وكالات – كتابات :
مع كل موجة احتجاجية تمر بها “الجمهورية الإسلامية الإيرانية”؛ خاصةً الاحتجاجات العنيفة التي اندلعت في السنوات القليلة الماضية؛ أو ما بعد احتجاجات “الحركة الخضراء”، نجد الكثير من التحليلات والآراء سواءً داخل “إيران” أو خارجها، على أن هذه الموجة الاحتجاجية ستكون نهاية النظام الديني في “إيران”.
وتختلط التوصيفات لوصف المتظاهرين الإيرانيين، فهناك من يصفهم بأنهم غوغاء يُمارسون الشغب، ومنهم من يرى فيهم قادة انتفاضة شعبية، والبعض الآخر يرون أن احتجاجاتهم مجرد حركة صحوة شعبية فقط؛ بحسب تقرير لصحيفة (ميدل إيست آي) البريطانية.
لا يمكن إنكار أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” تعيش على صفيح ساخن في السنوات الماضية، فقد أدت السياسة الخارجية لـ”إيران” إلى وقوعها تحت ضغط عقوبات قاسية، مما عرَّض حياة الناس إلى الخطر والإنهيار من حين لآخر، كما أن عدم الثقة بين الشعب والحكومة وصل إلى مستويات عالية، بسبب الفساد والقمع وعدم كفاءة المسؤولين، كل هذه الأمور وأكثر زادت من السخط العام الإيراني وأثار احتجاجات واسعة النطاق، كما تناولها تقرير سابق للصحيفة البريطانية.
لكن هذه الاحتجاجات المتزايدة والمستمرة لم تؤدِّ إلى تغيير حقيقي، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، بل على العكس استطاعت “الجمهورية الإسلامية” السيطرة على غضب الناس، على مدار: 30 عامًا على الأقل. والسيطرة هنا لا تعني الاستماع إلى مطالب المحتجين، بل قمعها عن طريق العنف المتزايد والاعتقالات والمحاكمات التي يمكن وصفها بالجائرة. وبرغم عدم توقف هذه الاحتجاجات، لم ينجح أحدها في التحول إلى حركة اجتماعية مؤثرة وقادرة على اقتناص حتى ولو القليل من الإصلاحات الحكومية؛ على حد وصف التقرير البريطاني.
وعلى الرغم من أن الناس في “إيران” لا يتوقفون عن التعبير عن استيائهم من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السيئة، وعلى الرغم أيضًا من انفجار الوضع في كثير من الأحيان؛ مثل ما شهدنا في احتجاجات كانون أول/ديسمبر 2017؛ وتشرين ثان/نوفمبر 2019، وخروج الأمور إلى حيز العنف والشغب، فإنه لا يمكن القول بأن حركة الاحتجاج الإيرانية المستمرة نجحت في تحقيق أي هدف حتى الآن، لذا ترى الصحيفة البريطانية – في تقريرها – عدد من أسباب فشل الحركات الاحتجاجية الإيرانية في تحقيق أهدافها.
01 – لم تتحول أي حركة احتجاجية إلى حركة اجتماعية.. “محلك سر” !
هناك خلاف دائر حول ماهية الاحتجاجات الإيرانية الكبيرة في السنوات الأخيرة؛ وهل هي مجرد مظاهرات نابعة من غضب تُحركه قرارات حكومية أو وضع اقتصادي سييء، أم أنها من الممكن أن تكون الخطوة الأولى في سلم التحول إلى حركة اجتماعية متجددة، يُمكنها مواجهة الحكومة بشكل أقوى.
في هذا الصدد، تقول “مهسا رجب”، أستاذة علم الاجتماع في جامعة “الزهراء”، لـ (ميدل إيست آي): “هناك العديد من الجوانب الرئيسة التي على أساسها يمكن وصف الحركة الاحتجاجية بأنها حركة اجتماعية أم لا”.
وتستكمل السيدة “مهسا رجب” حديثها، قائلة: “الجانب الأول والأهم في هذه الجوانب، هي الهوية، على سبيل المثال كانت الحركات الاحتجاجية الأهم في تاريخ إيران المُعاصر مثل؛ (الحركة الدستورية، الثورة الإسلامية، والحركة الخضراء)، لهم هوية وأهداف محددة”.
على سبيل المثال هنا، “الحركة الخضراء”؛ والتي تُعد من أكبر الحركات الاحتجاجية في تاريخ “إيران” المُعاصر، من بعد “الثورة الإسلامية”؛ في عام 1979، والتي أطاحت الحكم الملكي، كانت الهوية والأهداف محددين، نزل ملايين المتظاهرين الإيرانيين من أبناء الطبقة الوسطى من المثقفين والمتعلمين والناشطين السياسيين إلى الشوارع للاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2009، وكان هدفهم المطالبة بالديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة.
تحدثت السيدة “رجب”، عن جانبين آخرين مهمين لتحول الحركات الاحتجاجية إلى حركة اجتماعية واسعة النطاق، فتقول: “من أجل أن تُصبح الاحتجاجات حركة اجتماعية مؤثرة يجب أن تستهدف هدفًا أو هدفين محددين، على سبيل المثال فى الثورة الإسلامية كانت المظاهرات تستهدف الشاه والحكم الملكي، بالإضافة إلى وجوب وجود مشروع سياسي لحركة الاحتجاج”.
ووفق السيدة “رجب”، فإن المشروع السياسي لحركة الاحتجاج، يجب أن يكون محددًا وتأتي المطالب تدريجيًّا، فتقول: “في الحركة الخضراء على سبيل المثال، كانت المطالب هي إعادة الانتخابات الرئاسية وفقًا لمزاعم المحتجين بالتزوير، هذا هدف محدد، والضغط والاحتجاج من أجله من الممكن أن يجعل الحكومة تخضع له، أي نعم إن هذا لم يتحقق في الحركة الخضراء، لكن هناك أسبابًا أخرى لفشل احتجاجات 2009 في تنفيذ مطالبها”.
يُعلق الصحافي والباحث الاجتماعي الإيراني؛ “غلام رضا سوادكوهي”، على حديث السيدة “رجب”، قائلًا: “بالتأكيد العوامل السابق ذكرها مهمة لتحويل أي حركة احتجاجية إلى حركة اجتماعية قوية، وللأسف هذا لم يوجد في أغلب الحركات الاحتجاجية الإيرانية في الفترة الأخيرة”.
اتسمت الحركات الاحتجاجية الكبيرة في “إيران”؛ بعد عام 2009، أي احتجاجات عامي: 2017 و2019، بأنها عفوية، بدون قيادة محددة، ولا هدف أو هوية، يقول السيد “سوادكوهي”: “احتجاجات عامي: 2017 و2019، كانت دون مشروع سياسي واضح المعالم، كانت قوية ؟.. نعم وعنيفة أيضًا، لكنها كانت مجرد فورة غضب انتهى بالقمع”.
02 – خطاب “خامنئي” التحريضي ضد المتظاهرين.. “اقتلوا أعداء الوطن”..
إنتهت جميع الحركات الاحتجاجية التي اندلعت في “إيران”؛ منذ التسعينيات وحتى الوقت الحالي، بسبب القمع العنيف من قِبل القوات الأمنية وبالتحديد قوات (الحرس الثوري) الإيراني؛ كما يؤكد التقرير البريطاني.
كان للخطاب العنيد والتحريضي للزعيم الأعلى الإيراني؛ آية الله “علي خامنئي”، دور مهم كبير في مواجهة الموجات الاحتجاجية بالمزيد من العنف والقمع، مع كل مظاهرات خرجت في “إيران”؛ منذ التسعينيات، كان آية الله “خامنئي” يُزيد من حدة خطابه الأمني تجاهها، مما انعكس على القوات الأمنية في تعاملها مع هذه المظاهرات.
فى احتجاجات تشرين ثان/نوفمبر 2019، على زيادة أسعار “البنزين”، شهدنا نتاج سنوات طويلة من الخطاب التحريضي؛ لآية الله “علي خامنئي”، تجاه المتظاهرين، من خلال أداء القوات الأمنية في قتل عدد غير مسبوق من المتظاهرين في هذه الاحتجاجات.
في حديثه لـ (ميدل إيست آي)؛ يرى أستاذ التاريخ الاجتماعي الإيراني، والذي فضل إخفاء هويته لأسباب أمنية، أن الزعيم الأعلى لـ”الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، كان مؤيدًا للعنف ضد المتظاهرين بشكل مباشر في كل مناسبة، فيقول: “منذ التسعينيات وحتى المظاهرات الأخيرة العام الحالي، كان النمط السائد فى رد فعل خامنئي على الاحتجاجات، هو التقليل من حجمها والتحقير من شأن المتظاهرين ومطالبهم وتصويرهم على أنهم مجرمون لا يستحقون الرحمة، بل بالعكس لا بد من التعامل معهم بالقوة والعنف”.
هناك أمثلة عديدة من خطابات آية الله “خامنئي”، تؤكد وجهة النظر أعلاه لأستاذ التاريخ الاجتماعي، على سبيل المثال لا الحصر، بعد انتفاضة مدينة “مشهد” الأولى؛ في عام 1992، علق “خامنئي” على هذه الاحتجاجات بأنها من صُنع: “البلطجية وأصحاب الثورة المضادة”، قائلًا: “هؤلاء فئة شريرة من السفاحين يستخدمون السكاكين وهم أقلية صغيرة ويجب على القوات الأمنية أن تتعامل معهم وتقتلعهم من الجذور”. ومن الجدير بالذكر هنا، أن المحتجين الذين خرجوا في مدينة “مشهد”؛ في آيار/مايو 1992، كانوا يتظاهرون ضد قرار الحكومة بهدم منازلهم بحجة أنها مخالفة للقانون.
لم يتوقف آية الله “خامنئي” عند هذا الحد فقط، فوفق المذكرات الشخصية لآية الله “علي أكبر هاشمي رفسنجاني”، الذي كان رئيسًا لـ”الجمهورية الإسلامية” وقت انتفاضة مدينة “مشهد”، قال إن: “خامنئي؛ قد أمر في اليوم التالي من انتفاضة مدينة مشهد، وفي اجتماع لمجلس الوزراء بشن حملة قمع شديدة للمتظاهرين”.
يقول أستاذ التاريخ الاجتماعي المُقيم بـ”طهران”: “عندما تسمع قوات الأمن والحكومة من أعلى رأس في هرم السلطة؛ وهو يصف الناس العاديين الغاضبين بأنهم بلطجية وفاسدون، بالطبع سيمنحهم هذا التوصيف الضوء الأخضر للتورط في قمعها بكل الطرق”.
لم يتوقف آية الله “علي خامنئي”؛ عند التحريض ضد المتظاهرين مع خروج الناس إلى الشوارع في المناسبات المختلفة، بل زادت حدة التحريض في بعض الأحيان، على سبيل المثال في احتجاجات طلاب جامعة “طهران”؛ في عام 1999، بعد أن أمر السلطات الإيرانية بحظر نشر (جريدة سلام) الإصلاحية، قائلًا في رسالة مفتوحة للمسؤولين الحكوميين والأمنيين: “يجب أن يكون أبناء (الباسيج) مستعدين، ويجب أن يقوموا بترهيب أعداء الوطن من خلال وجودهم في أي مناسبة”.
بعد الرسالة السابقة لـ”خامنئي”، قام أفراد من قوات (الباسيج)؛ (وهي قوات مدنية تطوعية غالبية قوامها من الشباب والنساء، وتخضع مباشرة لقيادة آية الله علي خامنئي)، باقتحام السكن الجامعي لطلاب جامعة “طهران” والاشتباك معهم بعنف. بعدها أيد “خامنئي” أفعال قوات (الباسيج) قائلًا إن: “(الباسيج) مع (الحرس الثوري) سحقوا العدو بشكل حاسم”.
استمر خطاب الزعيم الأعلى الإيراني في التحريض ضد المتظاهرين على مر السنوات، بل لجأ إلى حيلة أخرى، لفصل المتظاهرين عن عموم الشعب ووصمه العار، ففي مظاهرات “الحركة الخضراء”؛ عام 2009، اتهم المحتجين بأنهم عملاء لأعداء الوطن الأجانب، وأنهم مرتزقة يتقاضون الأموال لهدم الأمة الإسلامية الإيرانية.
يقول أستاذ التاريخ الاجتماعي المُقيم بـ”طهران”: “إن استمرارية خامنئي في وصف المتظاهرين بأنهم الأشرار والبلطجية، وعملاء لأعداء الوطن الأميركان والإسرائيليين، خلق في الوعي العام لدى الشعب الإيراني بطريقة غير مباشرة، وصمة عار لهؤلاء المتظاهرين، مما أثر في تدفق الاحتجاجات، من خلال محاولة الناس العاديين والغاضبين أيضًا للأسباب نفسها التي دفعت بالآخرين إلى الشوارع، إلى تجنب أن يكونوا جزءًا من المؤامرة على الوطن ولو بخلق الشكوك حول هدف الاحتجاجات”.
03 – المحاكمات الجائرة وحالات الاختفاء القسري.. الرعب للجميع..
كان القمع الأمني المتزايد لأي حركة احتجاجية؛ هو نتيجة مباشرة لخطاب الزعيم الأعلى الإيراني، فيقول الناشط السياسي الإصلاحي، “حسين يوسفي”: “لم تتهاون السلطات الإيرانية في استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، بل طورت من أساليبها، ولم يتوقف استخدام السلطات للعنف أثناء الاحتجاجات فقط، بل امتد إلى ما هو أبعد من ذلك”.
ووفق السيد “يوسفي”؛ فإن الحكم بالسجن على المشاركين في المظاهرات كان سببًا كبيرًا فى تراجع الحركة الاحتجاجية الإيرانية، فيقول: “بعد إنتهاء أي احتجاج في إيران خاصة الاحتجاجات الكبيرة، تواصل الأجهزة الأمنية تتبع المشاركين ومراقبتهم واعتقالهم، وفي مراكز الاعتقال يتعرضون للتعذيب الشديد، ثم الحكم عليهم بالسجن لفترات طويلة وأحيانًا الإعدام، مما جعل أي شخص يُفكر في المشاركة في أي مظاهرة، يُعيد التفكير ألف مرة”.
فعلى سبيل المثال، زادت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية بعد إنتهاء احتجاجات “الحركة الخضراء”؛ في عام 2009، من ملاحقة الناشطين السياسيين والطلاب، وبعد أن وضعت قادة الحركة، “مير حسين موسوي، مهدي كروبي”، قيد الإقامة الجبرية إلى الآن، اعتقلت مئات الآلاف من المشاركين في “الحركة الخضراء”، وبعضهم جرى فصله تمامًا من عمله أو جامعته، والبعض الآخر يقضي عقوبة السجن مدى الحياة.
يقول السيد “يوسفي”: “لي أصدقاء شاركوا فى الحركة الخضراء، وبعد سنوات طويلة من إنتهاء الحركة لم يستطيعوا إيجاد عمل بسبب وضعهم على القوائم السوداء للسلطات الأمنية، وفي الوقت نفسه كانوا ممنوعين من السفر، ما جعلهم يُغادرون إيران بطرق غير مشروعة في محاولة للنجاة من هذا التمييز والقمع”.
في السياق نفسه؛ يرى الصحافي والباحث الاجتماعي؛ “غلام رضا سواد كوهي”، أن التكلفة العالية للمشاركة في الاحتجاجات، كانت عاملًا أساسيًّا ومؤثرًا في إنهيارها، فيقول: “القمع والترهيب والاعتقال ومواجهة خطر السجن والإعدام، أسباب قوية وكافية لانحسار موجات الاحتجاجات، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن نلوم الأشخاص الذين يُفضلون عدم المشاركة في المظاهرات خوفًا من الاعتقال والسجن، التكلفة عالية وتزداد مع مرور السنوات”.
ويرى السيد “سوادكوهي” أن ملاحقة القوات الأمنية للمشاركين في “الحركة الخضراء”، كان واحدًا من أهم أسباب هزيمة هذه الحركة. فيقول: “لم تستطع الحركة الخضراء – متمثلة في أنصارها – مقاومة القمع الشديد للسلطات الأمنية، فانهارت”.
04 – غياب التنظيم والقيادة.. “ثورة بلا قائد محكوم عليها بالفشل” !
يعزو الكثير من الخبراء والمحللين الذين تحدثوا للصحيفة البريطانية، سبب عدم قدرة الحركات الاحتجاجية الإيرانية في السنوات الأخيرة؛ إلى إحداث تغيير جدي، إلى غياب التنظيم والقيادة الموحدة.
وبمناقشة أمر غياب القيادة والتنظيم، فإن احتجاجات “الحركة الخضراء”، في عام 2009، كانت لديها قيادة لكنها فشلت في النهاية، في هذا الصدد يقول أستاذ التاريخ الاجتماعي المُقيم بـ”طهران”، والذي طلب إخفاء هويته: “قادة الحركة الخضراء كانوا أنفسهم غير منظمين، وبلا رؤية محددة تخص مسألة ما بعد الاحتجاجات، كانوا غير متفقين على هدف واضح، وتركوا أنصارهم في الشارع بدون رؤية واضحة، لذلك كان من السهل إنهيار الحركة”.
كما يرى أستاذ التاريخ الاجتماعي، أنه على الرغم من قدرة الاحتجاجات الأخيرة في عامي: 2017 و2019، على حشد أعداد كبيرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فإن غياب القيادة أفقدتها هذه الميزة، فيقول: “الاحتجاجات الأخيرة شارك فيها أعداد كبيرة، لكن ما فائدة هذه الأعداد الكبيرة في ظل غياب التنظيم أو القيادة التي توجهها للخطوة التالية ؟”.
05 – لجوء المتظاهرين إلى الشغب.. “لا تعُض رغيفي”..
باعتبار أن احتجاجات “الحركة الخضراء”؛ عام 2009، كانت من أكبر الحركات الاحتجاجية في تاريخ “إيران”؛ من بعد عام 1979، فإن من أهم ما يُميزها هي السلمية، نذكر أن في ثاني مسيرة من الاحتجاجات، وكانت تُقدر بالملايين، اتفق المشاركون بأن تكون مسيرة صامتة بدون شعارات أو هتافات، فقط السير في الشوارع احتجاجًا على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2009. لكن هذه السلمية لم تمنعها من التعرض للقمع على أيدي قوات الشرطة وقوات (الحرس الثوري) الإيراني.
في الاحتجاجات التي تلت عام 2009، وبالتحديد احتجاجات نهاية عام 2017 وتشرين ثان/نوفمبر 2019، كان مستوى الشغب غير مسبوق، إذ قامت مجموعات من المتظاهرين بإضرام النيران في المباني والمؤسسات الشرطية والحكومية، فقطعوا الطرق، وأحرقوا الممتلكات العامة، بل إن وسائل الإعلام الحكومية تناولت مقاطع فيديو وصورًا، تُظهر بعض المتظاهرين وهم يُطلقون الرصاص الحي على القوات الأمنية.
لا يمكن إنكار أن اللجوء إلى الشغب والعنف في بعض الأحيان من المتظاهرين، هو نتاج سنوات من الإحساس بالظلم، ورزحهم تحت وضع اقتصادي واجتماعي سييء، بالإضافة إلى عدم استماع السلطات الإيرانية إلى مطالبهم أو محاولة الاستجابة ولو لجزء بسيط من هذه المطالب في أي مرة من المرات، لكن في الوقت نفسه، فإن تحول المظاهرات إلى العنف كان نقطة ضعف اسرعت بإنهيارها وساعدت الحكومة في القضاء عليها؛ بحسب مزاعم التقرير البريطاني.
يقول أستاذ التاريخ الاجتماعي: “لجوء المتظاهرين إلى العنف فى السنوات الاخيرة في إيران، منح السلطات الأمنية ذريعة لقمع الاحتجاجات أكثر وأكثر، بحجة أنها تُهدد الأمن والاستقرار”.
توافق أستاذة علم الاجتماع بجامعة الزهراء، “مهسا رجب”، على الكلام السابق، فتقول: “أعمال الشغب التي كانت موجودة في الحركات الاحتجاجية الأخيرة، زادت من خسارة هذه الحركات، فهناك قطاع كبير من الناس في المنازل ممن يملكون أسباب الغضب والاستياء نفسها، عدلوا عن قرارهم بالمشاركة أو حتى التضامن معها، بعد أن سمعوا عن لجوء المتظاهرين إلى العنف”.
على جانب آخر؛ تُفسر السيدة “رجب”، رفض قطاع كبير من الشعب الإيراني لهذا التصعيد العنيف من قبل المتظاهرين، خوفًا من أن أن تصل الأمور إلى وضع سييء، فهم لا يهدفون إلى إسقاط النظام السياسي الحالي كما حدث في بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط، وتقول: “هناك عدد كبير من الناس يُريدون الإصلاحات السياسية والاقتصادية، ولا يُريدون تكرار سيناريو مشابه لما حدث في سوريا على سبيل المثال”، على حد تعبيرها.
06 – المطالب والشعارات المتطرفة.. “الحنين إلى الملكية يقتل”..
مسألة أخرى تُضاف إلى قائمة نقاط ضعف الحركات الاحتجاجية الإيرانية، وهي المطالب والشعارات التي جرى رفعها في السنوات الأخيرة، بداية من احتجاجات؛ نهاية 2017، ووصولًا إلى احتجاجات تشرين ثان/نوفمبر 2019، فقد ردد المتظاهرون شعارات سياسية بالرغم من أن سبب نزولهم إلى الشارع اقتصادي، فعلى سبيل المثال هتف عشرات المتظاهرين لإسقاط “الجمهورية الإسلامية” والحكم الديني، كما ردد آخرون شعارات الحنين للحقبة الملكية وترحموا على الشاه المخلوع، “محمد رضا بهلوي” (!).
يُعلق الصحافي والباحث الاجتماعي؛ “غلام رضا سوادكوهي”، على هذه المسألة، قائلًا: “هذه الشعارات والمطالب التي يرتفع سقفها بشكل متطرف، ليست في مصلحة المتظاهرين، بل تُظهر أنهم غير مُدركين لهدفهم، ولا يملكون هدفًا محددًا يُريدون الوصول إليه من خلال هذه الاحتجاجات”.
ويرى السيد “سوادكوهي”، أنه من أجل نمو واتساع الحركة الاحتجاجية لتُصبح حركة اجتماعية قوية تُحدث تغييرًا أو ثورة، لا بد من التدرج في المطالب وتحديد الأهداف، فيقول: “ترديد شعارات تخص الترحم على أيام الشاه، تُعطي الحكومة الإيرانية حجة قوية بأن المتظاهرين هم أعداء الثورة الإسلامية ومأجورين ومرتزقة بالفعل، كما أنها تنم عن قلة فهم وإدراك لطبيعة النظام الإسلامي في إيران، وتُعطي انطباعًا للجماهير بأن المتظاهرين مجرد غوغاء غاضبين يُريدون دفع البلاد إلى مصير غير معلوم”.
ويقترح السيد “سوادكوهي” أن تكون الحركات الاحتجاجية القادمة أكثر وعيًا بهذه المشكلات، خاصة فيما يخص مسألة التدرج في المطالب وتحديدها، فيقول: “في المستقبل لا بد أن تُصبح الحركات الاحتجاجية أكثر تنظيمًا، وأن تستغل القيادات السياسية الإصلاحية غضب الشارع لصالحها، فتقود هذه المظاهرات وتُحدد أهدافها ومطالبها سواء السياسية أو الاقتصادية بعيدًا عن فكرة هدم النظام بأكمله، على الأقل في الوقت الحالي”.
في النهاية، يختتم التقرير البريطاني: تواجه الحركات الاحتجاجية المستمرة في “إيران” الكثير من المشكلات المتعلقة بالتنظيم وتحديد الأهداف ووجود مشروع سياسي واضح، كما أنها تُعاني من عدم قدرتها على ضم الكثير من طبقات الشعب إليها لتُصبح قوة متماسكة، لكن في الوقت نفسه، فإن استمراريتها، واستمرار وجود أسباب الغضب الجماهيري والاستياء، يُعطي فرصة ذهبية لمنظمات المجتمع المدني؛ (التي تتعرض لأشكال عديدة من القمع الأمني)، والتيارات السياسية الإصلاحية لاستغلال هذه الحركات الاحتجاجية المتفرقة من أجل الضغط على السلطات وانتزاع بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية، فهل تتجمع هذه التيارات وتصطف معًا، ونشهد في قادم الأيام أو السنين، تغييرًا شاملًا في الوضع السياسي الإيراني ؟