خاص: ترجمة- د. محمد بناية:
قبل نحو عامٍ ونصف؛ نشرت مقالًا نقديًا حول مقابلة؛ “برويز ثابتي”، أحد أهم مسؤولي جهاز المخابرات الملكي؛ (السافاك)، بعنوان: (جهاز أمني أم جهاز استخباري؟)، وأوضحت كيف كان هذا الجهاز أمنيًا لا استخباريًا، ولم يكن إثبات ذلك صعبًا. بحسّب “عباس عبدي”؛ في تحليله المنشور بصحيفة (اعتماد) الإيرانية.
فلا توجد أي تقارير داخلية استراتيجية أو علمية استشرافية من ذلك الجهاز الضخم، تقارير تقوم بتحليل الأوضاع القائمة في النظام وتقدم تنبؤات بالمستقبل.
في المقابل نجد الكثير من المعلومات القيّمة وغير القيّمة حول من قال ماذا في أي اجتماع. تجد العميل الأول باسم “السبت” يكتب تقريرًا، ثم يقوم العميل “الأحد” بتحليل هذا الرأي أو رفضه، ثم يأمر العميل “الجمعة” بتكثيف المراقبة والتعقب!! وفي النهاية، لا نجد ولو سطرًا واحدًا من تحليل اجتماعي أو سياسي عن مستقبل ذلك المجتمع.
فقد انحصر عملهم في متابعة عدد محدود من الصحف وتقيّيم عناوينها. كانوا يتعاملون مع الكتّاب والطلاب، وكل جهدهم كان منصبًا على قمع العناصر السرية الداعمة للكفاح المسلح. وعندما نجحوا في هذا الهدف، تنفسوا الصعداء وكأنهم قد حركوا جبل “دماوند”؛ ولم يعودوا يعيرون الله اهتمامًا. لكن بعد عامين فقط، حزموا حقائبهم والنظام كله وغادروا البلاد.
ليست معنية كثيرًا بالتجسَّس والتنَّصت..
وفي تلك المقالة؛ أوضحت أن الأجهزة الاستخبارية ليست معنية كثيرًا بالتجسَّس والتنَّصت، بل في الحقيقة مثل هذه التصرفات مرفوضة في الأدبيات الدينية، ليس فقط لأسباب أخلاقية، بل لأنها تشتَّت الانتباه وتؤدي إلى انحراف وظيفي.
تذكروا القصص التي تتحدث عن أولئك الذين تمكنوا من فهم لغة الحيوانات، فكانت النتيجة كارثية. والحقيقة أنه لو كانت لدينا آذان قادرة على سماع أحاديث الآخرين من مسافات بعيدة، أو رؤية ما خلف الجدران، أو امتلكنا حاسة شم ككلب صيد، أو بصر نسر، أو سمع بومة… إلخ، لكانت حياتنا شاقة وغير مريحة للغاية.
لكن حاليًا نملك كل هذه القدرات؛ وربما أكثر بسبب التكنولوجيا. ولك أن تتخيل لو أصبح من الممكن قراءة العقول، كم من الأفكار اللحظية التي تدور في ذهن كل منا تجاه الآخر، وكيف إذا تمكن الطرف الآخر من قراءتها، لتحولت الحياة إلى جحيم! وللأسف هذا هو النهج الكارثي للأجهزة الأمنية التي تلهث خلف هذه الأمور.
وفي النهاية، ينطبق عليهم مثل المنَّجم الذي يبحث عن النجوم في السماء، لكنه لا يعلم ما يحدث في الغرفة المجاورة له.
كيف وصلت إيران إلى هذا التردي في الاستخبارات ؟
كان المنتظر أن تتوقع الأجهزة الأمنية الإيرانية توقَّع العدوان الإسرائيلي وأجزاء من أبعاده وأساليبه، والمؤكد أنهم علموا ماهية القوى التي ستُشارك في العدوان، وبأي إمكانيات.
وقد يتساءل البعض: ولماذا لم يخطر ذلك ببال المواطن العادي؟ الجواب أولًا: كان البعض متيقنًا من وقوع العدوان، وكان يُعبّر عن ذلك في شكل تحليل، لكن لا يُتوقع من المواطن العادي معرفة التفاصيل.
وبالتالي؛ لا شك أن القصور الاستخباراتي كان أبرز نقاط الضعف في البُنية السياسية الإيرانية. والسؤال: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟.. وسأشير هنا إلى بعض الأسباب بإيجاز:
01 – من أهم الأسس هو ضرورة أن تتمتع الأجهزة الاستخبارية باستقلال نسّبي في أداء المهام.
02 – ضرورة التميّيز بين التحليلات الكبرى والاستراتيجية، وبين التفاصيل الصغيرة والعملياتية.
03 – ترتيب القضايا حسّب الأهمية، ووضع القضايا الحيوية مثل الحرب على رأس الأولويات.
04 – اختيار العاملين في الأجهزة الاستخبارية وفقًا لمستوى عالٍ من الكفاءة والمعرفة.
05 – من أبرز خصائص الأجهزة الاستخبارية الفعالة هو إمكانية تقييّم أدائها ونقد تحليلاتها.
وإذا ما نظرنا إلى وضع الأجهزة الاستخبارية في “إيران” وفقًا لهذه المعايير، فسنجد أن ما حدث في العدوان الأخير لم يكن أمرًا مفاجئًا أو غير متوقع.
تجارب سابقة من دول الجوار..
ولبيان أهمية هذا الموضوع؛ أقتبس لكم ما ورد في الصفحة (163) من كتاب: (كيف تسقط الديكتاتوريات وتبقى الشعوب حيّة)، خاصة أن هذا المثال يتعلق بالحرب “الإيرانية-العراقية”: “لم يكن لدى النظام العراقي أي معلومات دقيقة عن وضع إيران، لأن أغلب الأجهزة الاستخبارية كانت منشَّغلة بالتجسَّس على الشعب والجيش. وكان التركيز على الأعداء الداخليين كبيرًا لدرجة أنه عشيّة الحرب لم يكن هناك سوى ثلاثة ضباط استخبارات مكلفين بجمع وتحليل المعلومات عن إيران، وكان أحدهم فقط يعرف اللغة الفارسية! وهذه حالة كلاسيكية لجيش تم تحييّده خوفًا من الانقلاب، فانهزم في ساحة المعركة لأنه لم يُصمم أصلًا للقتال”.
ولكن بعد فترة، تغيّرت حسابات “صدام”؛ فقبل الحرب كان يعتبر الجيش العراقي تهديدًا أكبر من الجيش الإيراني، ولكن بعدما بدأ الإيرانيون بالتفوق واقتربت صواريخهم من “بغداد”، تغيّر موقفه.
ووفقًا لتحليلات مستنَّدة إلى مذكرات أحد جنرالات “العراق”، فلم يكن “صدام” يُحب الضباط الأكفاء، حتى في الأوقات التي كان وجودهم فيها حيويًا، لكن مع استمرار الحرب، أدرك حاجته إليهم، وكان يستمع إلى نصائحهم في الكثير من الأحيان.
حتى الهيكل الاستخباراتي العراقي تغيّر؛ وأصبح يمتلك أكثر من: (2500) شخص يعملون على إنتاج وتحليل المعلومات عن “إيران”.