كتب نجاح محمد علي : محمد القبانجي أول قارئ مقام عراقي تسجل له اسطوانة، وهو أول من أدخل النهاوند في البيات، ولكنه اليوم يخترع وهو ميت “مقام الوطن” في: “يا واصف الليل وصفك بالمرح ظالم/ نجم المسرة اختفى اشتوصف بعد ظالم/ مُرِّ المذلة فلا نقبل بها ظالم/ يا ربِّ هذي مصر ما يوم شافتْ راح/ وهذا العراق الأبي من دمعه يشرب راح/ هذي ديار العرب (القدس) العز منها راح/ ياربِّ ما تمْ صبر اغضب على الظالم..
في الجمهورية الاسلامية يوجد مخلوق اسمه وزارة الاستخبارات (إطلاعات)، ولديها عدة معتقلات أحدها معتقل (209) وهو زنزانات انفرادية داخل سجن إيفين يقع في قرية إيفين شمال طهران وتعج فيها الغربان بنعيق شؤمها الذي يتصبح به المعتقلون خصوصا مَنْ هم مثلي في الانفرادي.
كنٌا نعتقد في إيران، (أقصد نفسي ومن هو على شاكلتي ممن تضاءل عنده الاحساس بالوطنية حتى الصفر، وذاب في الامام الخميني كما ذاب هو في الاسلام) أن شرطي المرور يرفع يد الله في التقاطعات وعلينا أن نطيعه واجبا (توصّليا) وبعضنا كان يقوم به كعبادة بقصد القربة لله تعالى ليسمو بالنفس، وأن العالم محضر الله ومجلسه، فعليه ألا يعصي الله في مجلسه، فيحصل من طاعة شرطي المرور على (ملكة) تجرُّه إلى معالي الصفات والأخلاق، وتبعده عن الرذائل حالة وعملا.
لكن الإخوان في (إطلاعات) كانوا يعرفون (مقام الوطن) الا إنهم سخروا منٰا لأننا لم ندركه و(علامَ الدهر شتتنه وطَرنه). وكان العراقي في نظرهم جاسوسا مهما علا وارتفع في سماء (الولاية) وذاب في الامام الخميني، وهو يظل (بيـگانه) وإن قاتل مع الباسيج وحراس الثورة واختلط دمه بدمائهم في الجبهة دفاعا عن ( الجمهورية الاسلامية) ضد (جيش صدام اليزيدي الكافر) وهو يشحن نفسه يوميا ضد (الوطنية) باللعن والدعاء عليه بالموت بعد كل صلاة!
لم نكن نحسب للوطن ومقامه حسابا ونحن نرتقي مقام (الولاية) حتى في معتقل (209) ، وأذكر أنني خاطبت مرة جلادي (عرفت في المحكمة أن لقبه صابري) بعد بشرى رأيتها في المنام:
- سأخرج من هذا السجن يوما ولو بعد عشرين سنة، وأعدك بأنني سأكتب ضد جرائم وزارة إطلاعات وسأفضح أساليبكم ودوركم التخريبي، وتأكد أنني كلما طال بقائي هنا، كلما فهمت كم كُنتُ مخطئا لأنني لم أستمع الى (مقام الوطن).
نعم كان سجن إيفين بالنسبة لنا مثلما سماه الامام الخميني بعد سقوط نظام الشاه جامعة، لكنْ لتخريج سفراء بغض وكراهية بعد تعذيب جسدي ونفسي مر، حفرت بعضا منه على حائط زنزانتي رقم (77) في قصيدة أتذكر منها هذا الأمل: وتعودُ أيامُ الصفاءِ ويلتقي خِلٌّ خليلَهْ/ ونعودُ نزهو مشرقين في دوحةِ الحب الجميلهْ.
إيران (ليس كل الإيرانيين) كانت تذلنا بالاعتقال متى شاءت (إطلاعات). وكتبتُ الكثير عن تلك الحقبة وأنا داخل إيران. وحتى بعد سقوط صدام، كتبت متسائلا عمّا إذا كان زمن إذلال العراقيين مضى، وكان جواب (إطلاعات) إلغاء بطاقتي الصحفية وحجز جواز سفري المزور ومنعي من السفر إلا بعد أكثر من شهرين من المعاناة أدت الى فصلي أيضا من قناة أبو ظبي، في ظروف مختلفة عن زمن اعتقالي الطويل في الانفرادي ومحاكمتي في محكمة الثورة بتهم: العمل على تقويض الأمن القومي والتجسس للأجانب (هكذا مفتوحة لأن كل عراقي هو جاسوس) ونشر الأكاذيب. يا جماعة الخير.. إعتقال السيد أحمد القبانجي في إيران (أختلف معه خصوصا في مناقشته الغيب بتقنيات الدنيا) وبعد أن صار للعراقيين ممن أذلتهم (دولة) يثير في نفسي تلك الأحاسيس التي فقدناها عن الوطن، وها أنا اليوم أعود الى مقالي القديم (هل مضى زمن اذلال العراقيين؟)، وأستمع هذه المرة باحساس عميق الى مقام (الوطن) الذي يفتقده “المقاولون السياسيون” ويظل يتغنى به الراحل القبانجي لعله يعيد شيئا من الإحساس بهذا المقام الى الحاكمين في العراق الجديد ممن تدير (إطلاعات) الكثير منهم:
سلامٌ على دارِ السلامِ جزيلُ/ وعُتبى على أنَّ العتابَ طويلُ.. والعاقل يفهم.
مسمار:
لاتشغل فكرك بيها ربك هو يصفيها/ ويعدلها ما يخليها اصبر يا خوي شويه