وكالات – كتابات :
مع توسّع العالم في استخدام الألواح الشمسية وتوربينات الهواء والسيارات الكهربائية للوصول إلى الحياد الكربوني عام 2050، تتصاعد أهمية الأتربة النادرة، التي لا يمكن الاستغناء عنها في مثل هذه الصناعات وغيرها. فـ”الولايات المتحدة” تعتمد على الأتربة النادرة؛ (العناصر الأرضية النادرة)، المُنّتجة في “الصين” بنحو: 80%.
ومشكلة “الاتحاد الأوروبي” أكبر، حيث يستورد: 98% من حاجاته من الأتربة النادرة من “الصين”، وفق ما جاء في تقرير لـ”المفوضية الأوروبية”، أيلول/سبتمبر 2020.
هذا ما يجعل كلاً من “الولايات المتحدة” و”أوروبا” في وضع أسوأ من تبعية “الاتحاد الأوروبي”؛ لـ”الغاز الروسي”، بنحو: 40% قبل اندلاع الحرب بـ”أوكرانيا”؛ في عام 2022.
ما هي الأتربة النادرة.. سلاح “الصين” العظيم ؟
المُثير للاهتمام أن “الصين وروسيا وأوكرانيا” من أكبر المُصّدرين للأتربة النادرة، كما تقوم: “أستراليا والبرازيل والهند وكازاخستان وماليزيا وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة” أيضًا باستخراج وتنقية كميات كبيرة من هذه المواد، وفق “معهد الأتربة النادرة والمعادن”، الذي يوجد مقره في “سويسرا”.
وتتكون الأتربة النادرة من نحو: 17 عنصرًا، تدخل في: 200 نوع على الأقل من الصناعات الحديثة، وعلى سبيل المثال؛ فإن هاتف (آي فون) يعتمد على نحو: 07 عناصر من الأتربة النادرة.
وهذه العناصر الأرضية ليست نادرة من حيث الكمية، على غّرار الذهب كما يتبادر للذهن، ولكن نُدرتّها تكمن في عدم وجودها منفصلة عن معادن أخرى، وصعوبة فصلها وامتصاصها عن بقية المعادن، وأيضًا قلة المعروض منها، وحداثة اكتشافها (القرن الـ 18)، وخصائصها الفريدة.
ومنذ بداية التسعينيات؛ استشعرت “الصين” أهمية الأتربة النادرة في الصناعات الحديثة والذكية، فاستثمرت في تطوير تكنولوجيا استخراجها وفصلها عن بقية المعادن وتكريرها، حتى هيمنت بنسّبة: 90% على إنتاجها في العالم مع مطلع القرن الـ 21، مستفيدة من رخص اليد العاملة وعدم تشّدد شروطها البيئية، ما أتاح تصدير الفائض من إنتاجها بأسعار تنافسية.
“أميركا” ما زالت متأخرة في صناعة “الأتربة النادرة”..
غير أن إدراك “واشنطن” لخطورة تبعيتها لـ”الصين”؛ في مجال الأتربة النادرة على سلاسل التوريد، دفعها لتكثيف عملية استخراجها داخل البلاد، ودخول منافسين جُدّد للسوق مع تزايد الطلب عليها، أدى إلى تراجع هيمنة “الصين” على الإنتاج من: 90 إلى: 70%.
بل إن مصادر أميركية تدعي مؤخرًا؛ عن أن حصة “الصين” من إنتاج الأتربة النادرة نزلت إلى: 60%، ومع ذلك تبقى النسّبة مرتفعة، وتبعية “واشنطن”؛ لـ”بكين”، مستمرة.
ويقول تقرير لوكالة (الأناضول)، إنه سبق لـ”الصين” أن استعملت الأتربة النادرة كسلاح ضد “اليابان”؛ في 2010، بعد أن علقت صادراتها من هذه العناصر الأرضية إليها في أعقاب التوترات المتعلقة بجزر “سينكاكو”، التي تُديرها “اليابان”، والتي تُطالب بها “بكين”؛ وتسّميها: “دياويو”، وفق صحيفة (نيكاي) اليابانية بطبعتها الإنكليزية.
وفي كانون أول/ديسمبر 2022، أعلنت وزارتا “التجارة” و”التكنولوجيا” في “الصين”، لأول مرة اعتزامهما حظر أو تقيّيد صادرات التكنولوجيا لمعالجة العناصر الأرضية النادرة وصّقلها، على غرار صادرات تكنولوجيا السّبائك لصنع مغناطيس عالي الأداء مشتق من أتربة نادرة.
وتزامن هذا الموقف مع العقوبات التي فرضتها كل من “الولايات المتحدة وهولندا واليابان”؛ على “الصين”، من خلال تقيّيد تصدير تكنولوجيا ومعدات تصنيع الرقائق الإلكترونية.
الغرب يُحاول الانفتاح بشكلٍ أكبر على هذه الصناعة والاستثمار فيها..
ومع تصاعد الاحتقان بشأن جزيرة “تايوان”؛ بين “الصين” و”الولايات المتحدة”، واحتمال تحوله إلى مواجهة مسّلحة في السنوات القليلة المقبلة، لا ترغب “واشنطن” في حدوث أي ارتباك بسلاسل التوريد المتعلقة بالصناعات المعتمدة على الأتربة النادرة، خاصة العسكرية منها.
لذلك تسّعى “واشنطن” لتشجيع شركائها في “مجموعة السبعة”؛ (اليابان وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا وبريطانيا، بالإضافة إلى الولايات المتحدة)، لتجميع الموارد ورصد استثمارات كبيرة في القطاع، عبر حزمة من الحوافز الضريبية والتجارية السّخية للشركات التي تستثمر في استخراج الأتربة النادرة ومشاريع الطاقات النظيفة.
وفي هذا الصدد، أصدرت “الولايات المتحدة”: “قانون خفض التضخم”، في آب/أغسطس 2022، لتمديد الإعفاءات الضريبية الحالية، وتشجيع الاستثمار في المشروعات التي تعتمد على الأتربة النادرة مثل: الطاقة المتجددة، وتوريدها من الدول الحليفة.
ومع ذلك ما زالت “الولايات المتحدة” متخلفة 15 عامًا عن “الصين”؛ في تكنولوجيا استخراج وتكرير الأتربة النادرة، وفق بعض التقديرات.
ففي الوقت الذي طوّرت “الصين”؛ على مدى عقود، تكنولوجيا فصل وامتصاص الأتربة النادرة وتكريرها، لم ترصد “الولايات المتحدة” الاستثمارات الكافية في هذا القطاع طيلة هذه الفترة.
غير أن سّعي “واشنطن” وحلفائها للاستثمار في اسّتخراج المعادن النادرة وتكريرها، سواء في بلدانها أو خارجها على غرار “أستراليا” والبلدان الإفريقية، من شأنه تقليص الفجوة الإنتاجية والتكنولوجية مع “الصين”؛ بحسب مزاعم الآلة الدعائية الأميركية المضللة.
وفي هذا السياق، أعلنت شركة (لكاب) السويدية؛ في كانون ثان/يناير الماضي، عن اكتشاف مهم لأتربة نادرة في مدينة “كيرونا”؛ (أقصى شمال). واعتبرت “السويد” أن هذا الاكتشاف يمكن أن: “يُسّاعد الاتحاد الأوروبي في أن يُصبح أكثر استقلالية عن الأتربة النادرة من “الصين”، ولتعّزيز التحول الأخضر؛ (الطاقات النظيفة)”.
لكن الاكتشاف الأكبر والأهم، كان في “تركيا”، عندما أعلنت “وزارة الطاقة والموارد الطبيعية”، في آب/أغسطس 2022، امتلاك البلاد نحو: 694 مليون طن من الرواسّب التي تحتوي على أتربة نادرة تكفي لتزويد العالم لألف عام. ووضع هذا الاكتشاف البلاد في المرتبة الثانية، من حيث احتياطات الأتربة النادرة بعد “الصين”، كما يدعي تقرير لوكالة (الأناضول).
العرب في مرحلة الدراسة والاستكشاف و”الجزائر” تتقدم..
رغم أن عددًا من الدول العربية اكتشفت بها أتربة نادرة، فإنه لم يتم بعد استغلال هذه العناصر الأرضية بكمية تجارية، نظرًا لحاجتها تكنولوجيا متقدمة للاستخراج والتكرير، وبالتالي استثمارات أجنبية من دول لها خبرتها في هذا المجال.
ناهيك عن أن استخراج الأتربة النادرة فيه محاذير بيئية، نظرًا لاستخدام مواد كيميائية ملوثة، ما دفع “الولايات المتحدة” ودول أوروبية إلى عدم التوسّع في مثل هذه المشاريع؛ إلا وفق شروط صارمة، ما أتاح لـ”الصين” فرصة للانطلاق والتفوق.
“ورُب ضارة نافعة”، فسّعي الدول الغربية، بما فيها “الاتحاد الأوروبي واليابان” للانعتاق من هيمنة “الصين” على سوق الأتربة النادرة، جعلها تلتف إلى الأسواق العربية والإفريقية.
وتوجد على رأس الدول العربية التي تتوفر بها عناصر أرضية نادرة: “الجزائر وليبيا والسعودية”، وغير مسّتبعد أن تتوفر في دول عربية أخرى؛ إذ تم الاهتمام بحقل استكشاف هذه العناصر المنتشرة في الطبيعة بشكلٍ: “غير نادر”.
وتتوفر في “الجزائر” نحو: 20% من الاحتياطات العالمية للأتربة النادرة، وفق تقديرات “مكتب البحوث الجيولوجية والمعدنية”، التابع للوكالة الإفريقية للإعلام الاقتصادي والمالي.
ورغم توفر “الجزائر” على احتياطات مهمة من الأتربة النادرة؛ معروف منذ عقود في منطقة “الأهقار”، بولاية “تمنراست”، في أقصى الجنوب الشرقي، إلى جانب معادن وأحجار كريمة على غرار الذهب واليورانيوم، فإنها ظلت مهملة، باستثناء استثمارات محدودة في استخراج الذهب.
لكن ابتداء من 2022، شرعت “الجزائر” في مرحلة الدراسات الاستكشافية لتقدير احتياطاتها الفعلية من العناصر الأرضية النادرة، ورسم الخرائط الجيولوجية، بالتزامن مع مشاوراتها مع عدة بلدان على غرار: “روسيا وفرنسا واليابان”، لعقد شراكات في هذا القطاع.
وفي امتداد طبيعي لمنطقة “الأهقار” الجزائرية، تتحدث دراسات ليبية عن وجود أتربة نادرة في أقصى الجنوب الغربي لـ”إقليم فزان”.
أما في “السعودية”، فتم اكتشاف: 04 عناصر من المعادن النادرة في منطقة “حزم الجلاميد” و”جبل أم وعال”؛ (شمال)، بالقرب من مثلث الحدود مع “الأردن” و”العراق”.
ومع توسّع تجارة الأتربة النادرة في العالم، والتي لا تتجاوز حاليًا مليارًا ونصف المليار دولار فقط، واشتداد التنافس بين “الصين” و”روسيا” من جهة؛ و”الولايات المتحدة” و”أوروبا” و”اليابان” من جهة أخرى، على مناجم العناصر الأرضية، فذلك سيصب في مصلحة الدول العربية للاستفادة من تكنولوجيا تعدين هذه الأتربة، وتصديرها في شكلها الخام أو تصنيعها بشكلٍ جزئي أو كلي.
فمع تحول العالم نحو استخدام الطاقات النظيفة بشكلٍ واسعة، سيشتد الطلب على مكونات الأتربة النادرة، المهمة أيضًا في الصناعات الذكية، مثل الهواتف النقالة، والطائرات المُسيّرة، والصواريخ (الباليستية) والذخائر الموجهة والطاقة النووية.
بل: “يكاد يكون من المستحيل استخدام قطعة من التكنولوجيا الحديثة لا تحتوي على واحدة” من عناصر الأتربة النادرة، وفق “معهد الأتربة النادرة والمعادن”؛ في “سويسرا”.