وكالات – كتابات :
أشارت وسائل إعلام إيرانية، في 23 تشرين ثان/نوفمبر 2022، إلى عقد رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني ومستشار المرشد؛ “علي خامنئي”، “علي شمخاني”، ورئيس السلطة القضائية؛ “غلام حسين محسني إيجي”، اجتماع مع قيادات “التيار الإصلاحي”، مضيفة أنه جرى خلال هذا الاجتماع تحليل الاحتجاجات الراهنة في “إيران”، كما قدم الأعضاء الإصلاحيون المشاركون توضيحات حول مطالب المتظاهرين والتأكيد على تجنب التعامل العنيف معهم، واقتراحات حول إدارة أفضل للبلاد.
يأتي هذا اللقاء في الوقت الذي تدخل فيه الاحتجاجات؛ التي اندلعت في “إيران”، على إثر وفاة الفتاة؛ “مهسا أميني”، شهرها الرابع على التوالي؛ بحسب ما استهل به التقرير التحليلي الذي أعده ونشره مركز (المستقبل) للأبحاث والدراسات المتقدمة.
دلالات متعددة..
ثمة دلالات على لجوء النظام الإيراني إلى العناصر المحسّوبة على “التيار الإصلاحي”؛ في “إيران”، في خضم تصّاعد حدة الاحتجاجات الحالية، وهو ما يمكن الإشارة إليه على النحو التالي:
01 – استمرار الاحتجاجات..
تُشير المعطيات الحالية إلى تزايد وتيرة الاحتجاجات في “إيران”، على الرغم من ممارسات السلطات القمعية ضدها.
وقد بدا ذلك في عديد من الشواهد، لعل آخرها دخول عمّال قطاع النفط الحيوي في مدن محافظتي: “خوزستان”، و”كهيلويه وبوير أحمد”، بجنوب غرب “إيران”، في إضراب مفتوح عن العمل، منذ 17 كانون أول/ديسمبر 2022، إلى جانب تجدد الدعوات لدخول أصحاب المتاجر وطلاب الجامعات والمدارس في إضراب آخر، على غرار ما جرى في وقت سابق من كانون أول/ديسمبر الجاري، والذي شمل المدن الكبرى في: “طهران وكرج وأصفهان ومشهد وتبريز وسيراز”، وغيرها من مدن شمال وجنوب “إيران”.
يأتي هذا في مقابل؛ مواصلة السلطات الإيرانية استخدام القمع ضد المحتجين، والذي أسّفر عن مقتل المئات واعتقال الآلاف.
وأشار “مجلس الأمن القومي” الإيراني بأن أكثر من مائتي شخص قُتلوا في هذه الاحتجاجات، في حين ذكر قائد القوة الجوفضائية التابعة لـ (الحرس الثوري) الإيراني، العميد “أمير علي حاجي”، أن أكثر من: 300 شخص قد قُتلوا، وهو ما يُدلل على تضارب الروايات الرسّمية حول عدد القتلى، إلا أن منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، ومقرها “النرويج”، قد أفادت في بيان لها نُشر في 29 تشرين ثان/نوفمبر الماضي، بمقتل ما لا يقل عن: 448 شخصًا، منهم: 60 طفلاً، واعتقال ما يزيد على: 15 ألف آخرين.
وبغض النظر عن عدد القتلى الحقيقي، فإن المؤكد أن ذلك لم يُردع المتظاهرين عن مواصلة التظاهر.
لذا فقد سعى النظام إلى التقارب مع “التيار الإصلاحي” المعتدل، وذلك بعدما عمد إلى تهميشه تمامًا من الحياة السياسية في السنوات التالية على “الثورة الخضراء”؛ في 2009، وذلك على أساس أن ذلك الأمر قد يُسّاعده على استيعاب الغضب الشعبي المتنامي ضده.
02 – بحث الخيارات غير القمعية..
لجأ النظام؛ إلى جانب التدابير القمعية السابقة الإشارة إليها، إلى تدابير أخرى بهدف تهدئة الشارع الغاضب، وعلى رأسها، قرار إلغاء “دوريات الإرشاد”، والتي يتهمها المتظاهرون بالتورط في مقتل “أميني”، وبحث تعديل “قانون الحجاب”؛ الذي أُقِر عام 1983، وذلك على الرغم من عدم تأكيد الجهات المسؤولة عن “شرطة الأخلاق” لإلغائها حتى الآن.
ومن جهة أخرى؛ فقد لجأ النظام إلى عائلات الزعامات الدينية والسياسية في “إيران”، إذ تمت الإشارة إلى عقد لقاء سري بين “شمخاني”، وممثلين عن عائلتي مؤسّس النظام الإيراني؛ “الخميني”، والرئيس الإيراني الأسبق؛ “هاشمي رفسنجاني”، بالإضافة إلى الرئيس الأسبق؛ “محمد خاتمي”، في 23 تشرين ثان/نوفمبر الماضي.
وطلب “شمخاني” منهم أن تقوم تلك الرموز بمطالبة المتظاهرين بوقف الاحتجاجات، مقابل تنفيذ بعض مطالب المتظاهرين.
03 – تفادي انتقادات الإصلاحيين..
يسعى النظام من خلال تقاربه مع الرموز الإصلاحية، إلى تجنب انتقاداتهم لممارسات السلطات القمعية بحق المحتجين، ما قد يُسهم في تهدئة الشارع.
وكان “خاتمي” قد أصدر بيانًا، بمناسبة يوم الطالب الجامعي، طالب فيه النظام بألا يُخيّر المواطنين بين الحرية والأمن، واصفًا شعار الاحتجاجات: “المرأة، الحياة، الحرية”، بأنه: “رائع”.
هذا إلى جانب انتقاد رئيس البرلمان الإيراني الأسبق وأحد قادة تظاهرات “الحركة الخضراء” في 2009؛ “مهدي كروبي”، والخاضع للإقامة الجبرية منذ ذلك العام، إعدام السلطات الإيرانية لأحد المتظاهرين، منددًا بتعامل المرشد الأعلى مع كل موجة احتجاجية بأنها مؤامرة من الخارج تمهيدًا لقمعها.
ودعا رئيس الوزراء الأسبق وأحد أقطاب المعارضة الإيرانية؛ “مير حسين موسوي”، والخاضع للإقامة الجبرية أيضًا، مطلع تشرين أول/أكتوبر الماضي، القوات المسّلحة للوقوف على جانب الحقيقة والشعب.
ومن جهة أخرى؛ تلقى النظام الإيراني انتقادات لاذعة أيضًا من جانب أبناء وبنات مؤسسّيه، فقد أعربت؛ “فائزة رفسنجاني”، عن تضامنها مع الاحتجاجات، منتقدة تعامل السلطات العنيف مع المتظاهرين، الأمر الذي أسفر عن اعتقالها بتهم: “التواطؤ والإخلال بالنظام العام والدعاية ضد الجمهورية الإسلامية”، هذا إلى جانب؛ “فريدة مرادخاني”، ابنة شقيقة المرشد الأعلى الحالي، والتي خرجت في مقطع فيديو وصفت فيه النظام بأنه: “مجرم وقاتل للأطفال”، وقد تم إلقاء القبض عليها على إثر ذلك.
04 – مواجهة الضغوط الخارجية..
لا ينفصل لجوء النظام للعناصر الإصلاحية عن تزايد حدة الضغوط عليه من الخارج، إذ فرضت مؤخرًا “الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بريطانيا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا”، عقوبات على مسؤولي قمع الاحتجاجات داخل النظام الإيراني.
كما تبنى “المجلس الاقتصادي والاجتماعي”؛ التابع لـ”الأمم المتحدة”، قرارًا بطرد “إيران” من “لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق المرأة”، في 14 كانون أول/ديسمبر 2022.
ويسعى النظام الإيراني، من خلال فتح قنوات تواصل مع الإصلاحيين إلى تخفيف الضغوط الخارجية عنه، بالظهور بمظهر النظامي السّاعي للانفتاح على المعارضة، والتجاوب مع بعض مطالب المحتجين.
عقبات قائمة..
على الرغم من اتجاه النظام لفتح قنوات تواصل مع الإصلاحيين بهدف تهدئة الاحتجاجات، فإن هناك جملة من العقبات التي تحّول دون تحقيق ذلك، يتمثل أبرزها في التالي:
01 – رفض النظام مطالب الإصلاحيين..
على الرغم من تعدد اللقاءات التي عقدها قادة النظام في “إيران” مع رموز المعارضة من الإصلاحيين والمعتدلين، وعائلات الزعامات الدينية والسياسية، فإن أيًا من هذه الاجتماعات لم يُسّفر عن أي اتفاق يشي بأن النظام جاد في سعيه لإبداء مرونة تجاه مطالب المحتجين.
وفي هذا السياق؛ يمكن الإشارة إلى لقاء وزير الداخلية الإيراني؛ “أحمد وحيدي”، مع قادة الإصلاحيين في منتصف تشرين أول/أكتوبر 2022، والذين تقدموا خلالها بلائحة مطالب تتضمن إقالة ومحاكمة جميع المتسّببين في وفاة؛ “مهسا أميني”، واستقالة وزير الداخلية وكل المسؤولين عن قمع المتظاهرين، والإفراج عن المعتقلين، وإلغاء جميع قيود الإنترنت، وإعلان حل “شرطة الأخلاق”، وإجراء استفتاء على تنفيذ المادة (177) من الدستور، والتي تسّمح بتعديل الدستور كليًا أو جزئيًا.
وقابل النظام هذه المطالب بالرفض، خاصة النقطة المتعلقة بالاستفتاء على الدستور. فقد صرّح إمام أهل السُنة في “زاهدان”، عاصمة محافظة سيستان بلوشيستان؛ “مولوي عبدالحميد”، بأنه إذا أرادت القيادة الإيرانية التأكيد على شّرعيتها من الشعب، فعليها إجراء استفتاء على الدستور، باعتبار ذلك هو الحل غير العنيف لتجاوز الأزمة الراهنة، إلا أن النظام قد رفض ذلك على لسان الرئيس؛ “إبراهيم رئيسي”، ورئيس مجلس الشورى؛ “باقر قاليباف”، واللذين أكدا أنه لا يمكن المسّاس بالدستور، خاصة مبدأ الحكومة الإسلامية الذي يدعو المحتجون إلى إلغائه.
02 – انقسام “التيار الأصولي”..
ثمة انقسام في “التيار الأصولي” في التعامل مع “التيار الإصلاحي”. ففي حين يرى فريق أن إحياء الإصلاحيين يُعد متنفسًا مهمًا للنظام إزاء الضغوط المفروضة عليه بسبب الاحتجاجات، يتمسك فريق آخر بوصف الإصلاحيين: بـ”الطغاة”، مقترحين استجوابهم ومسّاءلتهم حول طرحهم فيما يتعلق؛ بمهسا أميني، مؤكدين أن أي تنازل للمحتجين، هو بداية النهاية للنظام الحالي، على اعتبار أنه سيؤدي إلى مطالبة المتظاهرين بتنازلات إضافية، والتي قد تصل إلى إسقاط النظام، على غرار ما حدث في “ثورة 1979″، والتي شارك فيها أغلب أنصار ذلك الاتجاه.
وانعكس الانقسام السابق على الصحف الإيرانية، ففي حين رحبت صحيفة (صبح صادق)؛ التابعة لـ (الحرس الثوري)، بمواقف “خاتمي” من التطورات الأخيرة، مطالبة إياه بلعب دور إيجابي في هذه الأزمة، فإن صحيفة (كيهان)، والتي يُعين رئيس تحريرها المرشد الأعلى، وجهت انتقادات حادة لـ”خاتمي”، متهمة إياه بالعمل على حساب الأمن القومي.
03 – تجاوز الشارع للنظام..
تُشير المعطيات الحالية إلى تجاوز الشارع الإيراني للحكومة والمعارضة على حدٍ سواء، إذ ارتفع سقف مطالب المحتجين إلى تغيير النظام برمته، وليس مجرد إجراء بعض التعديلات على الشكل العام للنظام، وهو ما بدا في شعارات المتظاهرين، والذين هتفوا: “الموت للديكتاتور”، “يسقط النظام” “ارحل يا خامنئي ورئيسي” وغيرها.
ولعل ما يُفسّر ذلك هو ظهور جيل جديد من الإيرانيين، منفصل بشكلٍ كامل، عن “ثورة 1979” ومبادئها، ومتطلع لنمط حياة أكثر انفتاحًا للحياة، ويرى أن محاولات الإصلاح السابقة التي جرت للنظام، لم تسّفر عن شيء، لذا فقد صعّد من مطالبه برفض حكم رجال الدين، والمطالبة بتغيير النظام برمته.
وفي التقدير يمكن القول إن لجوء النظام إلى “التيار الإصلاحي” والمعتدل، لا يُشير على الأرجح إلى تغيّر في التوجه المتشدد للنظام، بقدر ما يُشير إلى إدراكه حجم المأزق الذي يواجهه بسبب الاحتجاجات الراهنة، باعتبار ذلك أحد التكتيكات التي يستخدمها النظام لاستيعاب الغضب الشعبي، والمناورة لكسب مزيد من الوقت لتفادي الضغوط المتزايدة عليه داخليًا وخارجيًا، الأمر الذي يُرجح استمرار حالة الاحتقان في الداخل الإيراني، في ظل تمسك النظام بعدم المسّاس بالثوابت التي اندلعت الاحتجاجات على أثرها، في مقابل مطالبة المحتجين بتغيير النظام ككل، وعدم الاكتفاء بإجراء إصلاحات فارغة المضمون.