسرائيلية حول “قطاع غزة”؛ ذكَّرت كثيرين بـ”هجوم تيت الفيتنامي” الذي وقع عام 1968.
بالطبع هناك اختلافات شاسعة بين حرب التدخل الأميركية في أرضٍ بعيدة والحرب الإسرائيلية للدفاع عن احتلالها لأراضي “فلسطين”، والتي يُشنّها جيش من المواطنين الإسرائيليين مدفوعًا بإحسّاس مزعوم بالخطر الوجودي.
في المقابل؛ فإن فائدة هذا القياس تكمن في المنطق السياسي الذي يُشكل هجوم الثوار الفيتناميين والفلسطينيين.
ثوار “فيتنام” خسروا في الهجوم بنيتهم العسكرية السرية لكنهم حطموا مزاعم النجاح الأميركي..
في عام 1968؛ خسر الثوار الفيتناميون المعركة وقدموا تضحيات كثيرة في البُنية التحتية والعسكرية السرية التي شيَّدوها بصبرٍ على مدار سنوات.
ومع ذلك؛ كان هجوم (تيت) الفيتنامي لحظة أساسية في هزيمتهم لـ”الولايات المتحدة”، وإن كان ذلك بتكلفة باهظة في أرواح الفيتناميين. ومن خلال شن هجمات دراماتيكية رفيعة المستوى في وقتٍ واحد، على أكثر من: (100) هدف بجميع أنحاء البلاد في يومٍ واحد، حطمت العصابات الفيتنامية المسلحة بأسلحة خفيفة وهْم النجاح الذي روجته إدارة “جونسون” للشعب الأميركي. لقد أوضحت للأميركيين أن الحرب التي طُلب منهم التضحية بعشرات الآلاف من أبنائهم من أجلها لا يمكن الفوز بها؛ (وقد يُشّبه ذلك تأثير طوفان الأقصى الذي أثبت للإسرائيليين التكلفة الباهظة للاحتلال).
وقامت القيادة الفيتنامية بقياس تأثير أعمالها العسكرية من خلال آثارها السياسية؛ وليس من خلال المقاييس العسكرية التقليدية، مثل عدد الرجال الذين ستخسّرهم أو العتاد أو اكتسّاب الأراضي.
هنا جاء رثاء “هنري كيسنجر”؛ عام 1969: “لقد خضنا حربًا عسكرية؛ خصومنا خاضوا معركة سياسية. سعينا للاستنزاف الجسدي. كان خصومنا يهدفون إلى إنهاكنا النفسي. وفي هذه العملية فقدنا رؤية أحد المباديء الأساسية لحرب العصابات: إن حرب العصابات تفوز إذا لم تُخسّر. والجيش التقليدي يخسّر إذا لم ينتصر”.
هكذا قد تكون “إسرائيل” معرضة لخسارة مماثلة أمام “حماس”..
هذا المنطق جعل “جون ألترمان”؛ من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في “واشنطن” العاصمة، يرى أن “إسرائيل” معّرضة لخطر كبير بالخسارة أمام (حماس)، فيقول: “يدور مفهوم (حماس) للنصر العسكري حول تحقيق نتائج سياسية طويلة المدى. لا ترى (حماس) النصر في غضون عام واحد أو خمسة أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال الذي يُزيد من التضامن الفلسطيني ويُزيد من عزلة إسرائيل. في هذا السيناريو، تحشّد (حماس) السكان المحاصرين في غزة حولها بغضب وتُساعد في انهيار حكومة السلطة الفلسطينية من خلال ضمان أن ينظر الفلسطينيون إليها على أنها ملحق ضعيف بالسلطة العسكرية الإسرائيلية”.
وفي الوقت نفسه؛ تبتعد الدول العربية بقوة عن التطبّيع، وينحاز الجنوب العالمي بقوة إلى “القضية الفلسطينية”، وتتراجع “أوروبا” عن تجاهلها لتجاوزات الجيش الإسرائيلي، ويندلع جدل أميركي حول “إسرائيل”، مما يؤدي إلى تدمير دعم الحزبين الأميركيَّين الذي تتمتع به “إسرائيل” هنا منذ أوائل السبعينيات.
تجاهلت إدارة “بايدن” والقادة الغربيون مثل هذه التحذيرات، وهؤلاء تعود جذور احتضانهم غير المشروط لحرب “إسرائيل” إلى الوهم القائل بأن “إسرائيل” ليست سوى دولة غربية أخرى تُمارّس أعمالها بسلام قبل أن تتعرض لهجوم غير مبرر في 07 تشرين أول/أكتوبر. وهذا ليس سوى خيال مريح لأنفس أولئك الذين يفضِّلون تجنب الاعتراف بالواقع الذي شاركوا في خلقه.
هجوم 07 تشرين أول نتيجة طبيعية لنظام عنصري عنيف..
كان فشل “إسرائيل” في توقع السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023، بمثابة فشل سياسي في فهم عواقب نظام القمع العنيف الذي وصفته منظمات حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية الرائدة بالفصل العنصري.
حتى لو قمع الفلسطينيون؛ فإن البُنية القائمة على القسّوة البشرية سوف تنهار حتمًا على نفسها، ولا ينبغي لـ”إسرائيل”، التي تقتل الأطفال الفلسطينيين، أن تُفاجَأ عندما يأتي هؤلاء مُفعَمين بالكراهية ويفجرون أنفسهم في المواقع الإسرائيلية، حسّب المجلة الأميركية.
وتستطيع “إسرائيل” أن تقتل ألفًا من رجال (حماس) يوميًا دون أن تحل أي شيء، لأن أعمال العنف التي ترتكبها “إسرائيل” سوف تكون مصدرًا لتجديد صفوفهم. إن العنف الهيكلي الطاحن الذي توقعت “إسرائيل” أن يُعاني منه الفلسطينيون في صمت، يعني أن الأمن الإسرائيلي كان دائمًا أمنًا وهميًا.
إن المذبحة والدمار الشاملين اللذين أحدثتهما “إسرائيل” في “غزة” يُشيران إلى نية لجعل المنطقة غير صالحة للسّكن بالنسبة: لـ (2.2) مليون فلسطيني يعيشون هناك، والضغط من أجل الطرد عبر كارثة إنسانية مدبرة عسكريًا.
بينما تُشير تقديرات الجيش الإسرائيلي إلى أنه قضى حتى الآن على أقل من: (15%) من القوة القتالية التابعة لـ (حماس)؛ (نحو: 05 آلاف مقاتل، وهناك شكوك في دقتها). وذلك في حملة أسّفرت عن مقتل أكثر من: (21) ألف فلسطيني، معظمهم من المدنييّن، منهم: (8600) طفل.
وأكدت الأسابيع التي تلت يوم السابع من تشرين أول/أكتوبر، أنه لا يمكن العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا من قبل. وكان هذا على الأرجح هدف (حماس) من شّن هجماتها. وحتى قبل ذلك، كان كثيرون في القيادة الإسرائيلية يدعون علنًا إلى استكمال النكبة، أي التطهير العرقي لـ”فلسطين”، والآن تضخَّمت تلك الأصوات.
وشهدت الهدنة الإنسانية التي اتُّفِقَ عليها بين الطرفين في أواخر تشرين ثان/نوفمبر، إطلاق (حماس) سراح بعض الأسرى الإسرائيليين مقابل إطلاق سراح الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية وزيادة الإمدادات الإنسانية التي تدخل “غزة”. وعندما استأنفت “إسرائيل” هجومها العسكري وعادت (حماس) إلى إطلاق الصواريخ، كان من الواضح أن (حماس) لم تُهزَم عسكريًا.
هل سّعت “حماس” للتحرر من أغلال حكم “غزة” وتأكيد أهمية القضية الفلسطينية برمتها ؟
يزعم الكاتب أنه: “يكاد يكون من المؤكد أن الجيش الإسرائيلي سوف يطرد (حماس) من حكم غزة”. لكن محللين مثل؛ “طارق باكوني”، يقولون إن الحركة سّعت منذ بعض الوقت إلى التحرر من أغلال حكم منطقة معزولة عن بقية “فلسطين” بشروط وضعتها قوة الاحتلال.
وأظهرت (حماس) منذ فترة طويلة، رغبة في الخروج من دورها في حكم “غزة”، بدءًا من احتجاجات مسّيرة العودة الحاشدة غير المسلحة؛ في عام 2018، والتي قمعتها نيران القناصة الإسرائيليين بعنف، إلى الجهود التي أحبطتها “الولايات المتحدة” و”إسرائيل” لنقل حكم “غزة”؛ إما إلى سلطة فلسطينية بعد إصلاحها ويُتَّفق عليها وتتألف من تكنوقراط؛ وإما إلى حكومة منتخبة، في حين ركزت (حماس) على إعادة توجيه السياسة الفلسطينية في كل من “غزة” و”الضفة الغربية” على مقاومة الوضع الراهن للاحتلال، بدلاً تقبل وصايته على الأراضي الفلسطينية. وإذا كانت نتيجة هجومها هي فقدان المسؤولية عن حكم “غزة”، فقد ترى (حماس) أن ذلك مفيد.
حاولت (حماس) دفع (فتح) إلى مسّار مماثل، وحثت الحزب الحاكم في “الضفة الغربية” على إنهاء التعاون الأمني بين “السلطة الفلسطينية” و”إسرائيل” ومواجهة الاحتلال بشكلٍ أكثر مباشرة. وبالتالي فإن فقدان السّيطرة البلدية على “غزة” لا يُشكل هزيمة حاسّمة لجهود (حماس) الحربية: بالنسبة لحركة مكرسّة لتحرير الأراضي الفلسطينية، بدأ حكم “غزة” يبدو كأنه طريق مسّدود.
رأت أن “فلسطين” معرضة لموت بطيء لو استمر الوضع السابق !
شعرت (حماس) على الأرجح بأنها مضطرة إلى خوض مقامرة عالية المخاطر لتحطيم الوضع الراهن الذي اعتبرته موتًا بطيئًا لـ”فلسطين”. وربما كان التعطيل العنيف للوضع الراهن من جانب (حماس) قد أتاح لـ”إسرائيل” الفرصة لتنفيذ نكبة أخرى. وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حريق إقليمي أو توجيه ضربة للفلسطينيين قد يسّتغرق التعافي منها جيلاً كاملاً. لكن الأمر المؤكد هو أنه لا عودة إلى ما كان عليه من قبل.
ربما كانت مناورة (حماس) إذاً تتمثل في التضحية بالحكم البلدي في “غزة” المحاصرة لتعزيز مكانتها كمنظمة مقاومة وطنية. (حماس) لا تُحاول دفن (فتح): إن اتفاقيات الوحدة المختلفة بين (حماس) و(فتح)، خاصةً تلك التي قادها أسرى من كلتا الحركتين، تُظهر أن (حماس) تسّعى إلى تشكيل جبهة موحدة. فـ”السلطة الفلسطينية” غير قادرة على حماية الفلسطينيين في “الضفة الغربية” من العنف المتزايد الذي تُمارسّه المسّتوطنات الإسرائيلية وسّيطرتها الراسّخة، فضلاً عن الرد على سفك الدماء في “غزة”. وقد زادت “إسرائيل” من تقويض (فتح) بين السكان ودفعت هؤلاء السكان باتجاه (حماس).
تتمتع (حماس) بمنظور فلسطيني شامل، وليس منظورًا خاصًا بـ”غزة”، ولذلك فقد قصدت أن يكون للسابع من تشرين أول/أكتوبر؛ تأثيرات تحويلية في جميع أنحاء “فلسطين”. خلال “انتفاضة الوحدة” عام 2021؛ التي سّعت إلى ربط نضالات الفلسطينيين في كل من “الضفة الغربية” و”غزة” مع نضالات مدن الداخل، اتخذت (حماس) إجراءات لدعم هذا الهدف.
والآن، تعمل الدولة الإسرائيلية على تسّريع هذا الارتباط من خلال حملة قمع مذعورة ضد أي تعبير عن المعارضة بين مواطنيها الفلسطينيين من “عرب 48”. كما اعتقلت السلطات الإسرائيلية مئات الفلسطينيين في “الضفة الغربية”، ومن ضمنهم نشطاء وشباب ينشرون على منصة (فيس بوك). وتُدرك “إسرائيل” تمام الإدراك احتمال التصعيد في “الضفة الغربية”. وبهذا المعنى، فإن الرد الإسرائيلي لم يؤدِ إلا إلى التقريب بين سكان “الضفة الغربية” و”قطاع غزة”.
من الواضح أن “إسرائيل” لم تكن تنوي قط قبول قيام “دولة فلسطينية” ذات سّيادة في أي مكان غرب “نهر الأردن”. وفي المقابل؛ تعمل “إسرائيل” على تكثيف خططها طويلة الأمد لتأمين سّيطرتها على المنطقة. إن ذلك، إضافة إلى التعدي الإسرائيلي المتزايد على “المسجد الأقصى”، بمثابة تذكير بأن “إسرائيل” تعمل بنشاط على تأجيج أي انتفاضة قادمة في “الضفة الغربية” و”القدس الشرقية”، وحتى داخل خطوط 1967.
لقد حطمت الغارة التي قادتها (حماس) الأساطير التي تقول إن “إسرائيل لا تُقهر”، وتوقعات مواطنيها بالهدوء حتى في الوقت الذي تخنق فيه الدولة حياة الفلسطينيين. قبل أسابيع فقط، كان رئيس الوزراء؛ “بنيامين نتانياهو”، يتباهى بأن “إسرائيل” نجحت في: “إدارة” الصراع إلى درجة أن فلسطين لم تُعد تظهر على خريطته (للشرق الأوسط الجديد)”. ومع “اتفاقيات إبراهام” والتحالفات الأخرى، كان بعض القادة العرب يحتضنون “إسرائيل”. وكانت “الولايات المتحدة” تُرّوج للخطة، حيث ركز الرئيسان؛ “دونالد ترامب” و”جو بايدن”، على” “التطبيّع” مع الأنظمة العربية التي كانت على استعداد لترك الفلسطينيين عُرضة للفصل العنصري الإسرائيلي المتشّدد.
وكان يوم السابع من تشرين أول/أكتوبر؛ بمثابة تذكير وحشي بأن هذا الأمر لا يمكن الدفاع عنه، وأن “المقاومة الفلسطينية” تُشّكل شكلاً من أشكال سلطة النقض على الجهود التي يبذلها الآخرون لتحديد مصيرهم.
لسنوات؛ هاجم المسّتوطنون المحمّيون من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي، القرى الفلسطينية، بهدف إجبار سُكانها على المغادرة، وتشدّيد قبضة “إسرائيل” غير القانونية على الأراضي المحتلة، لكن توسّيع هذا منذ 07 تشرين أول/أكتوبر، يتسبب في غضب حتى شركاء “إسرائيل” في “الولايات المتحدة”.
إن تهديد “بايدن” بحظر التأشيرات على المسّتوطنين المتورطين في العنف ضد الفلسطينيين بـ”الضفة الغربية” هو مجرد تهرب؛ فهؤلاء المسّتوطنون بعيدون كل البُعد عن الجهات المارقة الفردية؛ إنهم مسّلحون من قبل الدولة ويتمتعون بحماية شديدة من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي والنظام القانوني الإسرائيلي، لأنهم يُنفّذون سياسة الدولة. لكن حتى تهديد “بايدن” الخاطيء يوضح أن “إسرائيل” على خلاف مع إدارته.
“إسرائيل” غاضبة ومنقسّمة وتُعاني اقتصاديًا..
من السابق لأوانه قياس تأثير السابع من تشرين أول/أكتوبر على السياسة الداخلية الإسرائيلية. ذلك اليوم جعل الإسرائيليين أكثر تشّددًا، ولكن في الوقت نفسه أصبحوا أكثر عدم ثقة بقيادتهم الوطنية بعد الفشل الهائل في الاستخبارات والرد العسكري. لقد تطلب الأمر تعبئة جماهيرية كبيرة ضد الحكومة من قبل عائلات الأسرى الإسرائيليين في “غزة” من أجل وقف العمل العسكري وتأمين صفقة إطلاق سراح الأسرى.
إن المعارضة الداخلية الكبيرة بشأن الأسرى وما هو مطلوب من “إسرائيل” لتأمين عودتهم يمكن أن تُزيد الضغط من أجل مزيد من صفقات الإفراج وحتى وقف كامل لإطلاق النار، رُغم الإصرار على مواصلة الحرب بين الكثير من القيادات العسكرية والسياسية. ويظل الرأي العام الإسرائيلي مشوشًا، وغاضبًا، وغير متوقع.
ثم هناك تأثير الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي؛ الذي يعتمد نموذج نموه على جذب مستويات عالية من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى قطاع التكنولوجيا وغيره من الصناعات التصديرية. وقد استُشهِدَ بالاحتجاج الاجتماعي، العام الماضي وعدم اليقين بشأن الخلافات الدستورية كسبب لانخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسّبة (68%) على أساسٍ سنوي خلال الصيف. وتُضيف الحرب التي تخوضها “إسرائيل”، والتي حُشِدَ فيها: (360) ألف جندي احتياطي لها، مستوى جديدًا من الصدمة.
أصبح اللوبي التكنولوجي في أزمة؛ وأُصيبَ قطاع البناء بالشّلل بسبب الحجر على القوى العاملة الفلسطينية في “الضفة الغربية”، وانهارت الخدمات الاستهلاكية مع ابتعاد الناس عن المطاعم وقلة التجمعات العامة. وتُشير سجلات بطاقات الائتمان إلى أن الاستهلاك الخاص في “إسرائيل” انخفض بنحو الثُلث في الأيام التي تلت اندلاع الحرب، وانخفض الإنفاق على الترفيه والتسّلية بنسّبة: (70%)، وتوقفت السياحة بشكلٍ مفاجيء، وهي الدعامة الأساسية للاقتصاد الإسرائيلي، وأُلغِيَت الرحلات الجوية وتحويل شحن البضائع. وفي الخارج، أمرت الحكومة الإسرائيلية شركة (شيفرون) بوقف الإنتاج في حقل (تمار) للغاز الطبيعي، مما كلف “إسرائيل”: (200) مليون دولار شهريًا من الإيرادات.
“فلسطين” تحولت إلى رمز لمقاومة النفاق الغربي..
ربما تكون “إسرائيل” و”الولايات المتحدة” قد أقنعتا نفسيهما بأن العالم قد: “تجاوز” المحنة الفلسطينية، ولكن الطاقات التي أطلقتها الأحداث منذ السابع من تشرين أول/أكتوبر، تُشير إلى أن العكس هو الصحيح.
ترددت أصداء دعوات التضامن مع “فلسطين” في شوارع العالم العربي، وعملت في بعض البلدان كلغة مشفرة للمعارضة ضد الاستبداد.
وفي جميع أنحاء الجنوب العالمي وفي مدن الغرب، تحتل “فلسطين” الآن مكانًا رمزيًا باعتبارها تجسّيدًا للتمرد ضد النفاق الغربي ونظام ما بعد الاستعمار الظالم. منذ الغزو غير القانوني الذي قادته “الولايات المتحدة” للعراق، لم يخرج هذا العدد الكبير من الملايين حول العالم إلى الشوارع للاحتجاج.
لقد استعرضت العمالة المنظمة عضلاتها الأممية لتحدي شحنات الأسلحة إلى “إسرائيل”، وذكَّرت نفسها بقدرتها على تغيّير التاريخ، وتُستخدَم الآليات القانونية مثل “المحكمة الجنائية الدولية”، و”محكمة العدل الدولية”، وحتى المحاكم الأميركية والأوروبية للطعن على السياسات التي تمكِّن “إسرائيل” من ارتكاب جرائم الحرب.
قطعت العديد من الدول في “أميركا اللاتينية” و”إفريقيا” علاقاتها بشكلٍ رمزي، وأدى القصف المتعمد للسُكان المدنيين ومنع الوصول إلى المأوى والغذاء والماء والرعاية الطبية إلى إصابة العديد من حلفاء “إسرائيل” بالذعر.
إن مدى العنف الذي يرغب الغرب في تأييده ضد الشعب الأسير في “غزة” يُقدم للجنوب العالمي تذكيرًا صارخًا بالحسابات غير المسّتقرة مع الغرب الإمبراطوري. وعندما يُناشد الرئيس الفرنسي؛ “إيمانويل ماكرون”، ورئيس الوزراء الكندي؛ “غاستن ترودو”، “إسرائيل”، علنًا أن تتوقف عن: “قصف الأطفال”، فإن “إسرائيل” مُعّرضة لخطر خسارة حتى بعض الدول من الغرب.
“حماس” ليست “داعش” بل متجذرة في فلسطين وتُشّبه حركات التحرر..
ويحب الساسة ووسائل الإعلام الغربية أن يتخيلوا أن (حماس) منظمة على غرار تنظيم (داعش)، وأنها تحتجز المجتمع الفلسطيني رهينةً. لكن (حماس)، في الواقع، حركة سياسية متعددة الأوجه متجذرة في نسّيج المجتمع الفلسطيني وتطلعاته الوطنية.
فهي تُجسّد اعتقادًا أكدته عقود من الخبرة الفلسطينية بأن “المقاومة المسّلحة” تُشّكل عنصرًا مركزيًا في مشروع “التحرير الفلسطيني” بسبب فشل “عملية أوسلو”. وقد نما نفوذ وشعبية (حماس) مع استمرار “إسرائيل” وحلفائها في إحباط عملية السلام وغيرها من الاستراتيجيات اللاعنفية لتحقيق التحرير الفلسطيني.
ستؤدي الحملة الإسرائيلية إلى تقليص القدرة العسكرية لـ (حماس). ولكن حتى لو كان الأمر يتعلق بقتل كبار قادة المنظمة؛ (كما فعلت من قبل)، فإن رد “إسرائيل” على أحداث السابع من تشرين أول/أكتوبر، يؤكد رسالة (حماس) ومكانتها بين الفلسطينيين في مختلف أنحاء المنطقة وخارجها.
ويُشير التاريخ أيضًا إلى نمط حيث يظهر ممثلو الحركات التي وصفها خصومهم بأنها: “إرهابية” – في جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، أو إيرلندا – على طاولة المفاوضات عندما يحين الوقت للبحث عن حلول سياسية. يُخبرنا التاريخ بأنه سيكون من غير المألوف المراهنة ضد (حماس)، أو على الأقل نسّخة ما من التيار السياسي الإيديولوجي الذي تُمثله، والقيام بالشيء نفسه إذا أُعيدَ النظر بجدية في الحل السياسي بين “إسرائيل” والفلسطينيين.